► «مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة» تساوى بين الفلسطينيين واليهود كضحايا لمأساة إنسانية "خذوا بعضي وكل روحي إلى عكا يعتذران لها حارة حارة. خذوا ما تبقى مني وشيعوني حيث ولدت، مثلما ستشيعني لندن حيث أموت. يا أصدقائي وأحبتي، يوماً ما، لا أظنه بعيداً، سأموت. أريد أن أدفن هنا وأن أدفن هناك".. كلمات ساقها الكاتب الفلسطينى ربعى المدهون على لسان إيفانا، إحدى شخصيات روايته "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة" التى توجت أخيراً بالجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر" 2016. حيث تعبر كلماتها بصدق وعمق عن معاناة فلسطينى الخارج الذى يحلم بالعودة أو حتى دفن بعض رفاته فى وطنه تعويضا عن عدم تحقيق هذا الحلم خلال الحياة، وفى نفس الوقت يجابه صعوبة التخلى عن منفاه الذى أُجبر على اللجوء له، وعاش فيه تجربة الشتات بما فيها من صراع مستمر خلال البحث عن الهوية والانتماء. ترجع أحداث "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة", الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات فى بيروت، ومكتبة كل شيء بحيفا, إلى زمن ما قبل النكبة لتلقي ضوءًا على المأساة الراهنة المتمثلة في الشتات وفى الاستلاب الداخلي، وهى رواية ذات طابع بوليفوني (أى تتضمن أصواتا متنوعة تتفاعل وتحكى كلٌ بدوره), تستعير رمز الكونشرتو لتجسد تعدد المصائروعناصر الحكى. ووصفها بيان لجنة تحكيم الجائزة باعتبارها "رواية تضيف إلى السرد الفلسطيني أفقًا غير معهود، تتناول في آن مأساة فلسطين من جوانبها كافة". يرصد المدهون فى روايته جانبًا من معاناة الفلسطينيين عبر التاريخ، بداية ممن غادروا بلادهم التي منعوا من العودة إليها، وآخرين اضطروا للبقاء، فأصبحوا بحكم الواقع الجديد مواطنين في دولة الاحتلال ويحملون جنسيتها، ليتجاوز في حكايته عرض القضية الفلسطينية، عارضًا الحياة اليومية تحت ظل الاحتلال لفلسطينيين أصبحوا رغمًا عنهم مواطنين في "الكيان الصهيوني" يعيشون كمنفيين داخل وطنهم، وكذلك حال من استطاع العودة ليستجدي حق إقامته في بلده من غرباء استولوا عليه، وفي الوقت نفسه يمُطر قارئه بأسئلة حول الشبه بين مجزرة الهولوكوست ومجازر الاحتلال. وتنتمى الرواية إلى ما يطلق عليه "أدب النكبة", خاصة ذلك الأدب الذى تم إنتاجه بعد اتفاقية أوسلو وتداعياتها عندما شعر المثقف الفلسطيني بخيبة أمل وأن أحلامه أو أحلام رفاقه في الشتات بالعودة قد تداعت وتحطمت، فانعكست مسألة الهوية المأزومة - على طريقة رواية "المتشائل" لإميل حبيبي- على نسبة كبيرة من الأدب الفلسطينى الذى رصد تجربة تلك المرحلة المهمة من القضية الفلسطينية ومعاناة أهلها فى الداخل والخارج والتى تنعكس على تيمات تلك الأعمال الأدبية حيث تبرز هيمنة فكرة التشبث بالوطن والأرض والهوية والألم من التمزق والانقسام الفلسطيني الحالى الذى وصلت معه القضية إلى حالة انسداد سياسي. واستخدم المدهون في روايته تقنية حركات الكونشرتو، والتي صنع منها قالبا يروي من خلاله حكاياته الأربع التي تُشّكل المعزوفة، والتي اعتمدت على بطلين، يتحرك كلٌ منهما في فضائه الخاص، ونثر حولهما حكايات فرعية عدة، ليتحولا في حركة الكونشرتو التالية إلى شخصيتين ثانويتين، وتتحرك الأحداث بإيقاعها الموسيقى الذي كتب حركاته، حتى يصل إلى الحركة الرابعة والأخيرة، ليكتمل الكونشرتو، وتجتمع الحكايات الأربع في اقترابها من أسئلة النكبة، والهولوكوست، وحق العودة.. إنها حقا رواية فلسطين الداخل والخارج. وقد استغرق منه العمل على الرواية أربع سنوات، وتطلب منه زيارة المدن الفلسطينية التي يتناولها في روايته، لأنه لم