ارتفاع أسعار الذهب الفورية اليوم الخميس 31-7-2025    نمو مبيعات التجزئة في اليابان بنسبة 2% خلال الشهر الماضي    فورد تتوقع خسائر بقيمة ملياري دولار هذا العام نتيجة رسوم ترامب    هاريس ستدلي بشهادتها في الكونجرس بشأن الحالة العقلية لبايدن والعفو عن 2500 شخص    ترامب يهدد كندا حال الاعتراف بدولة فلسطين: لن نعقد اتفاقا تجاريا    20 شاحنة مساعدات إماراتية تستعد للدخول إلى قطاع غزة    إصابة 4 أشخاص في حادث انقلاب سيارة بشمال سيناء    ملعب الإسكندرية يتحول إلى منصة فنية ضمن فعاليات "صيف الأوبرا 2025"    سعر الدولار اليوم الخميس 31-7-2025 بعد تسجيله أعلى مستوياته خلال 60 يومًا    معتقل من ذوي الهمم يقود "الإخوان".. داخلية السيسي تقتل فريد شلبي المعلم بالأزهر بمقر أمني بكفر الشيخ    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    قناة السويس حكاية وطنl القناة الجديدة.. 10 سنوات من التحدى والإنجاز    الرئيس الفلسطيني يرحب ب"الموقف التاريخي والشجاع" لكندا    لليوم الرابع، ارتفاع أسعار النفط وسط مخاوف من تأثر الإمدادات بتهديدات ترامب الجمركية    دعمًا لمرشح «الجبهة الوطنية».. مؤتمر حاشد للسيدات بالقليوبية    المهرجان القومي للمسرح يكرم روح الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    قناة السويس حكاية وطن l حُفرت بأيادٍ مصرية وسُرقت ب«امتياز فرنسى»    الطب الشرعى يحل لغز وفاة أب وابنائه الستة فى المنيا.. تفاصيل    سلاح النفط العربي    حرمه منها كلوب وسلوت ينصفه، ليفربول يستعد لتحقيق حلم محمد صلاح    نحن ضحايا «عك»    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    طريقة عمل سلطة الفتوش على الطريقة الأصلية    المهرجان القومي للمسرح يحتفي بالفائزين في مسابقة التأليف المسرحي    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    بينهم طفل.. إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق فايد بالإسماعيلية (أسماء)    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    الدفاع الروسية: اعتراض 13 مسيرة أوكرانية فوق مقاطعتي روستوف وبيلجورود    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    رامي رضوان ودنيا سمير غانم وابنتهما كايلا يتألقون بالعرض الخاص ل «روكي الغلابة»    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    السيارات الكهربائية.. والعاصمة الإنجليزية!    424 مرشحًا يتنافسون على 200 مقعد.. صراع «الشيوخ» يدخل مرحلة الحسم    الحقيقة متعددة الروايات    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    اصطدام قطار برصيف محطة "السنطة" في الغربية.. وخروج عربة من على القضبان    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سوزان أبو الهوى تروي فلسطين بلسان «الستّ»
نشر في صوت البلد يوم 31 - 10 - 2017

ظلّ لسان الحكاية الفلسطينية، وعقوداً طويلة، عربياً بامتياز. يحكي ويروي ويقصّ لجمهور ينطق بلغة الضاد. لكنّ مسرح الحوادث الذي كان محصوراً في البدء في فلسطين، أصبح بعد نحو سبعين سنة على النكبة يشمل العالم بأسره. وبدأت أجيال فلسطينية- ولدت أو شبّت في الشتات- تعبّر عن حكاياتها بألسنتها التي تنطق بها. صرنا نقرأ السردية الفلسطينية مثلاً بلسان إنكليزي قويم. سوزان أبو الهوى، سلمى الدباغ وليلاس طه هنّ جيل أسدى الى تلك السردية خدمة جليلة عبر تقديمها الى القارئ الإنكليزي بلغته، بعيداً من علل الترجمة وباستخدام المضامين أو الرموز الثقافية والأدبية الإنكليزية التي تجعل من الحكاية الأجنبية قريبة من نفوس الناطقين بتلك اللغة. كما أن جهود هؤلاء تساهم في كسر احتكار الحكاية الصهيونية، التي عبرت عن نفسها منذ البدء بألسنة الغرب، لمخيلة قراء تلك اللغات. علاوة على ذلك، فإن إنتاج هؤلاء الكتّاب يثري الحكاية الفلسطينية بتأملات وزوايا نظر جديدة نشأت وتلاقحت ضمن فضاءات فكرية وثقافية متنوعة، كما أنه يسلط الضوء على فصل مهم من فصولها يخصّ مصائر أبنائها ممن ولدوا وترعرعوا في الشتات الغربيّ تحديداً.
