لجان الاقتراع تستأنف استقبال الناخبين في اليوم الثاني والأخير من جولة الإعادة    أسعار الخضراوات اليوم 28 ديسمبر.. «الكوسة» تبدأ من 12 جنيهًا للكيلو    انطلاق قافلة مساعدات جديدة من مصر إلى قطاع غزة    لافروف: القوات الأوروبية في أوكرانيا أهداف مشروعة للجيش الروسي    أخبار مصر: توقعات صادمة لعام 2026، موقف صلاح من مباراة أنجولا، نتنياهو يدق طبول الحرب مجددا، بشرى لطلاب الشهادة الإعدادية    ماس كهربائي وراء تفحم محتويات صالة شقة بالسيدة زينب    عبد الفتاح عبد المنعم: الصحافة المصرية متضامنة بشكل كامل مع الشعب الفلسطينى    آسر ياسين يحتفل بالعرض الخاص لفيلمه الجديد "إن غاب القط" الليلة    إنقاذ 6 أشخاص محتجزين إثر انهيار عقار من طابق واحد بروض الفرج.. صور    رئيس الحكومة العراقية: لم يعد هناك أي مبرر لوجود قوات أجنبية في بلادنا    طقس أسوان اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025    أسعار الأعلاف في أسوان اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025    الدفاع العراقية: 6 طائرات جديدة فرنسية الصنع ستصل قريبا لتعزيز القوة الجوية    إخلاء سبيل حمو بيكا عقب إنهاء الإجراءات القانونية    محمد معيط: العجز في الموازنة 1.5 تريليون جنيه.. وأنا مضطر علشان البلد تفضل ماشية استلف هذا المبلغ    الأقصر تستقبل العام الجديد بأضواء مبهرة.. ورفع درجة الاستعداد | صور    نيللي كريم وداليا مصطفى تسيطران على جوجل: شائعات ونجاحات تُشعل الجدل    أبرزهم أحمد حاتم وحسين فهمي.. نجوم الفن في العرض الخاص لفيلم الملحد    حزب "المصريين": بيان الخارجية الرافض للاعتراف بما يسمى "أرض الصومال" جرس إنذار لمحاولات العبث بجغرافيا المنطقة    بحضور وزير الثقافة.. أداء متميز من أوركسترا براعم الكونسرفتوار خلال مشاركتها في مهرجان «كريسماس بالعربي»    لجنة بالشيوخ تفتح اليوم ملف مشكلات الإسكان الاجتماعي والمتوسط    عمر فاروق الفيشاوي عن أنفعال شقيقه أثناء العزاء: تطفل بسبب التريندات والكل عاوز اللقطة    محمد معيط: الدعم في الموازنة 16 %.. ووصول خدمة الدين 49% يقلقني ويقلق المواطن أكثر من العجز    فيديو جراف| تسعة أفلام صنعت «فيلسوف السينما».. وداعًا «داود عبد السيد»    «الداخلية» تكشف مفاجأة مدوية بشأن الادعاء باختطاف «أفريقي»    يوفنتوس يقترب خطوة من قمة الدوري الإيطالي بثنائية ضد بيزا    أمم إفريقيا – الطرابلسي: خسرنا الثنائيات كثيرا ضد نيجيريا    أمم إفريقيا - لوكمان: تونس لا تستحق ركلة الجزاء.. ومساهماتي بفضل الفريق    حادثان متتاليان بالجيزة والصحراوي.. مصرع شخص وإصابة 7 آخرين وتعطّل مؤقت للحركة المرورية    2025 عام السقوط الكبير.. كيف تفككت "إمبراطورية الظل" للإخوان المسلمين؟    هل فرط جمال عبد الناصر في السودان؟.. عبد الحليم قنديل يُجيب    لافروف: أوروبا تستعد بشكل علني للحرب مع روسيا    نوفوستي تفيد بتأخير أكثر من 270 رحلة جوية في مطاري فنوكوفو وشيريميتيفو بموسكو    ناقد رياضي: الروح القتالية سر فوز مصر على جنوب أفريقيا    مها الصغير تتصدر التريند بعد حكم حبسها شهرًا وتغريمها 10 آلاف جنيهًا    آسر ياسين ودينا الشربيني على موعد مع مفاجآت رمضان في "اتنين غيرنا"    «زاهي حواس» يحسم الجدل حول وجود «وادي الملوك الثاني»    بعد القلب، اكتشاف مذهل لتأثير القهوة والشاي على الجهاز التنفسي    المحامي ياسر حسن يكشف تطورات جديدة في قضية سرقة نوال الدجوي    6 تغييرات فى تشكيل منتخب مصر أمام أنجولا    كيف يؤثر التمر على الهضم والسكر ؟    