خلينا نحسبها: مصر تخوض اليوم حربا.. حرب تفوق في أهميتها وخطورتها حرب أكتوبر 1973.. فالحرب هذه المرة ليست ضد عدو خارجي.. وليست ضد احتلال واضح.. وليست مع قوات أجنبية.. إنها حرب مع عقول.. مع مفاهيم.. مع الجهل .. والتعنّت.. والتطرّف.. والأخطر هو أنها حرب مع ما يؤدّي إليه كل ما سبق.. الإرهاب.. وهناك ما يُدهشني للغاية في هذه الحرب.. فالخصم هذه المرة يصرخ بأنه يحارب من أجل الشرعية.. ومن أجل الدين!! دين الإسلام الذي أدين به وأتّبع تعاليمه وأؤدّي كل فروضه.. وأمّا الشرعية القانونية، وعندما نتحدّث بالقانون والنظم الدولية التي تحكم المجتمعات الحديثة؛ فلها مفهوم أساسي.. إنها ليست نتائج الصناديق، كما يتصوّرون.. إنها أسلوب حكم.. واحترام للشعب والقانون والدستور.. وبغضّ النظر عن قناعاتك الشخصية بشأن القانون والدستور؛ فالشعب عندما اختار رئيسا، لم يكن هذا الاختيار عبارة عن شيك على بياض، يسلّمه الشعب للحاكم، متنازلا به عن كل حقوقه التي كافح العديد من المحتلين وقام بثورة عظيمة لنيلها.. وبغضّ النظر عن قناعات الرئيس نفسه في هذا الشأن، وعن احترامه للقانون أو الدستور؛ فقد اختاره الشعب بناءً على قَسَم أقسمه أمام المحكمة الدستورية، وشهدت عليه مصر كلها، باحترام القانون والدستور.. الشرعية إذن لم تكن بلا قيود.. لقد كانت شرعية مشروطة.. مشروطة باحترام القانون.. والدستور.. ونحن هنا أمام حالة من اثنين، لا ثالث لهما.. إمّا أن الرئيس قد أقسم ذلك القسم، وهو ينوي أن يبر به.. أو أنه أقسم، وليس في نيّته أن يبر به.. والقسم ليس مجرّد قسم في الحالتين.. إنه عقد.. عقد بين الحاكم والمحكوم.. عقد يقرّ فيه الطرف الأول (وهو الرئيس)، باحترام القانون والدستور، ويقبل فيه الطرف الثاني (وهو الشعب) أن يضع مَن أقسم في مقعد الحكم.. ولكن أوّل قرار اتخذه الرئيس، كان بإهدار القانون.. وبتجاوز حكم قضائي نهائي صادر عن أعلى جهة قضائية في البلاد.. المحكمة الدستورية العليا.. ووفقا للقانون المدني العادي؛ فقد خالف الرئيس بنود التعاقد، بينه وبين الشعب، مع أوّل قرار يتخذه.. لم يحترم القانون.. ولم يخضع للدستور.. فماذا يحدث -في أي تعاقد في الدنيا- عندما يخلّ أحد طرفي التعاقد بالشرط الأساسي الذي به تمّ توقيع الطرف الثاني على العقد؟! في هذه الحالة، يتمّ فسخ العقد لعدم التزام أحد الطرفين ببند أساسي من بنوده.. وفي حالتنا هذه، يعدّ فسخ العقد سقوطا لشرعية الرئيس.. ولم يقتصر الأمر على هذا.. لقد واصل الرئيس، وواصلت الرياسة حربها على القانون.. وعلى القضاة.. وحتى على المحكمة الدستورية العليا.. وفي كل مرة، كانت مؤسسة الرياسة تتعدّى فيها على القانون والدستور، كانت شرعية الرئيس تسقط.. وتسقط.. وتسقط.. وعندما وقّع طلب عزل الرئيس عدد يفوق مَن صوّتوا في أي انتخابات، في تاريخ مصر كلها.. وعندما خرج اثنان وثلاثون مليون مصري، يُطالبونه بالرحيل.. عند هذا، سقطت شرعية الرئيس.. تماما.. القتال من أجل الشرعية إذن ليس قتالا منطقيا.. أو لا يستند إلى سند حق يقي فعليا.. يتبقّى أمامنا القتال من أجل الدين.. والسؤال هو: القتال ضد مَن؟! ضد مَن يتبعون الدين أيضا؟! نفس الدين.. ونفس العقيدة.. ربما تختلف الرؤى، حول ما ينبغي أو يتحتّم على المسلم اتّباعه.. ولكن هذا لا ينفي أنه مسلم.. وأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.. فبأي حق تقاتله إذن؟! أتحاول إكراهه على دين، استنكر رب العزة، ذو الجلال والإكرام، في كتابه العزيز أن تُكره الناس عليه؟! أم إنك لا تؤمن بما أمر به الله عز وجل، مِن أن يكون سبيل الدعوة إلى دينه سبحانه وتعالى هو الحكمة والموعظة الحسنة؟! ولاحظ الترتيب في الآية الكريمة.. الحكمة أولا.. ثمّ الموعظة الحسنة.. وهذا فيما يخصّ دعوة الكفّار والملحدين وعبدة النار والشيطان إلى دينه جلّ جلاله.. فما بالك بالتعامل مع مَن يدينون بالفعل بهذا الدين؟! إذا كنت ستدعو الكفار إليه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فالأجدى أن تكون الحكمة والموعظة الحسنة هما السبيل إلى التعامل معهم.. والسؤال هو: أين تكمن الحكمة؟! لقد قرأت تاريخ الإسلام كله.. قرأت عن أزمنة ارتفعت فيها رايته، على مساحة واسعة من العالم.. وقرأت عن أزمنة أخرى، خسر فيها ما فتحه من بلدان، ولكنه ربح مؤمنين أكثر بكثير.. الفارق كان في أسلوب التعامل.. عندما كان المسلمون يدعون إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يسعون لإكراه أحد على اتّباع ما يؤمنون به، ارتفعت رايتهم في البلاد.. وعندما تسلّلت إليهم مفاهيم القمع والاستبداد والإكراه، خسروا كل ما حصلوا عليه.. ولكنْ التجّار المسلمون جابوا البلاد من شرقها إلى غربها.. جابوها بأمانتهم، وحُسن معاملاتهم، وهدوء نفسهم، وحكمتهم، وموعظتهم الحسنة.. ودخل الناس في دين الله عز وجل أفواجا.. السبيل إذن ليس هو السلاح والغضب والدم.. وليس حتى مقعد الحكم.. فالإسلام ربح، وهم خارج الحكم، أضعاف ما ربح وهم داخله.. الأمر إذن يكمن فيما أمر به العزيز الحكيم.. في الحكمة والموعظة الحسنة.. وحتى دون حكم.. يا ليت كل مَن يُقاتلون يخضعون إلى ما أمر به المعزّ المذلّ المنتقم الجبار، ويسعون إلى ربح الناس، بدلا من محاربتهم وخسارتهم.. ولو أرادوا الدين فعلا لما أراقوا دماء مَن يدينون به.. ولانتهت الحرب.. واحسبوها أنتم.. بحكمة وموعظة حسنة،،،