«التضامن» توافق على إشهار جمعيتين في محافظة البحيرة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    يوسف معاطي: سمير غانم لن يتكرر وأكثر كوميديان يضحك عادل إمام    الصحة: توقيع بروتوكول لدعم الولادات الطبيعية ضمن المبادرة الرئاسية «الألف يوم الذهبية»    للطلاب المتقدمين لمدارس التكنولوجيا التطبيقية.. طريقة دفع رسوم الاختبار    وزير العمل: التعليم الفني يشهد طفرة كبيرة في السنوات الأخيرة بتعاون وجهود ملحوظة من القطاع الخاص    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج الدراسات القانونية باللغة الفرنسية ب "حقوق حلوان"    وزير الري يتابع أعمال مصلحة الميكانيكا والكهرباء وموقف إعداد خطة لإدارة وصيانة محطات الرفع بمصر    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    وزير التنمية المحلية: شركاء التنمية حليف قوي في دفع العمل البيئي والمناخي في مصر    ترامب: لا أسعى للقاء جين بينج لكني قد أزور الصين تلبية لدعوته    ارتفاع حصيلة ضحايا إطلاق النار فى نيويورك ل5 أشخاص بينهم ضابط شرطة    ترامب: لا أسعى للقاء جين بينج لكني قد أزور الصين تلبية لدعوته    دخول 9 شاحنات مساعدات إنسانية إلى معبر كرم أبو سالم تمهيدًا لدخولها لقطاع غزة    وزير الخارجية يلتقي بقادة مجموعة الحكماء The Elders الداعمة للسلام    رئيس الوزراء البريطاني يعقد اجتماعا طارئا لبحث مسار السلام في غزة    رئيس اتحاد طنجة: عبد الحميد معالي اختار الانضمام إلى الزمالك عن أندية أوروبا    كريم رمزي يعلق على ستوري عبد القادر.. ويفجر مفاجأة بشأن موقف الزمالك    ثنائي المصري أحمد وهب وأحمد شرف ضمن معسكر منتخب الشباب استعدادًا لبطولة كأس العالم بشيلي    بعد القبض على رمضان صبحي.. تعرف على موقفة القانوني ومدة الحبس وموعد الأفراج عن اللاعب    نقيب المهندسين ل طلاب الثانوية العامة: احذروا من الالتحاق بمعاهد غير معتمدة.. لن نقيد خريجيها    بيان عاجل من الكهرباء بشأن انقطاع التيار بالجيزة.. والوزارة: انتهاء التغذيات في هذا الموعد    "حرارة مرتفعة ورطوبة خانقة".. الأرصاد تكشف عن تفاصيل طقس الثلاثاء    عاجل.. الشرطة تلقي القبض على رمضان صبحي بعد عودته من تركيا    أسعار الخضروات والفاكهة اليوم الثلاثاء في شمال سيناء    سميرة صدقي: محمد رمضان وأحمد العوضي مش هيعرفوا يبقوا زي فريد شوقي (فيديو)    العظماء السبعة في دولة التلاوة، خريطة إذاعة القرآن الكريم اليوم الثلاثاء    رسميًا الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 29-7-2025 في البنوك    حملة «100 يوم صحة» تقدم 19.2 مليون خدمة طبية مجانية خلال 13 يوما    تفاصيل القبض على رمضان صبحي في مطار القاهرة (إنفوجراف)    رابط التقديم الإلكتروني ل تنسيق الصف الأول الثانوي 2025.. مرحلة ثانية (الحد الأدني ب 6 محافظات)    ضياء رشوان: الأصوات المشككة لن تسكت.. والرئيس السيسي قال ما لم يقله أحد من الزعماء العرب    مصرع 