وزير الصحة يكرم مسئولة الملف الصحي ب"فيتو" خلال احتفالية يوم الوفاء بأبطال الصحة    طه إسماعيل: هناك لاعبون انتهت صلاحيتهم فى الأهلى وعفا عليهم الزمن    حرب تكسير العظام في جولة الحسم بقنا| صراع بين أنصار المرشحين على فيسبوك    أخبار × 24 ساعة.. التموين: تخفيض زمن أداء الخدمة بالمكاتب بعد التحول الرقمى    القوات الروسية ترفع العلم الروسي فوق دميتروف في دونيتسك الشعبية    الإفتاء توضح حكم التعويض عند الخطأ الطبي    محافظ قنا يوقف تنفيذ قرار إزالة ويُحيل المتورطين للنيابة الإدارية    رابطة تجار السيارات عن إغلاق معارض بمدينة نصر: رئيس الحي خد دور البطولة وشمّع المرخص وغير المرخص    سيف زاهر: هناك عقوبات مالية كبيرة على لاعبى الأهلى عقب توديع كأس مصر    المكسرات.. كنز غذائي لصحة أفضل    محافظ الجيزة يتابع أعمال غلق لجان انتخابات مجلس النواب في اليوم الأول لجولة الإعادة    آية عبدالرحمن: كلية القرآن الكريم بطنطا محراب علم ونور    كواليس الاجتماعات السرية قبل النكسة.. قنديل: عبد الناصر حدد موعد الضربة وعامر رد بهو كان نبي؟    هل يجوز المسح على الخُفِّ خشية برد الشتاء؟ وما كيفية ذلك ومدته؟.. الإفتاء تجيب    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المطلوب " انابة " بحكم " المنتهى " !?    المستشفيات الجامعية تقدم خدمات طبية ل 32 مليون مواطن خلال 2025    أخبار × 24 ساعة.. موعد استطلاع هلال شعبان 1447 هجريا وأول أيامه فلكيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سعود السنعوسي لا يسلّم القارئ مفاتيح روايته
نشر في صوت البلد يوم 05 - 12 - 2017

«يكفي هذا العبث والإصرار على كتابة ما لن يُكتب... على الكاتب أن يتواضع أمام عجزه أحياناً، وأن يكف عن المحاولة»... بهذه العبارة المُنغلقة على نفسها، والمنفتحة على التأويلات، بدأ الكاتب الكويتي سعود السنعوسي روايته الجديدة «حمام الدار– أحجية ابن أزرق» الصادرة عن الدار العربية للعلوم- ناشرون، ومنشورات ضفاف، وإلى هذه العبارة «ذاتها» كنت أعود في كل مرة بعثر فيها نص الرواية ذهني، وفي كل مرة أضعت فيها مفاتيحه. كنت أعود وأتساءل: هل وصف السنعوسي في هذه العبارة حاله حين قرر الكتابة؟ ثم خلع عنه تلك العباءة وألبسها لشخصية روائية أوجدها وألقى بها إلى المجهول متوقعاً منها أن تكتب نفسها فتاهت بين إرادتين، وتمنى عليها أن تصنع قدرها فتجمدت عند عتبته. وكل ذلك لأن كاتب الرواية وبطله الكاتب اعتمدا لعبة اللغة، وتلحفا بفضاء الفلسفة، وغرقا في الرمزية، فتكونت فكرة نص حُبلى بأفكار حداثية، وصور مموهة، أطالت مخاض فكر القارئ في محاولته لفهم نص بقي خارج النص، وبقيت الفكرة جنيناً معلقاً بحبل يلوح في ذهن كاتب روائي وبطل رواية تمرد عليه حين رفض الانتحار: «أكتب لأدرك مشهد انتحار تلك الشخصية، وحينما اقتربت منه لم أقوَ على قتلها».
