أسعار الذهب اليوم الأربعاء 20 أغسطس في بداية التعاملات    أسعار الأسماك والخضروات والدواجن الأربعاء 20 أغسطس    الرهائن ال20 والإعمار، ويتكوف يكشف وصفة إنهاء حرب غزة    شهداء وجرحى جراء في غارات إسرائيلية متواصلة على خان يونس    "تفوق أبيض وزيزو الهداف".. تاريخ مواجهات الزمالك ومودرن سبورت قبل مباراة الدوري    نجم الزمالك ينعى محمد الشناوي في وفاة والده    الكشف عن طاقم تحكيم مباراة الزمالك ومودرن سبورت بالدوري    البيت الأبيض يُطلق حسابًا رسميًا على "تيك توك".. وترامب: "أنا صوتكم لقد عدنا يا أمريكا"    مواعيد صرف مرتبات شهر أغسطس 2025 والحد الأدنى للأجور.. احسب مرتبك    د.حماد عبدالله يكتب: كفانا غطرسة.. وغباء !!    صعبة وربنا يمنحني القوة، كاظم الساهر يعلن مفاجآت للجمهور قبل حفله بالسعودية (فيديو)    حمزة نمرة عن أحمد عدوية: أستاذي وبروفايل مصري زي الدهب»    لأول مرة .. برج المملكة يحمل أفيش فيلم درويش    المناعة الذاتية بوابة الشغف والتوازن    محاكمة المتهم بابتزاز الفنان طارق ريحان اليوم    مجلس القضاء الأعلى يقر الجزء الأول من الحركة القضائية    10 صور ترصد استعدادات قرية السلامية بقنا للاحتفال بمولد العذراء    تبكير موعد استدعاء 60 ألف جندي احتياطي إسرائيلي لاحتلال غزة    31 مليون جنيه مصري.. سعر ومواصفات ساعة صلاح في حفل الأفضل بالدوري الإنجليزي    6 رسائل مهمة من مدبولي أمام مجلس الأعمال المصري الياباني بطوكيو    موعد امتحان الصف التاسع 2025 التعويضي في سوريا.. وزارة التربية والتعليم السورية تعلن    موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 ونتيجة تقليل الاغتراب (رابط)    تنسيق الثانوية العامة 2025.. كليات المرحلة الثالثة من 50% أدبي    فلكيا.. موعد المولد النبوي الشريف 2025 في مصر وعدد أيام الإجازة الرسمية للموظفين والبنوك    خلال بحثه عن طعام لطفلته.. استشهاد محمد شعلان لاعب منتخب السلة الفلسطيني    بعد موافقة حماس على وقف اطلاق النار .. تصعيد صهيوني فى قطاع غزة ومنظمة العفو تتهم الاحتلال يتنفيذ سياسة تجويع متعمد    حسام المندوه: بيع «وحدت أكتوبر» قانوني.. والأرض تحدد مصير النادي    مصدر أمني ينفي تداول مكالمة إباحية لشخص يدعي أنه مساعد وزير الداخلية    نبيل الكوكي: التعادل أمام بيراميدز نتيجة مقبولة.. والروح القتالية سر عودة المصري    محافظ شمال سيناء يلتقى رئيس جامعة العريش    ترامب يترقب لقاء بوتين وزيلينسكي: «أريد أن أرى ما سيحدث»    مصطفى قمر يهنئ عمرو دياب بألبومه الجديد: هعملك أغنية مخصوص    الإليزيه: ربط الاعتراف بفلسطين بمعاداة السامية مغالطة خطيرة    جولة ميدانية لنائب محافظ قنا لمتابعة انتظام عمل الوحدات الصحية    في أقل من 6 ساعات، مباحث الغربية تضبط سائق شاحنة دهس طفلا وهرب بقرية الناصرية    أكلة لذيذة واقتصادية، طريقة عمل كفتة الأرز    بالزغاريد والدموع.. والدة شيماء جمال تعلن موعد العزاء.. وتؤكد: ربنا رجعلها حقها    المقاولون يهنئ محمد صلاح بعد فوزه بجائزة أفضل لاعب فى الدوري الإنجليزي    1 سبتمر.. اختبار حاصلى الثانوية العامة السعودية للالتحاق