فوق أحفورة وجه الحاجة نظمية، تغزل أبو الهوى خيوط حكايتها ببراعة العنكبوت. تصطاد القارئ الذي يقع فريسة سرد محبوك بإتقان وتلعب معه لعبتها. تحدد له نقطتين عشوائيتين فوق رقعة يمتد وجهها بين صبا نظمية في قرية بيت دراس قبل سقوط فلسطين عام 1948 وإلى مشيبها في غزة المعاصرة. إن نجح القارئ/ الفريسة مثلاً في اقتفاء الخط الممتد من أذن الحاجة اليسرى وتتبعه في تقوّسه إلى حاجبها وهبط منه في الأخدود العميق الذي يقطع جبينها ثم ينحني ليعانق ثلاث هالات رقيقة تدمغ زاوية عين نظمية اليمنى كخبطة قدم الغراب، فإنه يخرج حراً طليقاً ويفوز بغنيمة المعرفة. وإن فشل فسيظل عالقاً في لجة بلا قرار وينتهي به المطاف في «الأزرق بين السماء والماء».
شاهد حاضر غائب
خالد الصغير كثيراً ما لعب تلك اللعبة الأثيرة مع جدته نظمية. لكنه، وعلى رغم براعته، انتهى به المطاف معلقاً في الزمن داخل ذلك «الأزرق». ما كان لتلك الضحية البريئة احتمال الأهوال التي واجهتها أربعة أجيال من عائلة آل بركة ممن نقشت حكايتهم في لوح محفوظ فوق وجه نظمية. بعد فرض إسرائيل حصارها على غزة وتدميرها القطاع بقصف جوي مرعب في عام 2006، يتقوقع خالد داخل نفسه وينسرب بعيداً داخل «الأزرق»، تحيله الصدمة قعيد كرسي متحرك لا يتكلم ولا يتحرك من دون معاناة من أي مرض عضويّ. تحوله أبو الهوى إلى شاهد حاضر غائب على كل فصول الحكاية. وهو يروي لنا الحكاية حتى قبل ميلاده، يقول خالد: «كنت موجوداً قبل أن أولد»، يلعب مع أخت جدته الصغيرة مريم عند نهر سكرير الذي يقطع قرية بيت دراس قرب غزة قبل سقوطها بيد الإسرائيليين. وتطلق مريم عليه اسم خالد، صديقها المتخيل، وتتعلم منه القراءة والكتابة ونظم الأغنيات.
تلجأ أبو الهوى إلى الواقعية السحرية لتعبر بنا داخل عقول شخصياتها التي تتعرض لصدمات نفسية عنيفة وتستطلع معنا فلسفتهم لواقعهم الصادم على نحو يمكنهم من الصمود والتماس القوة. يذهب خالد إلى «الأزرق» ويتنقل عبر الزمن بين ماضي بيت دراس وحاضر غزة. ولكن لا بد من الإشارة هنا سريعاً إلى أن شخصية خالد، البالغ عشر سنوات، يكتنفها أحياناً قدر من اللاوقعية. فالصبي يتحدث أحياناً بفلسفة عميقة وقدرات تحليلية تفوق سنوات عمره المعدودة. أما نظمية الشابة فتتعرض خلال سقوط قريتها للاغتصاب الجماعي على يد الجنود الإسرائيليين الذين يقتلون أختها الصغيرة مريم أمام ناظريها، لكنها ترى مريم وهي تنهض من بركة دمائها وتأمرها بالرحيل وإنجاب طفلة وتسميتها بألوان. نظمية المغتصبة جماعياً والمصدومة حتى النخاع تطيع أختها وترحل إلى غزة بعدما يتركها الجنود ولكنها تظلّ طيلة حياتها تبصر مريم وتسمعها وتكلمها كما لو كانت حية ترزق.