وضع السنعوسي لحمام الدار تصميماً خاصاً ومغايراً لمفهوم الرواية بالمعنى المتعارف عليه، فاختار أن تكون الشخصية الرئيسة في روايته فناناً وكاتباً مسرحياً وروائياً حقق طيلة ثلاثين عاماً نجاحات باهرة. وفي ذكرى مولده الخمسين شعر بعجزه عن إنهاء نص روائي لقيط لا مكان له ولا زمان. نص وُلِدَ من دون فكرة. فقط شخصية مضطربة تراءت له لرجل اسمه عرزال بن أزرق، وكل الدلائل تشير إلى الصلة الوثيقة بينهما من حيث المنحى العقلي والشعوري ورغبتهما في ابتكار نص تجديدي حداثي! وتحسباً للنقد المحتمل تحصن السنعوسي بذكاء خلف الاسم المكمل للعنوان: «أحجية ابن أزرق»، فحين يعجز الناقد أو القارئ عن جمع أجزاء الأحجية، والخروج منها بمنطقية الأشياء، وروابطها العقلية، نواجه قضية حرية الكانب في الأسلوب الذي اختاره من أجل تنفيذ لعبة روائية تمردت فيها الشخصية الرئيسة على كاتب النص، بأن خلقت شخصية جديدة أعادت الكتابة بصورة مختلفة، ثم تمرد كاتب النص على كاتب الرواية، ليعود الأخير فيتحكم في مصير الجميع بأن تركهم عالقين وعائمين على الورق بنصٍ لقيط ألحقه بنص نسيب، فجاء السرد مربكاً لشخصيات الرواية ومشوشاً لقارئها.
قسم السنعوسي روايته إلى قسمين رئيسين: القسم الأول، هو «العهد القديم... صباحات عرزال بن أزرق». وتفرع منه ستة عناوين: «قبل ساعة تأمل» وهي الصور التي تتوارد إلى ذهن الكاتب قبل فعل الكتابة وتدوين المصائر وتقرير الأقدار، ثم «مشروع رواية: نص لقيط» الذي يندرج تحته خمسة صباحات، يليها «أثناء ساعة تأمل»، وهي الساعة التي توقف عندها النص، وثارت فيها الشخصيات على مؤلفيها. أما القسم الثاني، فهو «العهد الجديد... صباحات منوال بن أزرق»: يبدأ بعنوان «مشروع رواية: نص نسيب» يندرج تحته ستة صباحات.
استعان الكاتب بالحيوان كي يكون الرامز إلى ذات الإنسان موضوع الرواية، وخفايا النفس التي تتحكم بسلوكها. ولأن النص وُلد في ذهنه من دون فكرة، أطلق عليه اسم: «نص لقيط»، وبطله عرزال، يبدأه كاتب النص في الصباح الأول، فيسرد مستخدماً الأفعال المضارعة الحاضرة، واصفاً تصرفات عرزال وتحركاته في بيته وكأنه يرى المشاهد أمامه، ثم ينتقل السرد إلى عرزال فينبش في بطن ذكريات طفولته وصباه، بضمير المتكلم، وسجل لكل عودة عنوان وعُمْر وقصة موقعة باسم عرزال ومنوال.
اختزل كاتب النص الزمن في الرواية في أمس: «يستفيق عرزال كل يوم منذ أمس... هو لا يعرف من الزمن الماضي، والماضي كلّه أمس. وهو لا يذكر من أمس إلا القليل؛ ولدت أمس. حطت الحمامة أمس. سقطت الستارة أمس»، ويجزم: «لا قوانين للزمن في هذه الساعة شأن الزمن في أوراقٍ يكتبها». أما أحداث الرواية فتدور في مكانين: المكان الحاضر، وهي شقة يسكنها عرزال أو منوال منذ نحو ثلاثين سنة... غرفة ونافذة بلا ستارة مطلة على البحر وعلى دكتها تسكن حمامة أطلق عليها اسم فيروز وعلى جدار الغرفة الأبيض المصفر صورتان لتوأمين. أما المكان في الماضي، فبيت عربي قديم بحجرات ضيقة وبهوٍ غير مسقوف، وسطح واسع، وأقفاص وطيور وشعير. وأسفل السلم ترقد بصيرة العمياء الصماء الخرساء التي لم يشعر بوجودها أحد إلا عرزال، والتي تردد صدى صوتها في أذنيه وحده فقط وهي تقول: «حمام الدار لا يغيب وأفعى الدار لا تخون».