بالجامعات الحكومية    أحمد العجوز: لن نصمت عن الأخطاء التحكيمية التي أضرتنا    مصرع والد محمد الشناوي .. القصة الكاملة من طريق الواحات إلى كفر الشيخ    رئيس وكالة «جايكا» اليابانية مع انعقاد قمة «التيكاد»: إفريقيا ذات تنوع وفرص غير عادية    شاهد.. رد فعل فتاة في أمريكا تتذوق طعم «العيش البلدي المصري» لأول مرة    بعيدًا عن الشائعات.. محمود سعد يطمئن جمهور أنغام على حالتها الصحية    هشام يكن: أنا أول من ضم محمد صلاح لمنتخب مصر لأنه لاعب كبير    تخريج دفعة جديدة من دبلومة العلوم اللاهوتية والكنسية بإكليريكية الإسكندرية بيد قداسة البابا    «مصنوعة خصيصًا لها».. هدية فاخرة ل«الدكتورة يومي» من زوجها الملياردير تثير تفاعلًا (فيديو)    حملة مسائية بحي عتاقة لإزالة الإشغالات وفتح السيولة المرورية بشوارع السويس.. صور    السيطرة على حريق بأسطح منازل بمدينة الأقصر وإصابة 6 مواطنين باختناقات طفيفة    رسميا الآن بعد الارتفاع.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 20 أغسطس 2025    حدث بالفن| سرقة فنانة ورقص منى زكي وأحمد حلمي وتعليق دينا الشربيني على توقف فيلمها مع كريم محمود عبدالعزيز    تحتوي على مواد مسرطنة، خبيرة تغذية تكشف أضرار النودلز (فيديو)    تعدّى على أبيه دفاعاً عن أمه.. والأم تسأل عن الحكم وأمين الفتوى يرد    هل الكلام أثناء الوضوء يبطله؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف تعرف أن الله يحبك؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    أمين الفتوى ل الستات مايعرفوش يكدبوا: لا توجد صداقة بين الرجل والمرأة.. فيديو    الشيخ خالد الجندى: افعلوا هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله    بالصور- افتتاح مقر التأمين الصحي بواحة بلاط في الوادي الجديد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مي زيادة وصالونها الأدبي
نشر في صوت البلد يوم 08 - 02 - 2018

وجدت دعوة الإمام محمد عبده وتلميذه قاسم أمين وغيرهما من المصلحين آذانا صاغية في المجتمع العربي، وهو يدب نحو الرقي ويسعى نحو النهضة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وفحوى تلك الدعوة أن لا رقي ولا نهضة بغير إصلاح وضع المرأة التي هي نصف المجتمع، وإصلاح وضعها يعني القضاء على عهد الحريم وإتاحة الفرصة للمرأة بأن تتعلم وتنال كامل حقوقها التي أعطاها إياها الشرع والفلسفة الوضعية الإنسانية، تلك الدعوة المباركة التي صدع بها شعراء العربية الكبار مزكين إياها مباركين مضمونها وعلى رأس الشعراء أمير الشعراء أحمد شوقي:
وإذا النساء نشأن في أمية ** رضع الرجال جهالة وخمولا
وحافظ إبراهيم الذي صدع بقصيدته في فضل تربية النساء:
من لي بتربية النساء فإنها ** في الشرق علة ذلك الإخفاقِ؟
الأم مدرسة إذا أعددتها ** أعددت شعبا طيب الأعراقِ
وهكذا دخلت المرأة قاعات الدرس وأسفرت بعضهن إمعانا في الدفاع عن كرامتهن وتعبيرا عن مساواتهن بالرجل، فالمرأة ليست كائنا جنسيا وظيفته إمتاع الرجل وإنجاب الأولاد بل إنسانا حيا فاعلا خلاقا، وليست موضوعا غزليا يتغنى بالقد المياس والعين النجلاء والخد الأسيل فقط.
