أصبحت الحياة صعبة.. الدنيا سوداء للغاية.. وكافة الأمور معقّدة.. لم يعد هناك خير في هذه الحياة.. كم من المرات سمعنا مثل هذه الأقاويل وأكثر، تعبيراً عن صعوبة الحياة التي أصبحنا نعيشها، الكل يشكو، والكل يشعر أن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، وأن الحياة في تدهور مستمر. بل وخرج تقرير التنمية الإدارية الأخير ليقول ببساطة إننا بالفعل نتغيّر للأسوأ، وأن الحياة تتحوّل من أسود إلى عميق السواد.. حيث أكد التقرير أن "المجتمع المصري يتغيّر إلى الأسوأ، سواء على مستوى المواطنين وأخلاقهم أو على مستوى أداء المؤسسات الحكومية، وارتفاع معدلات الفساد بها". تناول التقرير عدة محاور رئيسية؛ مثل: الفساد، والتغيّر الأخلاقي للأسوأ، وغياب النزاهة، وعدم الإيجابية، وشعور المواطنين بالظلم، وفي كل نقطة من هذه النقاط جاءت النتائج مُحبطة للغاية تدعو إلى مزيد من التشاؤم. ولكن هذا يدفعنا لأن نتساءل ولو لثوانٍ بسيطة: ألا يوجد شيء حولنا يبثّ بداخلنا بعض الأمل.. شيء حولنا جميل، خَيّر، نقيّ؟! هل كوب الحياة فارغ بالفعل.. أم إننا فقط نريد أن ننظر لنصفه الفارغ متجاهلين النصف الممتلئ؟!! لذا قررنا أن نقوم بجولة واسعة بين الشباب، لنستكشف.. هل يشعر الشباب بأن هناك أملاً، هل يجدون مواقف من حولهم في الحياة العامة أو في حياتهم الخاصة تستحق أن يتوقفوا قليلاً ليقولوا.. "لسه الدُنيا بخير".. رزان محمد (24 عاماً) استغرقت فترة في التفكير عندما طلبنا منها أن تذكر لنا موقفاً شعرت معه أن الدنيا لسه بخير، ولكن فجأة اندفعت حاكية: "كنت أركب الميكروباص وصعد إليه مُجنّد ريفي بسيط، وعند تجميع الأجرة، أخذ المجند يبحث داخل جيوبه، بلا فائدة، كان ظاهراً على الشاب أكبر آيات الفزع، وقد ضاعت حافظته، وتجمّعت الدموع داخل عينيه قهراً وخوفاً، وهنا أجمع الركاب بلا اتفاق مسبق على تهدئته، ودفع له أحدهم الأجرة، وجمع له الباقون مبلغاً؛ ليستطيع العودة إلى بلده، وقتها شعرت أن داخلنا ربما ما زال بخير وأن هناك أملاً". شهيرة محروس (40 عاماً) ما إن وجّهنا لها سؤالنا حتى اندفعت قائلة: "أنتم ولاد حلال، كنت أفكّر في هذا الأمر أمس، وأنا أسمع عن خبر الضابط الذي وجد الأب المرتعب على طفله؛ لأنه بحاجة لنقل دم، فبدلاً من أن يُحرر مخالفة للأب، اتجه معه للمستشفى ليتبرّع بدمه للطفل المريض، وقت أن سمعت هذه الحكاية شعرت أن هناك أناساً في الحياة ما زالوا يمتلكون القدرة على التعاطف وعلى الفِعل السليم". كنزي عبد اللطيف (28 عاماً) قالت: "ربما يبدو الموقف بسيطاً، ولكنني شعرت معه بما تقولينه، كنت قد اشتريت كتاباً من معرض الكتاب وعند العودة وجدت أن صفحات عديدة بالكتاب فارغة، والكتاب سعره مرتفع، لذا توجّهت إلى دار النشر، وأخبرتهم، ولكنهم أخبروني بعدم وجود نسخ متوفّرة، وأخذوا عنواني وأخبروني بأنهم سيُرسلون لي نسخة جديدة بمجرد توافرها، الحقيقة أنني كنت متأكدة من عدم حدوث ذلك، ففي مصر لا معنى لإعادة سلعة تالفة، أو تعويض عن موقف خاطئ، أو أي من هذه المواقف المتحضّرة، ولكني فوجئت بعد عدة أيام بمندوب توصيل يحمل لي كتاباً جديداً مجاناً، وقتها بصراحة أعدت التفكير، وقلت ربما هناك أمور جيدة حولنا ولكننا لا نراها". أما منى محمد (50 عاماً) فقد طلبت مهلة للتفكير، وعندما عادت، قالت: "الحقيقة أن التفكير في موقف عام أمر صعب؛ فللأسف