30 شخصًا في العاصمة الصينية بكين جراء الأمطار الغزيرة    يقل فوج من المصطافين.. إصابة 59 شخصاً إثر انقلاب أتوبيس رحلات خلال العودة من مطروح    بفرمان من ريبيرو.. الأهلي يتراجع عن صفقته الجديدة.. شوبير يكشف    من «ظلمة» حطام غزة إلى «نور» العلم فى مصر    «رجب»: احترام العقود والمراكز القانونية أساس بناء الثقة مع المستثمرين    بدء اختبارات مشروع تنمية المواهب بالتعاون بين الاتحادين الدولي والمصري لكرة القدم    من هو ريان الرحيمي لاعب البنزرتي الذي أشاد به ريبيرو؟    تحت عنوان «إتقان العمل».. أوقاف قنا تعقد 126 قافلة دعوية    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    لا تليق بمسيرتي.. سميرة صدقي تكشف سبب رفضها لبعض الأدوار في الدراما    مرشح الجبهة الوطنية: تمكين الشباب رسالة ثقة من القيادة السياسية    تشييع جثماني طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما في حادث بالقاهرة    لجنة للمرور على اللجان الانتخابية بالدقهلية لبحث جاهزيتها لانتخابات الشيوخ    صراع على السلطة في مكان العمل.. حظ برج الدلو اليوم 29 يوليو    غادة عادل vs صبا مبارك.. انطلاق تصوير «وتر حساس» الجزء الثاني    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    تشييع جثمانى طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما فى حادث على الدائرى.. صور    «النادي ممكن يتقفل».. رسائل نارية من نصر أبوالحسن لجماهير الإسماعيلي    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    بدون تكلفة ومواد ضارة.. أفضل وصفة طبيعية لتبييض الأسنان    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية «الحاجة كريستينا» للفلسطيني عاطف أبو سيف والعيش مع الأضداد
نشر في صوت البلد يوم 18 - 10 - 2017

«جلس على الأرض قرب القارب وأخذ يخطّ اسم فضة بالعربية على جدار المركب. ثم جلس في الجهة المقابلة وخطّ اسم كريستينا بالإنكليزية».
في رواية عاطف أبو سيف «الحاجة كريستينا» تتناسل الحكايات تباعا، ما إن تفترق إحداها حتى تعود لتجتمع مع غيرها في إطار حكاية الخروج الأكبر، فلا غرابة إذن لو أتت جميعها مضمخة بجراحات القلب التي لم تكن تسمح إلا بنهايات مبتورة، أو ملتبسة. أبطال هذه الحكايات لاجئون أتوا من فلسطين المحتلة عام 1948 وسكنوا مخيم غزة حاملين معهم حنينهم وذكرياتهم، لذلك ترتكز الرواية في كثير من صفحاتها على ذاكرة هؤلاء المهجرين، تستردها عبر حكايات ما قبل غبار الشتات، تفعل هذا وفي ذهنها أن تجعل حياة الناس ممكنة، لأن حرب الفلسطيني مع الآخر هي حرب ذاكرة تعينه على إثبات وجوده وسرديته الخاصة. لكنها ذاكرة لا تنفي ما عمدت إليه الرواية من متابعة ما يجري في حاضر غزة من حكايات أبطالُها أسرى مناضلون وشهداء حالمون بالنصر، وآخرون باتوا يحلمون بالسفر بعد أن ضاقت الأرض بما رحبت، حين صارت غزة سجنا كبيرا رغم البحر الذي بات سلكا شائكا لا يسمح بالعبور إلى العالم الخارجي.