وقد أثمرت هذه الدعوة المباركة ثمارا طيبة تجلت في ظهور نساء وقفن ندا للرجل في السياسة والفكر والفن والأدب وكان منهن لبيبة هاشم وملك حفني ناصف وعائشة التيمورية وهدى شعراوي ومي زيادة وصولا إلى مفيدة عبدالرحمن وعائشة عبدالرحمن ونعمات فؤاد وفدوى طوقان ونازك الملائكة وسهير القلماوي وغيرهن.
ولا ريب أن الآنسة مي زيادة كانت أكثرهن شهرة وشغلا للرأي العام وإثارة لطبقة المثقفين ورجال السياسة والأدب، فقد جمعت بين جمال الروح والجسد في تناغم عجيب، وألمت بالثقافة العربية والغربية إلماما مدهشا. كما أتقنت اللغات الأجنبية وفضلا عن ذلك كان جمالها الروحي والجسدي مغريا للأدباء بحبها والتعلق بها وقد اشتهر بحبها مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران الذي عرفها عن بعد وهو في المهجر الأميركي واقتصرت العلاقة بينهما على تبادل الرسائل.
ولا شك أن صالونها الأدبي الذي كان يجتمع فيه كبار مثقفي العصر، زادها شهرة وتقديرا فالصالون الأدبي فكرة غربية محضة اشتهرت بها بعض كاتبات الغرب فضلا عن كتابه وإنشائه وترسيخه في المجتمع العربي الخارج لتوه من عصر الظلمات فكرة خلاقة مدهشة تؤكد أن المرأة ليست مجرد وجه جميل ورحم ولود، هذا الصالون الذي أنشأته الآنسة مي زيادة زاد في شهرتها وفي تقدير المجتمع لها، خاصة طبقة المثقفين.
والآنسة مي زيادة هي ماري بنت إلياس زيادة المعروفة بمي لبنانية الأصل من أهل كسروان، أقام والدها في الناصرة بفلسطين حيث ولدت مي عام 1886 وتعلمت في إحدى مدارسها ثم بمدرسة عين طورة بلبنان وأقامت بمصر مع والديها حيث كتبت بمجلة "المحروسة" ثم " الزهور" وأحسنت مع العربية الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية.
مات أبوها ثم أمها فشعرت بمرارة الحياة واستسلمت لكآبة اليأس، وقررت عدم الزواج على الرغم من تعلق الكثيرين بها وقد خطبوا ودها وذابوا شوقا وهياما في حضرتها ولربما صح مازعمه البعض، في أن الآنسة مي أحبت جبران خليل جبران المعروف برومانسيته الجارفة وأفكاره الجريئة وعباراته الرشيقة ونزعة الحرية القارة في حياته وفي فنه وأدبه، ولكنه كان مقيما بأميركا واقتصرت علاقته بالآنسة مي على الإعجاب والتقدير المتبادل يبعث إليها برسائله من أميركا وترد عليه برسائلها إليه من مصر وكانت وفاته عام 1931 صدمة نفسية وجرحا عميقا في روحها زادها تصميما على العزوبية وتفضيل العيش وحيدة بلا زوج تسكن إليه ويسكن إليها، ولربما توطدت قناعة مي بعدم الزواج نتيجة لمزاج وفلسفة ذاتية تخرج بها عن المألوف، فإذا كان الزواج والإنجاب وتبعاته قدر المرأة حتى ليزهدها في الإبداع ويشلها عن الإنتاج الفني والفكري، فقد ضحت به في سبيل إخلاصها لذاتها وفلسفتها الشخصية، حتى تعطي المثل والعبرة في كون المرأة تماما كالرجل تقدر على العزوبية وتبعاتها، فلن تكون ظل الرجل ولا قاصرة تستكمل قصورها بالركون إليه والإرتماء في أحضانه، وتؤثر الجانب الروحي والانساني والعقلاني فيها على الجانب الغريزي والجسدي والجنسي. وفي الرجال من كانت هذه فلسفته فميخائيل نعيمة عميد أدباء المهجر آثر العزوبية والتنسك في "الشخروب" وقال جملته المشهورة "خلقت لأكون أخا للمرأة لا بعلا لها".