ولعلّ الرؤية التي عالجت بها أبو الهوى اغتصاب نظمية الجماعيّ تسدد ضربة قاضية لفتوى الونشريسي في تاريخنا العربيّ. تلك الفتوى سيئة الصيت التي قضت بمعادلة العرض قبل الأرض، والتي كانت سبباً في هروب مئات الآلاف من الأندلسيين من أرضهم وتركها للغزاة. ضاعت الأندلس يومذاك ثم تكررت المأساة في فلسطين، عندما عمدت العصابات الصهيونية إلى القتل والاغتصاب ففرّ كثيرون من الفلسطينيين خوفاً على ضياع العرض فأضاعوا الأرض. نظميةُ سوزان أبو الهوى المغتصبة والتي يعرف الجميع بأمر اغتصابها كانت مخطوبة. لكنّ خطيبها، عطية، لم يلفظها أو يتنكر لها، بل حباها بكل الحب وتزوجها. وعند ولادة نظمية ابنها البكر، مازن، رأت في وجهه صورة مغتصبها. عيونه زرقاء رمادية وبشرته بيضاء، هي ملامح الجندي الإسرائيلي الذي ولغ في اغتصابها. رفضت نظمية حمل الصبي وإرضاعه. لكنّ زوجها احتضن الوليد البريء وهددها برمي يمين الطلاق عليها إن لم ترضعه. ترضع نظمية الصبي فتتداركها الأمومة وتتقبل ابنها. وعندما يكبر مازن ويحاول بعضهم رميه بالشتيمة المعهودة، ابن حرام لجندي إسرائيلي، تنتفض نظمية الجبارة وزوجها ويرغمان من تفوهوا بذلك على دفع الثمن. يشبّ مازن ويصبح فدائياً بطلاً تلاحقه إسرائيل وتعتقله فتهتف غزة كلها باسمه فخراً وإكباراً.
رموز الشتات
وفي ما يخصّ أبناء الشتات الفلسطيني، تقدم أبو الهوى نموذجين مهمين في روايتها. محمد الذي يولد في الكويت ثم يشبّ ويترعرع في الولايات المتحدة بعد هجرة والديه، ممدوح وياسمين، إلى هناك. وعلى رغم أنه شخصية ثانوية في الرواية، هو يمثل بعض أبناء الفلسطينيين الذين يعانون أزمة في الهوية. محمد يكره غزة عندما يأخذه والداه إلى زيارتها، وهو يرفض الحديث بالعربية، ويكره اسمه ويغيره إلى آخر انكليزي ثم يتزوج بفتاة من أصول إسبانية تمقت كل ما هو عربي.
أما النموذج الآخر فهو نور ابنة محمد التي يناضل جدها، ممدوح، لأجل الحصول على حق حضانتها بعد وفاة محمد وهي ما زالت طفلة صغيرة. خلال السنوات القليلة التي تجمع نور بجدها، تعيش الحفيدة أجمل أيام حياتها وتتعلم العربية وتعشق قصص جدها عن فلسطين. ولكن بعد وفاته تضيع نور في دهاليز مؤسسة رعاية الأيتام الأميركية وتعاني هناك صنوفاً من العذاب والقهر. بعدما تكبر وتتخرج في الجامعة كمتخصصة في علم النفس، تعود نور إلى فلسطين لمساعدة أطفال غزة. وهناك تتعرف الى عائلتها وتقرر البقاء في الأرض التي غرس جدها محبتها في قلبها. نور- وخلافاً لوالدها- تشعر في غزة باسترداد بعضها الضائع منها منذ أمد بعيد. إنها في ذلك القطاع المحتل، المحاصر والمغلق، تحسّ بالاكتمال بعد طول خواء في أميركا على رغم كل ما وفرته لها من امتيازات وإمكانات. وقد يتساءل القارئ عن مدى واقعية ذلك، لكنّ مسائل الهوية والانتماء تظل أمراً غامضاً مرهوناً بمجال الشعور داخل النفس البشرية.