معظم المواقف العامة لا تدعو للتفاؤل، ولكن هناك مواقف خاصة تحدث، إن داخلنا جيّد، ولكننا فقط نحتاج إلى تعديل المسار، فمنذ عدة أشهر سَقطت في الشارع وخُلِع كتفي، وهنا وجدت سائق تاكسي يوقف عربته، ويخرج منها ليساعدني على الركوب، ويوصلني إلى منزلي بل ويساعدني في الصعود حتى مدخل البيت، وعندما حاولت أن أعطيه مقابل ما فعل، رفض تماماً، بل ولم يقبل أن يأخذ حتى أجرة التوصيل، جعلني هذا الموقف أعيد التفكير كثيراً في آرائي حول الناس". عبد الباسط أحمد منصور (48 عاماً) لم يفكر كثيراً، وهو يقول: "سمعت من فترة عن الرجل المسلم الذي سقط في البالوعة، فحاول إنقاذه 3 أشخاص مسيحيين، وتمكّنوا من إنقاذه، ولكنهم غرقوا للأسف، وقتها فكرت ليس فقط في فكرة أن هؤلاء بشر ضحوا بحياتهم لينقذوا إنساناً آخر، بل إنه بالتأكيد في هذه اللحظة، لم يفكر هؤلاء بكل الحوارات المثارة حول مسلم ومسيحي ومثل هذا الكلام، لقد وجدوا إنساناً مصرياً يحتاج مساعدة، فساعدوه ببساطة وبدون تعقيد، وشعرت أن هذا هو معدن المصري الحقيقي". "ع.أ.ج" (27 عاماً) رفض ذكر اسمه كاملاً حيث قال إنه يفضل ذلك طالما سيحكي لنا هذا الموقف ثم أردف: "أنا موظف بأحد البنوك، فوجئت منذ فترة بأن أحد العملاء المتعاملين مع البنك جاء إليّ يحمل ورقتي عملة مزوّرتين، وصلت له عن طريق سحب قام به، وأنا مَن أعطاه هذا السحب، شعرت هنا أن الدنيا قد انطبقت فوق رأسي، فعدم ملاحظتي لذلك كفيلة بخراب بيتي وربما ضياع عملي، وعندما لاحظ الرجل ذلك، أخبرته بالمشكلة، وأخذت منه المبلغ استعداداً لمعركة أعرف أنها خاسرة، ولكني فوجئت بالرجل يسحب العملتين، ويُخبرني أنه سيتحملهما كي لا يُسبب لي مشاكل، فقط عليّ مراجعة ما لديّ، والتبليغ عن الحالة كي لا تتكرر، فلا تتم مجازاتي، وقد كان، هذا الرجل تحمّل ضياع هذا المبلغ المالي كي لا يوقعني في مشكلة، وكل هذا بلا سابق معرفة، عندها فعلاً شعرت أن الدنيا لسه بخير". "حسين م. م" (22 عاما) أيضًا رفض ذكر اسمه بالكامل، وقال: "لا أريد أن أقع في مشكلة ما، فأنا أعمل بإحدى الصيدليات، وكنت قد تغيّبت عدة أيام لظروف طارئة، وعندما عُدت، فوجئت بدخول رجل كبير يخبرني أنه حضر أكثر من مرة ليراني، وعرفت أنني قد بعت له دواء منذ عدة أيام ولكني أعطيته علبة دواء كاملة، وقد طلب هو شريطاً واحداً، وحاسب على شريط واحد، وعندما عاد ووجد الزيادة قرر العودة وإرجاعهم، ولكنه لم يجد سوى صاحب الصيدلية، فخاف أن يعيدهم له، فيسبب لي مشكلة بأن يتهمني الرجل بالإهمال، لذا انتظر حتى عُدت، وأعاد لي الزيادة، وبصراحة أنا اندهشت؛ فالرجل ليس فقط أميناً أرجع الشرائط التي لم ينتبه أحد لضياعها، بل أيضاً لديه حس أخلاقي جعله يرفض أن يسبب لي مشاكل، بصراحة هذا الرجل أعطاني درساً في التعامل الإنساني، وجعلني أشعر أن الحياة ليست بهذا السوء". مع حسين تنتهي مقابلاتنا، ولكن يبقى التساؤل مطروحاً، فكل من توجهنا لهم بالسؤال، وجد لديه موقفاً ما.. موقف جيد يدل على أن صاحبه ما زال يتعامل بقيم وأخلاق ظننا أنها لم تعد موجودة، ومعنى هذا ببساطة أنه ما زال هناك تعاطف، وود وخير، وقيم أخلاقية حقيقية تحت السطح، قد يكون الركام الصاعد حجبها عن الرؤية، لكنها موجودة لو حاولنا التنقيب عنه، موجود ليقول إنه "لسه الدُنيا بخير"، فقط نحن نحتاج كما قيل لتعديل مسار كي يكون هذا الخير هو السطح الظاهر.