والآنسة مي معروفة بحساسيتها الشديدة كونها امرأة من جهة، وفنانة شاعرة من جهة أخرى، وهذه الحساسية المضاعفة هدت عافيتها الجسدية وتوازنها النفسي خاصة حين تعرضت لأزمات الحياة التي قصمت ظهرها بدءا بوفاة والديها ووفاة صديقها جبران خليل جبران، وازدادت حالة المرض سوءا عليها عام 1936 وانتابها الاضطراب العقلي تبل منه قليلا ثم يعاودها حتى توفيت في مستشفى المعادي ودفنت في القاهرة عام 1941 .
وقالت السيدة هدى شعراوي في تأبينها "كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية المثقفة".
وقال فيها شيخ فلاسفة العرب في العصر الحديث مصطفى عبدالرازق "أديبة جيل، كتبت في الجرائد والمجلات، وألفت الكتب والرسائل، وألقت الخطب والمحاضرات، وجاش صدرها بالشعر أحيانا، وكانت نصيرة ممتازة للأدب تعقد للأدباء في دارها مجلسا أسبوعيا، لا لغو فيه ولا تأثيم ولكن حديث مفيد وسمر حلو وحوار تتبادل فيه الآراء في غير جدل ولا مراء".
وللآنسة مي عدة مؤلفات منها "باحثة البادية" و"بين المد والجزر" و"سوانح فتاة" و"كلمات وإشارات" و"ظلمات وأشعة" و"ابتسامات ودموع" ولها ديوان شعر بالفرنسية بعنوان "أزاهير حلم" .
لقد كانت مي زيادة محبة للعروبة ملمة بالأدب العربي وعلومه إلماما أدهش الرواد من أدباء مصر وحبها للعربية وتعلقها بالعروبة دفعها إلى نحت اسم لها عربي خالص من اسم "ماري" هو الذي عرفت به، وإن كان "مية" اسم عربي تردد في شعر النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند ** أقوت وطال عليها سالف الأمد
وكانت مية هي حبيبة الشاعر ذي الرمة التي تغنى بها في شعره. وصالون الآنسة مي كان فتحا جديدا في الثقافة العربية وتنويرا للمجتمع وتغييرا من سلوكاته البائدة وأعرافه الرثة خاصة عرف الحريم وإيحاءاته برجعية المرأة واستبداد الرجل .
كان مجلس مي يعقد مساء الثلاثاء وكان يحضره عمالقة الأدب ورواد السياسة ومشاهير العلماء وأعيان البلد كمحمد عبده، ومصطفى عبدالرازق، وأحمد لطفي السيد، وقاسم أمين، وطه حسين، ومصطفى صادق الرافعي، وخليل مطران وإسماعيل صبري وعباس محمود العقاد وغيرهم.
وهكذا اجتمع أعلام الدين وأقطاب السياسة ورواد النثر وفرسان الشعر في صالون الآنسة مي، وهذا تقدير للمرأة العربية التي استطاعت جمع الرجال من حولها يتناقشون فيما بينهم نقاشا حرا في السياسة والأدب والدين والثقافة العالمية، وكان جمال مي الروحي والجسدي وكلامها الحلو ونبرتها الهادئة، وثقافتها الكبيرة، كان كل ذلك يضفي على المجلس بهاء ورقيا وإحساسا راقيا بالجمال في أرقى تجلياته، ولم يكن أحد يغيب عن المجلس إلا لظرف قاهر، حتى غيب الموت صاحبة الصالون، تاركة وهج الذكرى وبريق الماضي وأصالة الفكرة وروعة المغامرة والتحدي والخروج عن الرتابة المملة والمألوف المقرف.
ولصالون مي في شعرنا الحديث حضور، فقد ذكره الشعراء في أشعارهم والكتاب في مقالاتهم، وكان الشاعر إسماعيل صبري يقول عن صالون مي مساء الثلاثاء:
روحي على بعض دور الحي حائمة ** كظامئ الطير تواقا إلى الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غدا ** لا كان صبحك يا يوم الثلاثاء!