يعش فيها بالأساس لفترة طويلة، بسبب تهجيره للخارج. والربط بين حركة واتجاه السرد فى العمل الأدبي وحركات عمل موسيقي أسلوب ابتدعه في الأدب العربي الروائي اللبناني السوري الأصل الراحل إلياس مقدسي عندما دعا إلى ما اسماه "القصة السيمفونية "التي تقوم على حركات بوليفونية تتكامل في النهاية. ففي الحركة الأولى من حركات الكونشرتو في "مصائر" تحب الأرمينية الفلسطينية إيفانا أردكيان, المقيمة فى عكا القديمة, طبيبا بريطانيا في زمن الانتداب على فلسطين وتتزوجه ويرحلان إلى لندن عشية نكبة 1948 وتنجب منه بنتا، وتوصي إيفانا قبل وفاتها بحرق جثتها ونثر نصف رمادها في نهر التايمز في لندن. أما النصف الآخر فطلبت أن يؤخذ في إناء ويوضع في بيت أهلها في عكا الذي يسكنه يهود إسرائيليون أو يوضع في بيت في القدس. وتأتى حركة الكونشرتو الثانية عن جنين دهمان- إحدى فلسطينيى 1948- التي تكتب رواية "فلسطيني تيس" عن محمود دهمان الذي يعود سرا إلى المجدل من دون عائلته. تغلق الحدود بين إسرائيل وغزة. يفقد محمود عائلته. يتزوج، ويواجه حياته الجديدة، كفلسطيني في ما أصبح دولة إسرائيل... وكذلك قصتها مع زوجها الفلسطينى من الضفة الغربية الذى تتزوجه ويعيشان معا في يافا. ويصطدم زواجهما بالقوانين الإسرائيلية التي تجعل استمراره مستحيلا. أما الحركة الثالثة فكانت عن وليد دهمان وزوجته جولي ابنة إيفانا اللذين زارا فلسطين- لتنفيذ وصية إيفانا- فوقعا في حبها وفكرا في العودة. وتختتم بالحركة الرابعة عن زيارة وليد لمتحف (يد فشيم) لضحايا المحرقة النازية، حيث يحدث تماه بين ضحايا الهولوكوست اليهود وبين ضحايا مجزرة دير ياسين الذين قتلتهم منظمات صهيونية. ويتناول المدهون أيضا في الرواية معاناة اليهود الناجين من الهولوكوست عبر شخصية يهودية هي أفيفا، والتى عايشت المحرقة وكانت أحد الناجين منها، لكن ألم الذكرى ما زال يؤرق منامها، ويحول حياتها لشقاء دائم. هذا ما جعل جارها الفلسطينى "باقي هناك" يتعاطف معها ويصادقها رغم أنها حاولت ذات مرة حرق بيته. هذه التيمة عبر عنها المدهون على لسان "باقى هناك" الذى أبدى تعاطفه مع أفيفا وكان يناديها ربيعة فى محاولة منه لتعريب اسمها كلما سمع صرخاتها عندما تطاردها كوابيس المحرقة فى نومها: " مسكينة ربيعة، ما حدش سائل عنها أو عليها، لا جوزها ولا أولادها لثنين، والدولة بتبيع مأساتها ومأساة غيرها بالجملة وبالمفرق". أما زوجته حسنية التى كانت تنادى أفيفا ب «عفيفة» فترد عليه ملخصة المأساة الإنسانية التى يعيشها الفلسطينيون من وجهة نظرها " عفيفة زارها كابوس ألمانى مستعجل صحاها من عز النوم..الله يتوب علينا ويفرجها، الألمان حرقوا قلوب اليهود، واليهود بيحرقوا قلوبنا..إحنا إيش دخلنا، الله يحرق قلوب الجهتين". ويأتى ذلك فى محاولة منه لوضع مأساة النكبة ومأساة الهولوكوست على قدم المساواة فى ميزان المعاناة الإنسانية، وهو ما أوضحه المدهون دون مواربة فى مقابلة سابقة أجراها مع وكالة رويترز توقع خلالها أن تواجه "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة" هجومًا إسرائيليًّا بعد وصولها للقائمة القصيرة للبوكر؛ لأن "وضع النكبة إلى جانب الهولوكوست على قدم المساواة مسألة تزعج الإسرائيليين". وأكد أن الهدف من وضعه هذا العنوان هو "رفع المأساة إلى مستوى المأساة، فالمأساة هي المأساة والإنسان هو الإنسان بمن فيهم ضحاياهم، مشكلتنا أنهم لا يعرفون ضحاياهم"، مشيرا إلى أنه يقدم من خلال مشروعه الروائي نوعًا من الإجابة يتمثل في البحث عن قيمة التعايش. وقال إنه عمل على "أنسنة اليهودي والفلسطيني ووضعهما على مستوى إنساني واحد، وانطلقت للمحاكمة من الموقف الدرامي, فتركت