خلق المدهون ثنائيات عازفة راقصة، أبدع في تحريك الأماميات والخلفيات، خلق مسرحا عريضا افتراضيا بمشاهد متحركة ومشاهد ثابتة تتحرك حين تقف الأخري، فلسطين والمخيم، المخيم والمهجر، فلسطين والمهجر، المدينة والوافد، الوافد والمقيم، اللغة والأصداء، وتعدد اللغات. تنوع الأصوات من الفحيح للصراخ. ثنائيات الهوية والمصير هي الموضوع، وأما الطرح الموسيقي فقد كان الأنسب في التعبير عن الازدواج والتقاطع والتوازي. وما قاله المدهون فيما قبل القراءة حول أسلوب السرد في أربع حركات كما الكونشيرتو تجاوز به النقاد لعقل القارئ مباشرة. وفي الحركة الثالثة لم يكن المدهون قد وصل لقمة نشوته فقرر إضافة ثنائية جديدة وهي الواقع والخيال، فخطا داخل روايته بشخصيته الحقيقية ربعي المدهون. قطع المسرح. قام بتحية شخصياته الخيالية. وأمسك عصا القيادة. وبدأ في قيادة معزوفته، لتبدأ الحركة الرابعة ثنائية التوازي. القدس حيفا. فخلق واقعا داخل الخيال. وخيالا داخل الخيال كما عرائس الماتريوشكا الروسية. وبعد فض كل العرائس نصل لمطار المغادرة. فنجان من القهوة وسؤال عن العودة أو المصير. بداية الرواية هي مفتاح فهمها. ماتت هنا ماتت هناك، الهنا والهناك. ثنائية المكان والتي لم تتوقف عند المكان، فالهنا كان هو الوطن والهناك هو الشتات، فأصبح الهنا هو الهنا والهناك هو الشتات، وكان المقيم هو المالك والوافد كان هو المحتل، فأصبح المقيم وافدا والمحتل مالكا، وكلما ضاقت الأرض أفرزت هنا آخر وهناك جديدا. أتت بقايا محرقة لتصنع مجزرة، وأتت وفود هاربة من العنصرية لتمارس عنصريتها، وبنت متحفا للمحرقة يطل علي متحف للمجزرة ويربطهما ترام معلق. وذكر المحرقة في ألمانيا يشبه ذكر دير ياسين في القدس، فعلوا بنا ففعلنا بغيرهم. وتسقط "بنا وبغيرهم" لتبقي فعلوا ففعلنا، وبيننا عربة ترام معلقة لتربط الفعلين، فمن فعل في اليهود هو غير اليهودي وما فعله اليهود هو لغير اليهودي دون التطرق لهوية الفاعل والمفعول المهم أن يكون الطرف الأضعف. أيضا لم يغفل المدهون ما يحدث من مجازر "مغسلة العرب" بلسان حال يتجاوز النكبة ذاتها، لا تقتلونا فنحن كفيلون بقتل أنفسنا. للتقاطع مع الخائن أصبح إسرائيليا، لا ليس خائنا بل باق هناك. كل مصائر النكبة من الباقي لللاجيء للمهاجر للعائد. وتجمع اليهود من الشتات ليرسلوا الفلسطينيين للشتات وكأن الشتات سيشعر بالبرد إن حوي بعض الأماكن الخاوية. وكما اليهود الذين تجمعوا من الشتات هل سيتجمع الفلسطينيون من الشتات؟ وهل سيتجمعون في فلسطين أم في أرض أخري؟ "هنا" أخري يكون أهلها هم الأضعف. فتعاد المجزرة بمحرقة تنتهي بمتحفين أحدهما لدير ياسين ويطل علي محرقة أخري. الشخصية الرئيسية وليد الدهمان. شخصية تم بناؤها ورسم ملامحها في رواية السيدة من تل أبيب والتي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 2010، وليد الدهمان الكاتب والصحفي الفلسطيني البريطاني، وصاحب حلم التعايش بالتخلي عن الحروب والتطرف من الطرفين اليهودي والفلسطيني، ويشاركه الحلم دانا الفنانة اليهودية الإسرائيلية، الهوية والعودة والسلام، ثلاثية السيدة من تل أبيب، يختزلها المدهون في مصائر لثنائيات التكوين، فالدهمان في مصائر هو المهاجر والعائد، وهو المواطن والسائح، هو الفلسطيني ذو الجنسية البريطانية، وبالطبع تنعكس كل تلك الثنائيات علي هويته المشوشة، وما تبنته دانا في السيدة من تل أبيب وهو الظلال السوداء التي تعرض لها اليهود في المحرقة وانعكست علي ما تعرض له الفلسطينيون من ظلال سوداء علي يد اليهود في مذبحة دير ياسين وما تلاها، تبلورت الفكرة في مصائر ووضحت في رؤية وليد الدهمان في نظرته لرؤية الضحايا للضحايا، والذي دفعه لزيارة متحف الهولوكوست في القدس ليقابل ثنائية أخري وهي متحف لمجزرة دير ياسين، لا يعبر الدهمان عن قناعة واضحة بل يرسخ وحدة المصير ليجتمع بثنائية أخري جولي زوجته إبنة الطبيب البريطاني المحتل لفلسطين أثناء الانتداب والفلسطينية الأرمنية إيفانا، ثنائية جولي الشخصية الأساسية الأولي في الرواية وأمها التي ماتت هنا ماتت هناك، إيفانا لم تغادر فلسطين مع زوجها طفلة بل امرأة لها ذكريات وتاريخ لم تنسه، ولها ببريطانيا حياة لا يمكن إنكارها، أضافت إيفانا ثنائية نثر الرماد بنهر بريطاني، وبيت فلسطيني، وبينما جولي التي لم تترب في فلسطين ولا تعرف عنها إلا من حكايات أمها ووليد زوجها إلا أنها وقعت هي الأخري في ثنائية الحنين لذكريات أمها فتفكر في بيع كل شيء والاستقرار بفلسطين، لا تناقش جولي قضية الاحتلال أو العنصرية فقط الحنين للأرض والذكريات. أحجار عكا وأسوارها المبللة بماء البحر، هي حقا تريد "العودة" ووليد لا يظن نفسه قادرا عليها. ينتقل المدهون لرواية تكتبها جنين الدهمان ابنة عم وليد، رواية "فلسطيني تيس" حول محمود الدهمان ليضيف ثنائية داخلية فجنين وزوجها باسم تقابلا في أمريكا وعادا لفلسطين ليتزوجا، باسم من الضفة وجنين أصولها من غزة، وبعد ترسيم الحدود يستحيل لباسم الفلسطيني الأمريكي الحصول علي عمل، فلسطينية إسرائيلية تتزوج من فلسطيني أمريكي، وتحيل القوانين الاسرائيلية حياتهما لجحيم فيغادر باسم المنزل ليحصل علي عمل في جامعة اسرائيلية، ويتبقي من زواجهما علاقة جسدية متقطعة متباعدة، وتأخذ جنين رأي وليد في روايتها الذي يقابل ثنائيات جديدة جنين في فلسطيني تيس وجنين ابنه عمه، وكذلك عمه محمود الدهمان وباقي هناك كما سمته في الرواية وأيضا باسم زوج جنين وباسم داخل الرواية. ثنائية قديمة تظهر بحديث لودا الروسية وجميل زوجها أصدقاء وليد، حديث الوردة الحمراء والبيضاء ثنائية العشق والصداقة، وثنائية التنازل والحفاظ، وكما لو كانت تلك الثنائيات هي ما شكلت تكوين وليد الدهمان في الأساس فلم تكن أزمة الهوية هي مصدر التشويش بل كانت مصادر تأكيد ثنائيات التكوين. بقية الشخصيات الثانوية مرسومة ببراعة واختزال معبر حتي ظهور المدهون في مشهد المطار وخوف الدهمان من كشف أمره كشخصية