أما الشاعر شفيق المعلوف شقيق شاعر الطيارة فوزي المعلوف فقد قال عن الآنسة مي:
بنت الجبال ربيبة الهرم ** هيهات يجهل اسمها حيُّ
لم نلق سحرا سال من قلم ** إلا هتفنا هذه ميُّ
وقد كان رحيل مي وانفضاض مجلسها وغياب نبرتها الموسيقية وملامحها الهادئة الرشيقة، وكلماتها العذبة المليئة بالأفكار الخلاقة والمعاني البكر، كان ذلك حدثا مؤلما لشاعر القطرين خليل مطران الذي أقضته الذكرى، وأبكته حسرة الرحيل ومرارة الفراق وغياب اللحظات الجميلة وهو الشاعر المرهف الحس الرقيق الكلمة، الرحب الخيال، الصادق القول فقد قال في رحيل مي:
أقفر البيت أين ناديك يا مي ** إليه الوفود يختلفونا؟
في مجال السبق آل إليك السبق ** في المنشئات والمنشئينا
نعمة ما سخا بها الدهر حتى ** آب كالعهد سالبا وضنينا
أيهذا الثرى ظفرت بحسن ** كان بالطهر والعفاف مصونا
لهف نفسي عل حجى عبقري ** كان ذخرا فصار كنزا دفينا
وما أوجع الحزن، وما أشد الغصة، غصة الرحيل التي فعلت فعلها في نفس الشاعر كما يوحي بها البيتان الأخيران.
لقد كانت الآنسة مي بأدبها وبثقافتها، وبجمالها الروحي والجسدي رمزا للمرأة العربية الطامحة إلى عصر غير عصر الحريم، وإلى شعر لا يكتفي منها بوصف النهود والأرداف والخدود، بل يشيد بعبقريتها وإنسانيتها وعطائها وإنتاجها العلمي والأدبي.
ولقد كان صالونها حدثا فريدا في تاريخ المجتمع العربي، وإن كانت له سوابق في تراثنا فالسيدة سكينة بنت الحسين وهي شاعرة وناقدة كانت تستقبل الشعراء في بيتها وتكلمهم ولكن من وراء حجاب، وحدث مرة أن استمعت إلى راوية جرير ينشدها:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ** حين الزيارة فارجعي بسلام
فقالت له قبح الله صاحبك وقبح شعره أما كان أحلى لو قال:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ** حين الزيارة فادخلي بسلام
غير أن مجلس الآنسة مي يختلف عن مجلس السيدة سكينة فقد كانت مي مجتمعة بالرجال مسفرة كالبدر، ومن حولها أقطاب السياسة وأعلام الأدب وأعيان البلد تناقشهم وتدلي بآرائها التي بهرت الجميع، وكان يوم الثلاثاء من كل أسبوع عيد الأدباء والمفكرين والعشاق يتأنقون ويتعطرون ويخفون إلى المجلس بهمة ووجد وهيام عجيب وكلهم يريد أن يكون فارس الندوة ورائد المجلس لعله يحظى بقلب مي وحبها فيجمع بين الثقافة في أرقى تجلياتها والجمال في أكمل صوره.
وجدت دعوة الإمام محمد عبده وتلميذه قاسم أمين وغيرهما من المصلحين آذانا صاغية في المجتمع العربي، وهو يدب نحو الرقي ويسعى نحو النهضة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وفحوى تلك الدعوة أن لا رقي ولا نهضة بغير إصلاح وضع المرأة التي هي نصف المجتمع، وإصلاح وضعها يعني القضاء على عهد الحريم وإتاحة الفرصة للمرأة بأن تتعلم وتنال كامل حقوقها التي أعطاها إياها الشرع والفلسفة الوضعية الإنسانية، تلك الدعوة المباركة التي صدع بها شعراء العربية الكبار مزكين إياها مباركين مضمونها وعلى رأس الشعراء أمير الشعراء أحمد شوقي:
وإذا النساء نشأن في أمية ** رضع الرجال جهالة وخمولا
وحافظ إبراهيم الذي صدع بقصيدته في فضل تربية النساء:
من لي بتربية النساء فإنها ** في الشرق علة ذلك الإخفاقِ؟
الأم مدرسة إذا أعددتها ** أعددت شعبا طيب الأعراقِ
وهكذا دخلت المرأة قاعات الدرس وأسفرت بعضهن إمعانا في الدفاع عن كرامتهن وتعبيرا عن مساواتهن بالرجل، فالمرأة ليست كائنا جنسيا وظيفته إمتاع الرجل وإنجاب الأولاد بل إنسانا حيا فاعلا خلاقا، وليست موضوعا غزليا يتغنى بالقد المياس والعين النجلاء والخد الأسيل فقط.