كلا منهما يروي سرديته، والقارئ شاهد التشابهات، لكنه شاهد شخصيتين من لحم ودم.. الفلسطيني الضحية واليهودي الضحية". كما كشف أنه يتطلع إلى الانتقال بكل هذه الصورة إلى المستقبل: "وظيفتي أن أتحدى السردية السائدة الخاطئة أن أتطلع إلى المستقبل .. مستقبل آخر في ظل عالم آخر .. حقوق المواطنة حق العودة الفلسطيني، يتحقق التعايش عندما تتساوى حقوق الضحايا وعندما تتساوى حقوق الأحياء"، ويتسلح المدهون في هذا الدرب بالجرأة، مؤكدا : "على الكاتب أن يتحلى بالجرأة الكاملة ولا يحسب حسابات أيديولوجيا، الحساب الوحيد الذي يجب الاهتمام به هو الحساب الفني وتحقيق عمل فني جيد وتحقيق عمل أدبي متكامل فيه رؤية مستقبلية". ويرى المدهون في سيرته الذاتية تجسيدًا للمشكلة الفلسطينية بكل أبعادها، ويوضح أنه قرر الانتقال إلى الكتابة الأدبية بعد أن وصل إلى اقتناع بانسداد الأفق السياسي بعد أوسلو، مضيفا: "في السياسة الطريق مسدود حسبما أرى، ومن خلال الأدب أشكل خطابي السياسي من زاوية مختلفة تمامًا ومن زاوية أوسع بكثير..السياسة تخرب الأدب، لكن الأدب يمكن أن يتحدث سياسة، في كل مرة نخلق أشياءً جديدة، وهكذا تكونت الرواية (الحكايات)". ومن جانبه يرى الناقد الفلسطيني فيصل دراج أن ربعى المدهون وصل في هذه الرواية إلى ما اسماه "الرواية العربية الشاملة"، معتبرا أنها أعطت رواية المسألة الفلسطينية "بداية جديدة"، وأنها تستكمل مسيرة الرواية الفلسطينية وتستفيد من الثلاثي الفلسطيني العظيم جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وإميل حبيبي، مضيفا أن رواية "مصائر"تنتسب ضمنا إلى رواية الفلسطيني الراحل غسان كنفاني "رجال في الشمس". ويضيف دراج أن المدهون في روايته "لا يختصر اليهودي في المنظور التعددي إلى بندقية وطلقات، فهو يراوح بين اللطف والنظر العنصري الجاهز ويظل، في الحالين، المخلوق الذي أنزل بالفلسطينيين عقاباً أقرب إلى اللعنة، ونثرهم على أصقاع العالم المختلفة. ولعل تعددية النظر هي التي استحضرت كلمة "الهولوكوست"، الموجود على عنوان الرواية، وواجهتها بمجزرة دير ياسين، كما لو كان اليهودي، مهما كانت صفاته، "نازيا ألمانيا" في صيغة أخرى، لا مكان في ذاكرته للوجع الفلسطيني، ولا مكان في الذاكرة الفلسطينية "لمحرقة" ليست مسئولة عنها. تتبقى أسئلة الضحية والجلاد، المعلّقة بلا جواب، في فضاء التاريخ". واعتبر دراج أن هذه الرواية "الجريئة" لم تثر بعد، في عالمنا العربي، ما يمكن أن تثيره من جدل قد يحتدم ولا يتوقف لفترة قصيرة، لكنها أيضًا إذا قُرئت بعمقٍ كاف ووعي منفتح ورحابة أصيلة فإنها ستكون نقطة انطلاق لرؤى إنسانية وفنية مغايرة، ويمكن اعتبارها بحق رواية تأسيسية في تاريخ الرواية العربية والفلسطينية معا. ويعتبر ربعى المدهون أول فلسطيني يفوز بالجائزة التي سبق أن وصل إلى قائمتها القصيرة في العام 2010 بروايته " السيدة من تل أبيب " والتى ترجمت على إثر ذلك إلى اللغة الإنجليزية، وصدرت عن دار " تيليجرام بوكس"، وفازت بجائزة "بان" البريطانية للكتاب المترجم. ولد ربعي المدهون في المجدل بعسقلان في فلسطين سنة 1945 وهاجرت عائلته إلى قطاع غزة عام 1948، واستقرت في مخيم خان يونس للاجئين. و درس التاريخ في جامعة الإسكندرية ولم يحصل على الشهادة الجامعية لأنه أبعد عن البلاد عام 1970 لأسباب سياسية ، وبعد رحلة تنقل في عدة عواصم عربية، يعيش المدهون حاليا في لندن حاملا الجنسية البريطانية، ويعمل محررا ثقافيا في جريدة "الشرق الأوسط". ومن أعماله السابقة : "الانتفاضة الفلسطينية : الهيكل التنظيمي وأساليب العمل"و"طعم الفراق .. ثلاثة أجيال فلسطينية في ذاكرة" و"السيدة من تل أبيب".