نص لقيط، خرجت فيه الشخصيات من الورق وثارت على كاتبها كي تقرر مصيرها، بأن أعادت كتابة نفسها في نص نسيب. وتمثل النصان في مجموعة ذكريات أوجدتها خيالات الماضي وظلاله، فالحمامة الأم في النص اللقيط على سطح البيت القديم تنتظر عودة أولادها الحمامات الإخوة غادي وسفّار وعوّاد ورابحة. وهم في النص النسيب إخوته الذين هاجروا وعادوا بعد موت والدتهم. والمعزة البيضاء قطنة التي كان يحبها عرزال ويحلبها برفق، ويقضي معها أوقاتاً طويلة يحدثها، هي في نص منوال ابنة العبدة فائقة.
أما الحاضر في النص اللقيط فتمثل في اتصال عرزال بزوجته كل صباح، فتصرخ قائلة: «أركض يا جبان»، «طليقته لا تريد أن تنسى... ويشتاق إلى صغيريه». باضت الحمامة بيضتين أطلق عليهما اسمي زينة ورحال. أما حاضر النص النسيب فزينة ورحال هما توأماه اللذان غرقا في البحر... والحمامة فيروز هي أمه، وأم أخوته، وأم توأمه، وأم الفرخين على دكة النافذة.
وما بين الحاضر والماضي تزاحمت النداءات في رأس عرزال أو منوال، فتوجه إلى المطبخ حيث البخار المنبعث من الماء المغلي لإعداد القهوة الصباحية: «غطس كفه اليمنى في القِدر وهو يصيح بالصغيرين... زينة رحاااال! أخرج كفه مُلتهبه ثم راح يركض كالمجنون» وهنا ظهر التداخل بين مصير كاتب النص الذي كان يكتب نصه بكف ملتهبة وبين مصير شخصياته الروائية.
استغنى السنعوسي عن جزيئات الرواية وعناصرها، فاجتاز الزمن وتخطى المكان، وانفعال الشخصيات المصطنع أبهت عنصر الخيال، فحين ثارت لم نفهم نوازعها، لأنها بقيت على حالها- فلم تنتحر، ولم تتم الرواية وانتهت كسابقاتها في الدرج السفلي– لا حبس للأنفاس ولا توقعات. هذا العبث الروائي والخلخلة المقصودة في البناء الروائي قد يبرر أن ما قرأناه هو فعلاً أحجية وليست رواية، كما أنها ليست للقارئ العادي الذي يبحث عن متعة القراءة فحسب، بل هي للقارئ الصبور الذي يبحث عن إثارة من نوع خاص.
أما لغة الرواية فبليغة وجزلة وسلسة، وأسهمت في خدمة فكرة الرواية، لأنه عمد من خلال مدلولاته اللغوية إلى التنقل من بُعد إلى آخر برشاقة: «وحده الرمادي يشبهه لا لون له ولا ذاكرة... لون النهايات، لون الدخان والرماد وحطام البيوت... لون العدم». وقد عمد السنعوسي إلى تحريك أواخر الكلمات، ربما لأنه كان على علم مسبق بأن النصّ صعب وبحاجة إلى تركيز وأكثر من قراءة. ولا بد من الإشارة إلى أن الانغلاق الزمني والمكاني في الرواية ومحدودية المشاهد فيها يؤهلها أن تتحول إلى عمل مسرحي بامتياز.
«يكفي هذا العبث والإصرار على كتابة ما لن يُكتب... على الكاتب أن يتواضع أمام عجزه أحياناً، وأن يكف عن المحاولة»... بهذه العبارة المُنغلقة على نفسها، والمنفتحة على التأويلات، بدأ الكاتب الكويتي سعود السنعوسي روايته الجديدة «حمام الدار– أحجية ابن أزرق» الصادرة عن الدار العربية للعلوم- ناشرون، ومنشورات ضفاف، وإلى هذه العبارة «ذاتها» كنت أعود في كل مرة بعثر فيها نص الرواية ذهني، وفي كل مرة أضعت فيها مفاتيحه. كنت أعود وأتساءل: هل وصف السنعوسي في هذه العبارة حاله حين قرر الكتابة؟ ثم خلع عنه تلك العباءة وألبسها لشخصية روائية أوجدها وألقى بها إلى المجهول متوقعاً منها أن تكتب نفسها فتاهت بين إرادتين، وتمنى عليها أن تصنع قدرها فتجمدت عند عتبته. وكل ذلك لأن كاتب الرواية وبطله الكاتب اعتمدا لعبة اللغة، وتلحفا بفضاء الفلسفة، وغرقا في الرمزية، فتكونت فكرة نص حُبلى بأفكار حداثية، وصور مموهة، أطالت مخاض فكر القارئ في محاولته لفهم نص بقي خارج النص، وبقيت الفكرة جنيناً معلقاً بحبل يلوح في ذهن كاتب روائي وبطل رواية تمرد عليه حين رفض الانتحار: «أكتب لأدرك مشهد انتحار تلك الشخصية، وحينما اقتربت منه لم أقوَ على قتلها».