خيالية بنيت في الرواية السابقة للمدهون وإيقاف المؤلف والشخصية الخيالية في المطار ثنائية السخرية والأسي فالمؤلف فلسطيني الأصل بريطاني الجنسية والشخصية الخيالية فلسطيني الأصل بريطاني الجنسية وكلاهما يتم إيقافه في مطار إسرائيلي علي أرض فلسطينية. الحدث الرئيسي في الرواية هو الذهاب والعودة، ذهاب وليد وجولي لفلسطين وعودة رماد إيفانا لفلسطين، رحلة واحدة تحمل تلك الثنائية فما هو ذهاب لهما كان عودة لرمادها، والانتقال بين الأحداث داخل الرواية في حركاتها الأربعة كان رشيقا تتخلله الوقفات الوصفية البديعة يحمل تصاعد وتناغم ويخفي الكثير من الانطباعات بسخرية لاذعة، الحركة هي الفعل الغالب في الرواية، سرعات مختلفة من السير علي الأقدام للتحرك بالقطار، ومن السير بالسيارة للاستمتاع بجمال فلسطين للهروب من شارع المتشددين اليهود، والحركة من العناصر التي أبدع المدهون في توظيفها فهناك حركة منذ النكبة وحتي رحيل وليد وجولي من فلسطين في طريق عودتهما للندن، حتي القرار أجلاه لحين العودة. والمثير للسخرية أن العودة بمفهوم البيت والوطن لفلسطيني ونصف فلسطينية أصبح هو العودة لبريطانيا، لم نعرف في البداية ماحدث لجولي حين دخلت البيت لوضع رماد إيفانا، وسارت الأحداث متعاقبة متصاعدة لنعرف في النهاية ما حدث، مرة أخري ثنائية الحدث رفض اليهودي وطرده لجولي وسقوط التمثال الخزفي الذي يحوي رماد إيفانا، مالم ترده جولي هو ما حقق أمنية أمها بنثر رمادها علي الأحجار لتتنفسه فلسطين. زيارة وليد لقبة الصخرة والمسجد الأقصي هو الفلسطيني الأصل المسلم الديانة يستأذن الإسرائيلي القادم من الشتات لبلوغ الساحة وثنائية جديدة من الكوميديا السوداء التي يبرع بصياغتها المدهون، فالجندي الإسرائيلي يطلب من وليد الدهمان قراءة الفاتحة ليسمح له بالدخول للساحة، وكما جاءت ثنائية القدس جاءت أيضا ثنائية يافا حين قابل وليد جنين والمليونير اليهودي مارك والذي عرض علي وليد الفلسطيني البقاء والعيش في يافا، كوميديا سوداء أخري فالفلسطيني يفكر هل سيشتري بيته الفلسطيني من المليونير اليهودي؟ ليجيبه مارك بأن تلك الملكية ليست للبيع لكن يمكن أن يحصل له علي حق استغلال تسعة وتسعين عاماً. هكذا هو المدهون حين يضع القارئ أمام واقع قد يطول شرحه فيختزله بالحدث البسيط المباشر ملئ بالتناقض والازدواج والسخرية القاتمة، حتي الحديث عن زيارة المدهون لفلسطين والحديث عن البقاء بطرح ثنائية البقاء بالأرض ليقابلها الحضور المستمع لخطابه الحماسي بالبقاء علي قيد الحياة. المكان من لندنلفلسطين ورحلة تمتد يافا، حيفا، عكا، القدس، يقطعها ذكريات الضفة، وغزة، ومخيمات اللاجئين، والمدهون دون توقف وصفي طويل ينقل للقارئ صورة المكان كما يراها فيعشقها بإيقاع جميل، وصف متمازج مع السرد، وصف يعكس ثنائياته، فحتي سور عكا يكاد القارئ يسمع أصوات الأمواج وقد يبلل يده رذاذها، وكلما مرت الرواية بمكان نتعرض لحقائق حول المكان، من كان مالكه، ومن