السرديّة الفلسطينة تزخر بصنوف شتى من الأهوال والعذابات، وحكاية أبو الهوى ما هي إلا حكاية منها. وعلى رغم بشاعات حرق بيت دراس وقتل أهلها واللجوء إلى غزة والاغتصاب والاعتقال والحصار والتشرد، وسوداوية مناخ الرواية، تنجح أبو الهوى باقتدار في إضحاك القارئ من الأعماق. وهي لا تفعل شيئاً بهذا الصدد أكثر من اختيار شخصياتها ببراعة وتركها تتكلم على سجيتها دونما تنميق أو تزويق. إن نظمية هي المعنية بهذا في المقام الأول، فهي بفطنتها وجرأتها وقلبها الكبير تتميز بلسان سليط لا طاقة لأحد على مواجهته. وهي تتحفنا بتعليقات لمّاحة، ظريفة، لاذعة وأحياناً بذيئة جداً. بيد أن اللغة البذيئة التي تتوافر الرواية على قدر منها تكسر مرارة الحكاية واسودادها وترطبها بفكاهات الحياة اليومية ومناكفاتها. والبذاءة شأنها شأن أي شيء آخر في السرد لا يحدد معناها ومغزاها إلا السياق. وعندما يكون السياق أبعد ما يكون من إثارة الغرائز وتهييجها، فإن البذاءة تصبح أداة سرديّة لا تتجاوز مهمتها حدود التشخيص الصادق والأمين شاهدلشخصية نظمية كما هي في الواقع. ومن هنا لا بد من أن يسجل لأبو الهوى أنها في هذه الرواية حفظت لنا جميعاً سنديانتنا الأصيلة الحاجة نظمية، جدتنا الفلسطينية، ستي وستك، صاحبة اللسان السليط والبذيء. صاحبة الهيبة والسطوة والظُرف التي تشد أوتار حنجرتها وتطلق سهام كلماتها النابية لتصيب كبد الحقيقة بلا لف ولا دوران. «ستنا» الفلسطينية تلك تخلدها لنا هذه الرواية، وكلما استبدّ بنا الحنين والشوق إليها، يكفي أن نغمس أنفسنا بين دفتي هذا الكتاب لنعود أطفالاً في حضرتها، «نتعربش» بأطراف ثوبها المطرز، فتمدّ يدها في «عِبّها» وترمي لنا بحكايا «الحامظ والحلو»، نتمسح بأعطافها وننتشي بعبير الزيت والزيتون والزعتر.
ظلّ لسان الحكاية الفلسطينية، وعقوداً طويلة، عربياً بامتياز. يحكي ويروي ويقصّ لجمهور ينطق بلغة الضاد. لكنّ مسرح الحوادث الذي كان محصوراً في البدء في فلسطين، أصبح بعد نحو سبعين سنة على النكبة يشمل العالم بأسره. وبدأت أجيال فلسطينية- ولدت أو شبّت في الشتات- تعبّر عن حكاياتها بألسنتها التي تنطق بها. صرنا نقرأ السردية الفلسطينية مثلاً بلسان إنكليزي قويم. سوزان أبو الهوى، سلمى الدباغ وليلاس طه هنّ جيل أسدى الى تلك السردية خدمة جليلة عبر تقديمها الى القارئ الإنكليزي بلغته، بعيداً من علل الترجمة وباستخدام المضامين أو الرموز الثقافية والأدبية الإنكليزية التي تجعل من الحكاية الأجنبية قريبة من نفوس الناطقين بتلك اللغة. كما أن جهود هؤلاء تساهم في كسر احتكار الحكاية الصهيونية، التي عبرت عن نفسها منذ البدء بألسنة الغرب، لمخيلة قراء تلك اللغات. علاوة على ذلك، فإن إنتاج هؤلاء الكتّاب يثري الحكاية الفلسطينية بتأملات وزوايا نظر جديدة نشأت وتلاقحت ضمن فضاءات فكرية وثقافية متنوعة، كما أنه يسلط الضوء على فصل مهم من فصولها يخصّ مصائر أبنائها ممن ولدوا وترعرعوا في الشتات الغربيّ تحديداً.
فوق أحفورة وجه الحاجة نظمية، تغزل أبو الهوى خيوط حكايتها ببراعة العنكبوت. تصطاد القارئ الذي يقع فريسة سرد محبوك بإتقان وتلعب معه لعبتها. تحدد له نقطتين عشوائيتين فوق رقعة يمتد وجهها بين صبا نظمية في قرية بيت دراس قبل سقوط فلسطين عام 1948 وإلى مشيبها في غزة المعاصرة. إن نجح القارئ/ الفريسة مثلاً في اقتفاء الخط الممتد من أذن الحاجة اليسرى وتتبعه في تقوّسه إلى حاجبها وهبط منه في الأخدود العميق الذي يقطع جبينها ثم ينحني ليعانق ثلاث هالات رقيقة تدمغ زاوية عين نظمية اليمنى كخبطة قدم الغراب، فإنه يخرج حراً طليقاً ويفوز بغنيمة المعرفة. وإن فشل فسيظل عالقاً في لجة بلا قرار وينتهي به المطاف في «الأزرق بين السماء والماء».