وقد أثمرت هذه الدعوة المباركة ثمارا طيبة تجلت في ظهور نساء وقفن ندا للرجل في السياسة والفكر والفن والأدب وكان منهن لبيبة هاشم وملك حفني ناصف وعائشة التيمورية وهدى شعراوي ومي زيادة وصولا إلى مفيدة عبدالرحمن وعائشة عبدالرحمن ونعمات فؤاد وفدوى طوقان ونازك الملائكة وسهير القلماوي وغيرهن.
ولا ريب أن الآنسة مي زيادة كانت أكثرهن شهرة وشغلا للرأي العام وإثارة لطبقة المثقفين ورجال السياسة والأدب، فقد جمعت بين جمال الروح والجسد في تناغم عجيب، وألمت بالثقافة العربية والغربية إلماما مدهشا. كما أتقنت اللغات الأجنبية وفضلا عن ذلك كان جمالها الروحي والجسدي مغريا للأدباء بحبها والتعلق بها وقد اشتهر بحبها مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران الذي عرفها عن بعد وهو في المهجر الأميركي واقتصرت العلاقة بينهما على تبادل الرسائل.
ولا شك أن صالونها الأدبي الذي كان يجتمع فيه كبار مثقفي العصر، زادها شهرة وتقديرا فالصالون الأدبي فكرة غربية محضة اشتهرت بها بعض كاتبات الغرب فضلا عن كتابه وإنشائه وترسيخه في المجتمع العربي الخارج لتوه من عصر الظلمات فكرة خلاقة مدهشة تؤكد أن المرأة ليست مجرد وجه جميل ورحم ولود، هذا الصالون الذي أنشأته الآنسة مي زيادة زاد في شهرتها وفي تقدير المجتمع لها، خاصة طبقة المثقفين.
والآنسة مي زيادة هي ماري بنت إلياس زيادة المعروفة بمي لبنانية الأصل من أهل كسروان، أقام والدها في الناصرة بفلسطين حيث ولدت مي عام 1886 وتعلمت في إحدى مدارسها ثم بمدرسة عين طورة بلبنان وأقامت بمصر مع والديها حيث كتبت بمجلة "المحروسة" ثم " الزهور" وأحسنت مع العربية الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية.
مات أبوها ثم أمها فشعرت بمرارة الحياة واستسلمت لكآبة اليأس، وقررت عدم الزواج على الرغم من تعلق الكثيرين بها وقد خطبوا ودها وذابوا شوقا وهياما في حضرتها ولربما صح مازعمه البعض، في أن الآنسة مي أحبت جبران خليل جبران المعروف برومانسيته الجارفة وأفكاره الجريئة وعباراته الرشيقة ونزعة الحرية القارة في حياته وفي فنه وأدبه، ولكنه كان مقيما بأميركا واقتصرت علاقته بالآنسة مي على الإعجاب والتقدير المتبادل يبعث إليها برسائله من أميركا وترد عليه برسائلها إليه من مصر وكانت وفاته عام 1931 صدمة نفسية وجرحا عميقا في روحها زادها تصميما على العزوبية وتفضيل العيش وحيدة بلا زوج تسكن إليه ويسكن إليها، ولربما توطدت قناعة مي بعدم الزواج نتيجة لمزاج وفلسفة ذاتية تخرج بها عن المألوف، فإذا كان الزواج والإنجاب وتبعاته قدر المرأة حتى ليزهدها في الإبداع ويشلها عن الإنتاج الفني والفكري، فقد ضحت به في سبيل إخلاصها لذاتها وفلسفتها الشخصية، حتى تعطي المثل والعبرة في كون المرأة تماما كالرجل تقدر على العزوبية وتبعاتها، فلن تكون ظل الرجل ولا قاصرة تستكمل قصورها بالركون إليه والإرتماء في أحضانه، وتؤثر الجانب الروحي والانساني والعقلاني فيها على الجانب الغريزي والجسدي والجنسي. وفي الرجال من كانت هذه فلسفته فميخائيل نعيمة عميد أدباء المهجر آثر العزوبية والتنسك في "الشخروب" وقال جملته المشهورة "خلقت لأكون أخا للمرأة لا بعلا لها".