يملكه الآن، ومن يدير ما كان وماهو الآن. الوسيلة في الرواية هي اللغة والأسلوب، ولم تختلف اللغة في تلك الثنائيات المميزة للرواية والمتميزة في الاستخدام، ففي جنبات فلسطين كانت اللغة الفلسطينية والعبرية، العبرية والانجليزية، الانجليزية والروسية، الروسية والفلسطينية، ولم تكن اللغات معبرة فقط عن ثنائية وجود اللغة بل ثنائية الشخص فكل شخصية تجمع في تكوينها لسانين، قد يتبدد الفرق بينهما فلا نعرف أيهما اللسان الأصيل وأيهما المكتسب، بأي لسان يفكر كل منهم؟ وكانت اللغة ما بين ركاكة الألسن وفصاحتها في ازدواجيات المكان والحدث تعبيرا واضحا عن ازدواج الهوية واضطرابها، إنجليزية جولي الطلِقة وعربيتها الركيكة، وطلاقة لسان لودا الروسي وعربيتها الركيكة أيضا، ويبقي وليد الدهمان اللسان "المحايد" علي مسافة واحدة من كل الألسن، حتي العبرية، يقرأها وينطقها. وكما اللسان تعبيرا عن الهوية فقد أثار المدهون الكثير من الفضول هو فهم هوية وليد الدهمان، والتي تمزقت أو تبددت ما بين الأصل والحياة والثقافة وتعدد الألسن. وفي رواية المدهون "مصائر" تجاوزت اللغة دورها كأدة تواصل عقل المؤلف بعقل القارئ لتتحول لعنصر من عناصر فهم إشكالية مصائر من فرض عليهم التواصل بلغات ليست بلغاتهم وبلسان ليس بلسانهم، فيأتي اليهود من الشتات يتحدثون العبرية ويفرض علي الفقراء منهم تعلم العربية ليتمكنوا من الحياة في الأحياء الفقيرة بجوار من تبقي من الفلسطينيين وفي نفس المكان يضطر الفلسطينيون لتعلم البعض من العبرية، ولا تقف اللغة في التواصل عن التعبير، فكما هي وسيلة هي انعكاس لثقافة وبالتأكيد لهوية، وفي مصائر وضع المدهون ثنائية أخري للغة في الاستخدام ما بين الوسيلة كأسلوب وبين الوسيلة كتعريف بالشخصية، ولم يقف المدهون عند ثنائيات اللسانيات متعددة الجنسيات بل وصل لثنائية اللغة الفلسطينية الفلسطينية فحتي اللكنات المحلية تنوع في إظهارها، وكان واضحا في الدهمان التعرف علي أصل الجندي الإسرائيلي بالقطار. أما لغة النص ذاته أو لغة المؤلف التي استخدمها في الوصف والسرد فهي لغة بديعة بسيطة المفردات والبلاغيات، لغة نقدية ساخرة تبرز الأحداث والتناقضات في الحال والمكان. الدافع في رواية مصائر يتنوع في مظهره ما بين العودة والخلاص والبقاء والانتقام كما يظهر في أفكار الشخصيات بالرواية، دون أن تتعارض مع دافع المؤلف في طرح قضية الهوية من خلال رصد مصائر النكبة والهولوكوست، ما بين دافع جولي بتحقيق رغبة أمها لدافع جنين بإكمال روايتها "فلسطيني تيس" لدافع "باقي هناك" بالبقاء ودافع باسم في الحصول علي عمل، في ظل تنوع كل تلك الدوافع تبرز فكرة البقاء بمفهومها الحيوي (السكن والطعام والتزاوج والعلاج) كدافع ومبرر، فالمصائر بعد النكبة تجاوزت قضية الوجود لقضية البقاء كما عرض المدهون شخصياته، لنصل لدافع المدهون ذاته، فهو يطرح "من وجهة نظره" واقع المصائر من بعد النكبة وحتي الآن، نهاية الهولوكوست وبداية النكبة، والتحول من القضية للبقاء، هل هو رصد لواقع أو طرح لحل؟ وهل فكرة التعايش والتخلي عن العنف والتطرف من الطرفين والمطروحة في رواية السيدة من تل أبيب هي ما نجده منعكسا هنا؟ أم هذا الرصد يعد تبشيرا بما سيأتي؟ وبين الطرح والتبشير نجد ترسيخ بنمط تكراري لازدواجية الهوية وترسيخ بنمط تكراري لوحدة الاحتياج والمصير (السكن والطعام والتزاوج والعلاج) ترسيخ لوقوف المحتاج أمام المانح للحصول علي فرصة عادلة في العمل، ترسيخ لفكرة النصف إسرائيلي صاحب الفرصة الأكبر في البقاء وممارسة الحق الانتخابي. الزمن في مصائر ككل عناصر الرواية يجمع الثنائيات فالزمن الرئيسي للرواية هو عشرة أيام معاصرة لرحلة وليد وجولي لفلسطين، وداخل الإطار الزمني تطل أزمنة أخري، من النكبة وحتي الآن. والآن في مصائر تتعدد فيها الأزمنة فالآن عند جنين تختلف عن مثيلتها عند باقي هناك والحركة بين الأزمنة كانت رشيقة للغاية فلا نشعر بأننا الآن عدنا للوراء أو سبقنا للأمام، لكن الوقفات الزمنية الواضحة في الرواية هي النكبة وترسيم الحدود والأزمنة الفرعية لأحداث بينهما. رواية مصائر هي رواية فريدة ظهر غلافها الأمامي بالبوابة ذات الدلفتين، ثنائية الخروج والعودة، ولا يبقي إلا دلالات قد تعبر عن مقاصد النص ودوافع المؤلف، فتعطي انطباعات خاصة للأمكنة أو الأحداث أو الرغبات، ومن فلسطيني تيس وهو اسم محمود الدهمان الملقب بباقي هناك في رواية جنين ابنه عم وليد الدهمان، التيس تسمية ذات دلالة هو ذكر ماشية ويطلق علي ذكر الماعز والوعل والغزال والجدي حين يمر عليه عام، وينطبق علي التيس مقولة "أكل ومرعي وقلة صنعة" وظيفته أن يعشر الإناث المدرة للألبان والنسل، وهذا التيس هو الباقي هناك ليبقي ويسمي أبناءه بأسماء المدن الفلسطينية بداية من ابنه الأكبر المسمي فلسطين وحتي جنين، وجنين بكسر الجيم هو اسم مدينة فلسطينية وأصل الاسم عبري ويعني الماء والخضرة والوجه الحسن، مدينة "ولادة" تدل علي الخصوبة، ونلاحظ فرصة جنين في العمل والحصول علي تأمين اجتماعي وانعدام فرصة فلسطين رغم كون الاثنين يحملان الجنسية الإسرائيلية. دلالة أخري في قصة الشاب الفلسطيني الحاصل علي الجنسية الكندية والذي طالبت السلطات الكندية بإحضار جثمانه للدفن بكندا ثنائية مثير للجدل، فأبوه لا يمكنه السفر لفلسطين لتشييع جنازته ويرفض دفنه في كندا فيدفن الشاب بمفرده في فلسطين بلا عائلة، كما لو كانت الأرض تحولت من كونها الوطن لكونها القبر، وهذا ربما ما حدث لإيفانا والدة جولي فكان الوطن هو مقبرة لرمادها. دلالات كثيرة علي شكل عام للحياة في فلسطين بعد النكبة وحتي الآن، تفاعل المجتمع المتعدد والمختلف المصادر والمتجمع من الشتات والطارد للفلسطينيين لشتات جديد، لم تظهر أي انفعالات أو انطباعات للعلم أو الملابس العسكرية، دليل تحول مفهوم البقاء في الأرض منذ "باقي هناك" وحتي الآن من بقاء النضال والكفاح ضد المحتل إلي بقاء علي قيد الحياة بما يوفره المحتل من