شاهد حاضر غائب
خالد الصغير كثيراً ما لعب تلك اللعبة الأثيرة مع جدته نظمية. لكنه، وعلى رغم براعته، انتهى به المطاف معلقاً في الزمن داخل ذلك «الأزرق». ما كان لتلك الضحية البريئة احتمال الأهوال التي واجهتها أربعة أجيال من عائلة آل بركة ممن نقشت حكايتهم في لوح محفوظ فوق وجه نظمية. بعد فرض إسرائيل حصارها على غزة وتدميرها القطاع بقصف جوي مرعب في عام 2006، يتقوقع خالد داخل نفسه وينسرب بعيداً داخل «الأزرق»، تحيله الصدمة قعيد كرسي متحرك لا يتكلم ولا يتحرك من دون معاناة من أي مرض عضويّ. تحوله أبو الهوى إلى شاهد حاضر غائب على كل فصول الحكاية. وهو يروي لنا الحكاية حتى قبل ميلاده، يقول خالد: «كنت موجوداً قبل أن أولد»، يلعب مع أخت جدته الصغيرة مريم عند نهر سكرير الذي يقطع قرية بيت دراس قرب غزة قبل سقوطها بيد الإسرائيليين. وتطلق مريم عليه اسم خالد، صديقها المتخيل، وتتعلم منه القراءة والكتابة ونظم الأغنيات.
تلجأ أبو الهوى إلى الواقعية السحرية لتعبر بنا داخل عقول شخصياتها التي تتعرض لصدمات نفسية عنيفة وتستطلع معنا فلسفتهم لواقعهم الصادم على نحو يمكنهم من الصمود والتماس القوة. يذهب خالد إلى «الأزرق» ويتنقل عبر الزمن بين ماضي بيت دراس وحاضر غزة. ولكن لا بد من الإشارة هنا سريعاً إلى أن شخصية خالد، البالغ عشر سنوات، يكتنفها أحياناً قدر من اللاوقعية. فالصبي يتحدث أحياناً بفلسفة عميقة وقدرات تحليلية تفوق سنوات عمره المعدودة. أما نظمية الشابة فتتعرض خلال سقوط قريتها للاغتصاب الجماعي على يد الجنود الإسرائيليين الذين يقتلون أختها الصغيرة مريم أمام ناظريها، لكنها ترى مريم وهي تنهض من بركة دمائها وتأمرها بالرحيل وإنجاب طفلة وتسميتها بألوان. نظمية المغتصبة جماعياً والمصدومة حتى النخاع تطيع أختها وترحل إلى غزة بعدما يتركها الجنود ولكنها تظلّ طيلة حياتها تبصر مريم وتسمعها وتكلمها كما لو كانت حية ترزق.
ولعلّ الرؤية التي عالجت بها أبو الهوى اغتصاب نظمية الجماعيّ تسدد ضربة قاضية لفتوى الونشريسي في تاريخنا العربيّ. تلك الفتوى سيئة الصيت التي قضت بمعادلة العرض قبل الأرض، والتي كانت سبباً في هروب مئات الآلاف من الأندلسيين من أرضهم وتركها للغزاة. ضاعت الأندلس يومذاك ثم تكررت المأساة في فلسطين، عندما عمدت العصابات الصهيونية إلى القتل والاغتصاب ففرّ كثيرون من الفلسطينيين خوفاً على ضياع العرض فأضاعوا الأرض. نظميةُ سوزان أبو الهوى المغتصبة والتي يعرف الجميع بأمر اغتصابها كانت مخطوبة. لكنّ خطيبها، عطية، لم يلفظها أو يتنكر لها، بل حباها بكل الحب وتزوجها. وعند ولادة نظمية ابنها البكر، مازن، رأت في وجهه صورة مغتصبها. عيونه زرقاء رمادية وبشرته بيضاء، هي ملامح الجندي الإسرائيلي الذي ولغ في اغتصابها. رفضت نظمية حمل الصبي وإرضاعه. لكنّ زوجها احتضن الوليد البريء وهددها برمي يمين الطلاق عليها إن لم ترضعه. ترضع نظمية الصبي فتتداركها الأمومة وتتقبل ابنها. وعندما يكبر مازن ويحاول بعضهم رميه بالشتيمة المعهودة، ابن حرام لجندي إسرائيلي، تنتفض نظمية الجبارة وزوجها ويرغمان من تفوهوا بذلك على دفع الثمن. يشبّ مازن ويصبح فدائياً بطلاً تلاحقه إسرائيل وتعتقله فتهتف غزة كلها باسمه فخراً وإكباراً.