أول ما يلفتك في عنوان الرواية «الحاجة كريستينا» اجتماع مفردتين تنتمي الواحدة منهما إلى عالم يتضاد مع الآخر، لكنك ما إن تمضي في القراءة حتى تكتشف أن لهذا الائتلاف بين متضادين قصة غامضة، وسلسلة تبدأ بالتساقط شيئا فشيئا عن شجرة الغموض. بطلة هذه القصة فلسطينية تتحدث الإنكليزية بطلاقة، أو فلنقل إنها بريطانية عاشت في فلسطين جل عمرها. فمن هي الحاجة كريستينا هذه؟ تبدأ الرواية بمجيء سيارة تحمل سيدة في العقد الثامن من عمرها، وتذهب بها مع الريح، لتصبح هذه السيدة الشغل الشاغل لأهل المخيم، الذين يتسابقون في اختلاق القصص حول حادثة الاختفاء هذه. ومع هذه القصص نعرف أن هذه السيدة كانت قد خرجت طفلة في الحادية عشرة من عمرها من يافا بصحبة رجل إنكليزي اسمه جورج قبل النكبة بقليل للعلاج في لندن، وكان اسمها آنئذ (فضة). وتشاء الأقدار أن يأتي الاحتلال وتتقطع بها سبل العودة إلى أهلها الذين يرحلون عن الحياة. وهو ما دفع جورج إلى تبنيها وإبقائها معه مواطنة بريطانية إلى أن يتوفاه الله، فتدفع بها أختاه للعودة إلى أهلها، فيكون مخيم اللاجئين قرب غزة مكانها الذي تستقر فيه في خمسينيات القرن الماضي، وفيه تتزوج وتنجب ولدا يختفي بعد خروجه للتعلم في مصر في الثمانينيات. وتتوالى عليها الأيام حتى يناير/كانون الثاني عام 2009، حيث تقع حادثة الاختفاء هذه.
تتوالى الأحداث في ما يبدو سلسلة مضطربة وغير منتظمة من المفاجآت العجيبة والانتقالات المهولة بين المدهش والعادي، والغريب والمتوقع الذي يكون الشاهد على أن الأشياء تتحول من موضع إلى آخر، وتنتقل من الشيء إلى نقيضه. من هنا شاءت الأقدار أن تصبح (فضة) (كريستينا)، بما يعكس ازدواجية في الأصل جرت العادة على التعامل معها باعتبارها مصدر قلق وانتهاك. لكنها في هذه الرواية برزت مساحة تمكن الإنسان – كما يقول علي حرب في كتابه تواطؤ الأضداد – من صنع نفسه وبناء عالمه على سبيل التجاوز، فكريستينا تثبت عبر أكثر من موقف قدرة لافتة على اختراق وحدانية المرجع لمصلحة البعد المزدوج، بما يجعل الثبات مجرد وهم، والصفاء مجرد أكذوبة، ولا أدل على ذلك من أن فضة ابنة عوني السعيد المولودة في يافا، هي نفسها كريستينا ابنة جورج الذي سجلها بهذا الاسم. ونراها في مسار حياتها وقد حضرت في إطار بنية مركبة وملتبسة ومنفتحة على أكثر من وجه. لذلك ينقل الراوي العليم عنها أنها لم تغلق النافذة طوال حياتها، وأصرّت طيلة حياتها على تركها مشرعة للريح حتى حين يحمل الشتاء الأمطار أو الخريف الأتربة.
في إطار هذا المنطق التركيبي والتحويلي يحضر مفهوم الوطن ملتبسا، ومنقسما بين بريطانيا التي تحمل كريستينا جنسيتها، وأرض وصلتها ضائعة لا تعرف شيئا عن مصير عائلتها فيها. وإن كانت الهوية تفرض هيئة وشكلا معينين، فإن كريستينا التي كانت ترتدي البنطال والسترة وتتصرف بطريقة مغايرة لم يبد عليها أنها كانت فلسطينية، حتى حين عادت وغيّرت ملابسها التي أتت بها، ولبست كما بقية نساء المخيم الثوب الفلاحي أو البدوي، فإن شيئا فيها ظلّ يشير إلى هذا الجزء الملتبس من هويتها، وبدت كما الواقع بين كرسيين، ففي لندن رفضها أهل جورج، وفي المخيم في أول عهدها به رفض قاطنوه فكرة أن تكون واحدة منهم. إلا أن كريستينا كما أسلفنا كانت لها ممارساتها التي تنتقل فيها بسلاسة بين عالمين لا تراهما متعارضين، وكانت بارعة في التوفيق بين ماض مختلف وواقع جديد أصبحت تعيشه في غزة، التي فاق تعداد اللاجئين فيها سكانها الأصليين. وما كان لمثل كريستينا أن ترى تناقضا بين تأدية فرض الصلوات الخمس، والذهاب إلى الكنيسة تبتهل للعذراء من أجل أن تحميها من مصائب الدنيا. وما كان هذا ليحجب لقب الحاجة عنها لما عرفه أهل غزة عنها من قدرة على شفاء العلل. لتبقى بطلة الرواية أنموذجا يكسر كل صورة ذهنية جامدة هي جزء من أرشيف مختزن من القواعد الثابتة التي يضعها المجتمع.