وضع السنعوسي لحمام الدار تصميماً خاصاً ومغايراً لمفهوم الرواية بالمعنى المتعارف عليه، فاختار أن تكون الشخصية الرئيسة في روايته فناناً وكاتباً مسرحياً وروائياً حقق طيلة ثلاثين عاماً نجاحات باهرة. وفي ذكرى مولده الخمسين شعر بعجزه عن إنهاء نص روائي لقيط لا مكان له ولا زمان. نص وُلِدَ من دون فكرة. فقط شخصية مضطربة تراءت له لرجل اسمه عرزال بن أزرق، وكل الدلائل تشير إلى الصلة الوثيقة بينهما من حيث المنحى العقلي والشعوري ورغبتهما في ابتكار نص تجديدي حداثي! وتحسباً للنقد المحتمل تحصن السنعوسي بذكاء خلف الاسم المكمل للعنوان: «أحجية ابن أزرق»، فحين يعجز الناقد أو القارئ عن جمع أجزاء الأحجية، والخروج منها بمنطقية الأشياء، وروابطها العقلية، نواجه قضية حرية الكانب في الأسلوب الذي اختاره من أجل تنفيذ لعبة روائية تمردت فيها الشخصية الرئيسة على كاتب النص، بأن خلقت شخصية جديدة أعادت الكتابة بصورة مختلفة، ثم تمرد كاتب النص على كاتب الرواية، ليعود الأخير فيتحكم في مصير الجميع بأن تركهم عالقين وعائمين على الورق بنصٍ لقيط ألحقه بنص نسيب، فجاء السرد مربكاً لشخصيات الرواية ومشوشاً لقارئها.
قسم السنعوسي روايته إلى قسمين رئيسين: القسم الأول، هو «العهد القديم... صباحات عرزال بن أزرق». وتفرع منه ستة عناوين: «قبل ساعة تأمل» وهي الصور التي تتوارد إلى ذهن الكاتب قبل فعل الكتابة وتدوين المصائر وتقرير الأقدار، ثم «مشروع رواية: نص لقيط» الذي يندرج تحته خمسة صباحات، يليها «أثناء ساعة تأمل»، وهي الساعة التي توقف عندها النص، وثارت فيها الشخصيات على مؤلفيها. أما القسم الثاني، فهو «العهد الجديد... صباحات منوال بن أزرق»: يبدأ بعنوان «مشروع رواية: نص نسيب» يندرج تحته ستة صباحات.
استعان الكاتب بالحيوان كي يكون الرامز إلى ذات الإنسان موضوع الرواية، وخفايا النفس التي تتحكم بسلوكها. ولأن النص وُلد في ذهنه من دون فكرة، أطلق عليه اسم: «نص لقيط»، وبطله عرزال، يبدأه كاتب النص في الصباح الأول، فيسرد مستخدماً الأفعال المضارعة الحاضرة، واصفاً تصرفات عرزال وتحركاته في بيته وكأنه يرى المشاهد أمامه، ثم ينتقل السرد إلى عرزال فينبش في بطن ذكريات طفولته وصباه، بضمير المتكلم، وسجل لكل عودة عنوان وعُمْر وقصة موقعة باسم عرزال ومنوال.