رموز الشتات
وفي ما يخصّ أبناء الشتات الفلسطيني، تقدم أبو الهوى نموذجين مهمين في روايتها. محمد الذي يولد في الكويت ثم يشبّ ويترعرع في الولايات المتحدة بعد هجرة والديه، ممدوح وياسمين، إلى هناك. وعلى رغم أنه شخصية ثانوية في الرواية، هو يمثل بعض أبناء الفلسطينيين الذين يعانون أزمة في الهوية. محمد يكره غزة عندما يأخذه والداه إلى زيارتها، وهو يرفض الحديث بالعربية، ويكره اسمه ويغيره إلى آخر انكليزي ثم يتزوج بفتاة من أصول إسبانية تمقت كل ما هو عربي.
أما النموذج الآخر فهو نور ابنة محمد التي يناضل جدها، ممدوح، لأجل الحصول على حق حضانتها بعد وفاة محمد وهي ما زالت طفلة صغيرة. خلال السنوات القليلة التي تجمع نور بجدها، تعيش الحفيدة أجمل أيام حياتها وتتعلم العربية وتعشق قصص جدها عن فلسطين. ولكن بعد وفاته تضيع نور في دهاليز مؤسسة رعاية الأيتام الأميركية وتعاني هناك صنوفاً من العذاب والقهر. بعدما تكبر وتتخرج في الجامعة كمتخصصة في علم النفس، تعود نور إلى فلسطين لمساعدة أطفال غزة. وهناك تتعرف الى عائلتها وتقرر البقاء في الأرض التي غرس جدها محبتها في قلبها. نور- وخلافاً لوالدها- تشعر في غزة باسترداد بعضها الضائع منها منذ أمد بعيد. إنها في ذلك القطاع المحتل، المحاصر والمغلق، تحسّ بالاكتمال بعد طول خواء في أميركا على رغم كل ما وفرته لها من امتيازات وإمكانات. وقد يتساءل القارئ عن مدى واقعية ذلك، لكنّ مسائل الهوية والانتماء تظل أمراً غامضاً مرهوناً بمجال الشعور داخل النفس البشرية.
السرديّة الفلسطينة تزخر بصنوف شتى من الأهوال والعذابات، وحكاية أبو الهوى ما هي إلا حكاية منها. وعلى رغم بشاعات حرق بيت دراس وقتل أهلها واللجوء إلى غزة والاغتصاب والاعتقال والحصار والتشرد، وسوداوية مناخ الرواية، تنجح أبو الهوى باقتدار في إضحاك القارئ من الأعماق. وهي لا تفعل شيئاً بهذا الصدد أكثر من اختيار شخصياتها ببراعة وتركها تتكلم على سجيتها دونما تنميق أو تزويق. إن نظمية هي المعنية بهذا في المقام الأول، فهي بفطنتها وجرأتها وقلبها الكبير تتميز بلسان سليط لا طاقة لأحد على مواجهته. وهي تتحفنا بتعليقات لمّاحة، ظريفة، لاذعة وأحياناً بذيئة جداً. بيد أن اللغة البذيئة التي تتوافر الرواية على قدر منها تكسر مرارة الحكاية واسودادها وترطبها بفكاهات الحياة اليومية ومناكفاتها. والبذاءة شأنها شأن أي شيء آخر في السرد لا يحدد معناها ومغزاها إلا السياق. وعندما يكون السياق أبعد ما يكون من إثارة الغرائز وتهييجها، فإن البذاءة تصبح أداة سرديّة لا تتجاوز مهمتها حدود التشخيص الصادق والأمين شاهدلشخصية نظمية كما هي في الواقع. ومن هنا لا بد من أن يسجل لأبو الهوى أنها في هذه الرواية حفظت لنا جميعاً سنديانتنا الأصيلة الحاجة نظمية، جدتنا الفلسطينية، ستي وستك، صاحبة اللسان السليط والبذيء. صاحبة الهيبة والسطوة والظُرف التي تشد أوتار حنجرتها وتطلق سهام كلماتها النابية لتصيب كبد الحقيقة بلا لف ولا دوران. «ستنا» الفلسطينية تلك تخلدها لنا هذه الرواية، وكلما استبدّ بنا الحنين والشوق إليها، يكفي أن نغمس أنفسنا بين دفتي هذا الكتاب لنعود أطفالاً في حضرتها، «نتعربش» بأطراف ثوبها المطرز، فتمدّ يدها في «عِبّها» وترمي لنا بحكايا «الحامظ والحلو»، نتمسح بأعطافها وننتشي بعبير الزيت والزيتون والزعتر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.