الرواية عموما تحمل في طياتها دعوة للانضواء تحت مظلة واحدة عبّرت عنها قيادات نسائية خرجت في مظاهرات أسبوعية تحت عنوان «نساء ضد الانقسام» التي لم تعجب شرطيا رأى في خروج النسوة كاشفات رؤوسهن فجورا ينبغي التصدي له، وهو ما حرك كريستينا للقول: «قبل ما نطلب من الأحزاب إنهاء الانقسام خلينا نطلب من هالحارة تتوحد». وهو المنزع الاستبدادي ذاته الذي تتصدى له الرواية بمنطقها الخاص، حين حجب المجتمع عن أقوى امرأة عرفتها غزة (نادية) حقها في انتزاع أبسط حقوقها في الطلاق من الرجل الذي ذاقت منه الويلات، وكانت حجته في ذلك منطقا كاذبا يدّعي رفضه خروج المرأة عن إرادة زوج همّه الحفاظ على المرأة من مغبة الخروج بزينتها إلى المجتمع والاحتكاك بالرجال. عبر هذا المثال وآخر رأينا فيه أصحاب العقلية المعطوبة يرفضون تحويل بيت كريستينا بعد اختفائها إلى مكتبة، يتأكد لنا أن الروائي كان حريصا على التصدي لأصحاب العقلية الاصطفائية والنفسية المعطوبة الذين يدينون الآخر من خلال مفردات الشبح والجحيم، تحركهم إليها رغبتهم في إعادة إنتاج مجتمعات مغلقة، تكون مصنعا للكره والقهر والاستبداد معا.
نستنتج مما سبق أن سؤال الأضداد في الرواية كانت له وجهته الساعية إلى خلق حالة يأتلف معها النقيضان، ما يساهم في تقريب الحياة من حالة قفز أو رحلة بين نقطتين، واحدة نعرفها والثانية نجهلها، وهو ما كانت تصنعه كريستينا التي عاشت في عالمين وقفزت بين لحظتين، وأمسكت بكلتا يديها بصور مختلفة، بينما كانت كل قدم من قدميها تسير في درب مختلف. والراوي العليم في الرواية يسلم بالقول: «إن هذا هو عالم كريستينا الخاص، الذي يكون فيه زوجها أحد أهم أبطال المقاومة، فيما تواظب هي على زيارة قبر أحد الجنود البريطانيين الذين قتلوا وهم يحاولون احتلال غزة». أما مبررها في ذلك فهو راحتها التي تجدها في الحفاظ على توازن العالم. هنا يستوقفني منطق تحويلي يرفض العزلة ويحرص في الوقت نفسه على تحويل المتعدد والمختلف إلى صيغ للتجاور والتعايش، عند هذه النقطة، وعلى الرغم من جاذبية هذا الخروج عن نمطية مركزية جامدة، فإن السؤال يأتي فارضا نفسه بقوة: كيف تتساوى وطنية كريستينا مع إصرارها على زيارة قبور جنود إنكليز، في وقت لم تكن تجهل فيه أنهم من أخذ الأرض وسلمها لليهود؟ والحق أننا مهما حاولنا خلق حالة من الائتلاف مع الأضداد، فإن معطيات الوجود ووقائع الحياة تفرض بالضرورة خلق حالة اختلاف مع بعض الأضداد التي لا يمكن جمعها تحت إطار واحد، وإلا انتفت من حياتنا إمكانية الوصول إلى حلول نهائية في ما يخص مساعي البشر ومشاريعهم المتضادة، لأن أحدا منا لا يمكن أن يجمع كل حالات الطباق في بوتقة واحدة. ولا أجد خيرا من هذا المقطع من قصيدة درويش «طباق لإدوارد سعيد» الذي يختصر شراكة إنسانية لا تنفي سؤال الضحية وفيه يقول:
إن الهوية بنت الولادة لكنها
في النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماض. أنا المتعدد.. في
داخلي خارجي المتجدد. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن
من هناك لدربت قلبي على أن
يربي هناك غزال الكناية
«جلس على الأرض قرب القارب وأخذ يخطّ اسم فضة بالعربية على جدار المركب. ثم جلس في الجهة المقابلة وخطّ اسم كريستينا بالإنكليزية».