اختزل كاتب النص الزمن في الرواية في أمس: «يستفيق عرزال كل يوم منذ أمس... هو لا يعرف من الزمن الماضي، والماضي كلّه أمس. وهو لا يذكر من أمس إلا القليل؛ ولدت أمس. حطت الحمامة أمس. سقطت الستارة أمس»، ويجزم: «لا قوانين للزمن في هذه الساعة شأن الزمن في أوراقٍ يكتبها». أما أحداث الرواية فتدور في مكانين: المكان الحاضر، وهي شقة يسكنها عرزال أو منوال منذ نحو ثلاثين سنة... غرفة ونافذة بلا ستارة مطلة على البحر وعلى دكتها تسكن حمامة أطلق عليها اسم فيروز وعلى جدار الغرفة الأبيض المصفر صورتان لتوأمين. أما المكان في الماضي، فبيت عربي قديم بحجرات ضيقة وبهوٍ غير مسقوف، وسطح واسع، وأقفاص وطيور وشعير. وأسفل السلم ترقد بصيرة العمياء الصماء الخرساء التي لم يشعر بوجودها أحد إلا عرزال، والتي تردد صدى صوتها في أذنيه وحده فقط وهي تقول: «حمام الدار لا يغيب وأفعى الدار لا تخون».
نص لقيط، خرجت فيه الشخصيات من الورق وثارت على كاتبها كي تقرر مصيرها، بأن أعادت كتابة نفسها في نص نسيب. وتمثل النصان في مجموعة ذكريات أوجدتها خيالات الماضي وظلاله، فالحمامة الأم في النص اللقيط على سطح البيت القديم تنتظر عودة أولادها الحمامات الإخوة غادي وسفّار وعوّاد ورابحة. وهم في النص النسيب إخوته الذين هاجروا وعادوا بعد موت والدتهم. والمعزة البيضاء قطنة التي كان يحبها عرزال ويحلبها برفق، ويقضي معها أوقاتاً طويلة يحدثها، هي في نص منوال ابنة العبدة فائقة.
أما الحاضر في النص اللقيط فتمثل في اتصال عرزال بزوجته كل صباح، فتصرخ قائلة: «أركض يا جبان»، «طليقته لا تريد أن تنسى... ويشتاق إلى صغيريه». باضت الحمامة بيضتين أطلق عليهما اسمي زينة ورحال. أما حاضر النص النسيب فزينة ورحال هما توأماه اللذان غرقا في البحر... والحمامة فيروز هي أمه، وأم أخوته، وأم توأمه، وأم الفرخين على دكة النافذة.
وما بين الحاضر والماضي تزاحمت النداءات في رأس عرزال أو منوال، فتوجه إلى المطبخ حيث البخار المنبعث من الماء المغلي لإعداد القهوة الصباحية: «غطس كفه اليمنى في القِدر وهو يصيح بالصغيرين... زينة رحاااال! أخرج كفه مُلتهبه ثم راح يركض كالمجنون» وهنا ظهر التداخل بين مصير كاتب النص الذي كان يكتب نصه بكف ملتهبة وبين مصير شخصياته الروائية.
استغنى السنعوسي عن جزيئات الرواية وعناصرها، فاجتاز الزمن وتخطى المكان، وانفعال الشخصيات المصطنع أبهت عنصر الخيال، فحين ثارت لم نفهم نوازعها، لأنها بقيت على حالها- فلم تنتحر، ولم تتم الرواية وانتهت كسابقاتها في الدرج السفلي– لا حبس للأنفاس ولا توقعات. هذا العبث الروائي والخلخلة المقصودة في البناء الروائي قد يبرر أن ما قرأناه هو فعلاً أحجية وليست رواية، كما أنها ليست للقارئ العادي الذي يبحث عن متعة القراءة فحسب، بل هي للقارئ الصبور الذي يبحث عن إثارة من نوع خاص.
أما لغة الرواية فبليغة وجزلة وسلسة، وأسهمت في خدمة فكرة الرواية، لأنه عمد من خلال مدلولاته اللغوية إلى التنقل من بُعد إلى آخر برشاقة: «وحده الرمادي يشبهه لا لون له ولا ذاكرة... لون النهايات، لون الدخان والرماد وحطام البيوت... لون العدم». وقد عمد السنعوسي إلى تحريك أواخر الكلمات، ربما لأنه كان على علم مسبق بأن النصّ صعب وبحاجة إلى تركيز وأكثر من قراءة. ولا بد من الإشارة إلى أن الانغلاق الزمني والمكاني في الرواية ومحدودية المشاهد فيها يؤهلها أن تتحول إلى عمل مسرحي بامتياز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.