والآنسة مي معروفة بحساسيتها الشديدة كونها امرأة من جهة، وفنانة شاعرة من جهة أخرى، وهذه الحساسية المضاعفة هدت عافيتها الجسدية وتوازنها النفسي خاصة حين تعرضت لأزمات الحياة التي قصمت ظهرها بدءا بوفاة والديها ووفاة صديقها جبران خليل جبران، وازدادت حالة المرض سوءا عليها عام 1936 وانتابها الاضطراب العقلي تبل منه قليلا ثم يعاودها حتى توفيت في مستشفى المعادي ودفنت في القاهرة عام 1941 .
وقالت السيدة هدى شعراوي في تأبينها "كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية المثقفة".
وقال فيها شيخ فلاسفة العرب في العصر الحديث مصطفى عبدالرازق "أديبة جيل، كتبت في الجرائد والمجلات، وألفت الكتب والرسائل، وألقت الخطب والمحاضرات، وجاش صدرها بالشعر أحيانا، وكانت نصيرة ممتازة للأدب تعقد للأدباء في دارها مجلسا أسبوعيا، لا لغو فيه ولا تأثيم ولكن حديث مفيد وسمر حلو وحوار تتبادل فيه الآراء في غير جدل ولا مراء".
وللآنسة مي عدة مؤلفات منها "باحثة البادية" و"بين المد والجزر" و"سوانح فتاة" و"كلمات وإشارات" و"ظلمات وأشعة" و"ابتسامات ودموع" ولها ديوان شعر بالفرنسية بعنوان "أزاهير حلم" .
لقد كانت مي زيادة محبة للعروبة ملمة بالأدب العربي وعلومه إلماما أدهش الرواد من أدباء مصر وحبها للعربية وتعلقها بالعروبة دفعها إلى نحت اسم لها عربي خالص من اسم "ماري" هو الذي عرفت به، وإن كان "مية" اسم عربي تردد في شعر النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند ** أقوت وطال عليها سالف الأمد
وكانت مية هي حبيبة الشاعر ذي الرمة التي تغنى بها في شعره. وصالون الآنسة مي كان فتحا جديدا في الثقافة العربية وتنويرا للمجتمع وتغييرا من سلوكاته البائدة وأعرافه الرثة خاصة عرف الحريم وإيحاءاته برجعية المرأة واستبداد الرجل .
كان مجلس مي يعقد مساء الثلاثاء وكان يحضره عمالقة الأدب ورواد السياسة ومشاهير العلماء وأعيان البلد كمحمد عبده، ومصطفى عبدالرازق، وأحمد لطفي السيد، وقاسم أمين، وطه حسين، ومصطفى صادق الرافعي، وخليل مطران وإسماعيل صبري وعباس محمود العقاد وغيرهم.