أدوات، تبدد القضية وتلاشيها في الداخل، واختصار الوجود في قاعدة الاحتياجات الإنسانية الحيوية المباشرة، مع تحول الجنسية الإسرائيلية للجنسية الاولي والأصل الفلسطيني بالجنسية الإسرائيلية لدرجة من التساوي في حقوق العمل والانتخاب والتأمينات الصحية والاجتماعية، وعدم الاكتراث بأي جنسية أخري حتي لو كانت الأمريكية في حالة باسم زوج جنين أو بريطانية في حالة وليد الدهمان نفسه. يطرح المدهون واقعا يغاير ما نعرفه عن فلسطين الآن، كيف هي حياة المخيمات قياسا بالضفة وغزة وأخيرا قياسا بمن بقوا هناك وتجنسوا بالجنسية الإسرائيلية، لم يفرض رأيه لكنه مرر وجهة نظره، ففي نماذج الشتات الفلسطيني داخل أرض فلسطين كانت جنين هي الأسعد حظا، عرض المدهون بتكرار واضح رغم تنوعه مأساة الهوية والانتماء، ولم يقصرها أو يقتصرها علي الأزمة الفلسطينية فقط، بل تطرق لمثيلتها اليهودية في يهود عرب قادمين من اليمن فلم يحافظوا علي يمنيتهم ولم يتحولوا لاستثمار إسرائيليتهم فبقوا هم أيضا هناك ليصبحوا جيرانا للباقي هناك، ليعرض المكان القديم ككل باق هناك لا يهم أصوله ولا قوميته ولا ديانته، والمكان الحديث بدولة إسرائيلية تدير وتتحكم ويقابلها مصاعب التطرف اليهودية والفلسطينية. وتظهر اللغة العبرية كلغة قومية تعبر عن دين وهوية بينما العربية تعبر عن أصول من بقوا هناك، كما الإشارة لاعتماد اللغة العربية كلغة رسمية داخل الدولة، فيكون كل ما هو عبري أو فلسطيني مقبولا وله فرصة مشروطة وكل ما هو غير ذلك يلقي مصير باسم بلا عمل وبلا تأمين. دخول المدهون في الرواية بشخصيته وخطابه الحماسي حول ما هو لنا من أرض وزيتون، والذي انتهي بسخرية لاذعة تخطت الخطاب الملحمي وتخطت قضية الوجود وتخطت كل ما عرفناه عن معاناة صاحب الأرض تحت إدارة المحتل، لتصل بنا لقضية مجتمعية يطالب فيها المجتمع ببعض العدل في التوزيع من المحتل، وكأن القضية لم تعد وجود المحتل بل مطالبته بالعدل. أعتقد أن المدهون لا يدعو لحل ما في روايته، ولا أراها إعادة طرح للقضية، فالمصائر هي ما تؤول إليه حتميا الأشياء بحتمية الأقدار، وهنا يجب العودة للنظر للقضية من واقع الكونشيرتو السردي للمدهون بدأت القضية بحركة في المقدمة وخلفيات ثم تقدمت الخلفية لتحتل الأمامية وتعود الحركة الأولي للخلفية وهكذا حتي الحركة الأخيرة حين تعزف جميع الآلات بتناغم في الحركة الأخيرة. هذا ما يطرحه المدهون يجعلنا نري تناغم كل المتناقضات في حركة الأوركسترا الكامل، وكما يمكن أن نري كل حركة منفصلة فنفهم القضية بزاوية ما لا نفهم لحنها ولا نستعذب نغمتها فيدفعنا للرغبة في معرفة مصير تلك الحركة، المصير الحتمي لها. وهو التناغم في النهاية. رواية خطيرة بعنوان "مصائر كونشيرتو الهولوكوست والنكبة". المصير المشترك لضحايا الهولوكوست والنكبة. مصير الضحايا. ثنائية التساوي بين الضحايا. والمصير الحتمي المشترك لتلك الضحايا. رواية خطيرة ومصائر أخطر وبراعة فريدة من ربعي المدهون.