وهكذا اجتمع أعلام الدين وأقطاب السياسة ورواد النثر وفرسان الشعر في صالون الآنسة مي، وهذا تقدير للمرأة العربية التي استطاعت جمع الرجال من حولها يتناقشون فيما بينهم نقاشا حرا في السياسة والأدب والدين والثقافة العالمية، وكان جمال مي الروحي والجسدي وكلامها الحلو ونبرتها الهادئة، وثقافتها الكبيرة، كان كل ذلك يضفي على المجلس بهاء ورقيا وإحساسا راقيا بالجمال في أرقى تجلياته، ولم يكن أحد يغيب عن المجلس إلا لظرف قاهر، حتى غيب الموت صاحبة الصالون، تاركة وهج الذكرى وبريق الماضي وأصالة الفكرة وروعة المغامرة والتحدي والخروج عن الرتابة المملة والمألوف المقرف.
ولصالون مي في شعرنا الحديث حضور، فقد ذكره الشعراء في أشعارهم والكتاب في مقالاتهم، وكان الشاعر إسماعيل صبري يقول عن صالون مي مساء الثلاثاء:
روحي على بعض دور الحي حائمة ** كظامئ الطير تواقا إلى الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غدا ** لا كان صبحك يا يوم الثلاثاء!
أما الشاعر شفيق المعلوف شقيق شاعر الطيارة فوزي المعلوف فقد قال عن الآنسة مي:
بنت الجبال ربيبة الهرم ** هيهات يجهل اسمها حيُّ
لم نلق سحرا سال من قلم ** إلا هتفنا هذه ميُّ
وقد كان رحيل مي وانفضاض مجلسها وغياب نبرتها الموسيقية وملامحها الهادئة الرشيقة، وكلماتها العذبة المليئة بالأفكار الخلاقة والمعاني البكر، كان ذلك حدثا مؤلما لشاعر القطرين خليل مطران الذي أقضته الذكرى، وأبكته حسرة الرحيل ومرارة الفراق وغياب اللحظات الجميلة وهو الشاعر المرهف الحس الرقيق الكلمة، الرحب الخيال، الصادق القول فقد قال في رحيل مي:
أقفر البيت أين ناديك يا مي ** إليه الوفود يختلفونا؟
في مجال السبق آل إليك السبق ** في المنشئات والمنشئينا
نعمة ما سخا بها الدهر حتى ** آب كالعهد سالبا وضنينا
أيهذا الثرى ظفرت بحسن ** كان بالطهر والعفاف مصونا
لهف نفسي عل حجى عبقري ** كان ذخرا فصار كنزا دفينا
وما أوجع الحزن، وما أشد الغصة، غصة الرحيل التي فعلت فعلها في نفس الشاعر كما يوحي بها البيتان الأخيران.
لقد كانت الآنسة مي بأدبها وبثقافتها، وبجمالها الروحي والجسدي رمزا للمرأة العربية الطامحة إلى عصر غير عصر الحريم، وإلى شعر لا يكتفي منها بوصف النهود والأرداف والخدود، بل يشيد بعبقريتها وإنسانيتها وعطائها وإنتاجها العلمي والأدبي.
ولقد كان صالونها حدثا فريدا في تاريخ المجتمع العربي، وإن كانت له سوابق في تراثنا فالسيدة سكينة بنت الحسين وهي شاعرة وناقدة كانت تستقبل الشعراء في بيتها وتكلمهم ولكن من وراء حجاب، وحدث مرة أن استمعت إلى راوية جرير ينشدها:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ** حين الزيارة فارجعي بسلام
فقالت له قبح الله صاحبك وقبح شعره أما كان أحلى لو قال:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ** حين الزيارة فادخلي بسلام
غير أن مجلس الآنسة مي يختلف عن مجلس السيدة سكينة فقد كانت مي مجتمعة بالرجال مسفرة كالبدر، ومن حولها أقطاب السياسة وأعلام الأدب وأعيان البلد تناقشهم وتدلي بآرائها التي بهرت الجميع، وكان يوم الثلاثاء من كل أسبوع عيد الأدباء والمفكرين والعشاق يتأنقون ويتعطرون ويخفون إلى المجلس بهمة ووجد وهيام عجيب وكلهم يريد أن يكون فارس الندوة ورائد المجلس لعله يحظى بقلب مي وحبها فيجمع بين الثقافة في أرقى تجلياتها والجمال في أكمل صوره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.