في رواية عاطف أبو سيف «الحاجة كريستينا» تتناسل الحكايات تباعا، ما إن تفترق إحداها حتى تعود لتجتمع مع غيرها في إطار حكاية الخروج الأكبر، فلا غرابة إذن لو أتت جميعها مضمخة بجراحات القلب التي لم تكن تسمح إلا بنهايات مبتورة، أو ملتبسة. أبطال هذه الحكايات لاجئون أتوا من فلسطين المحتلة عام 1948 وسكنوا مخيم غزة حاملين معهم حنينهم وذكرياتهم، لذلك ترتكز الرواية في كثير من صفحاتها على ذاكرة هؤلاء المهجرين، تستردها عبر حكايات ما قبل غبار الشتات، تفعل هذا وفي ذهنها أن تجعل حياة الناس ممكنة، لأن حرب الفلسطيني مع الآخر هي حرب ذاكرة تعينه على إثبات وجوده وسرديته الخاصة. لكنها ذاكرة لا تنفي ما عمدت إليه الرواية من متابعة ما يجري في حاضر غزة من حكايات أبطالُها أسرى مناضلون وشهداء حالمون بالنصر، وآخرون باتوا يحلمون بالسفر بعد أن ضاقت الأرض بما رحبت، حين صارت غزة سجنا كبيرا رغم البحر الذي بات سلكا شائكا لا يسمح بالعبور إلى العالم الخارجي.
أول ما يلفتك في عنوان الرواية «الحاجة كريستينا» اجتماع مفردتين تنتمي الواحدة منهما إلى عالم يتضاد مع الآخر، لكنك ما إن تمضي في القراءة حتى تكتشف أن لهذا الائتلاف بين متضادين قصة غامضة، وسلسلة تبدأ بالتساقط شيئا فشيئا عن شجرة الغموض. بطلة هذه القصة فلسطينية تتحدث الإنكليزية بطلاقة، أو فلنقل إنها بريطانية عاشت في فلسطين جل عمرها. فمن هي الحاجة كريستينا هذه؟ تبدأ الرواية بمجيء سيارة تحمل سيدة في العقد الثامن من عمرها، وتذهب بها مع الريح، لتصبح هذه السيدة الشغل الشاغل لأهل المخيم، الذين يتسابقون في اختلاق القصص حول حادثة الاختفاء هذه. ومع هذه القصص نعرف أن هذه السيدة كانت قد خرجت طفلة في الحادية عشرة من عمرها من يافا بصحبة رجل إنكليزي اسمه جورج قبل النكبة بقليل للعلاج في لندن، وكان اسمها آنئذ (فضة). وتشاء الأقدار أن يأتي الاحتلال وتتقطع بها سبل العودة إلى أهلها الذين يرحلون عن الحياة. وهو ما دفع جورج إلى تبنيها وإبقائها معه مواطنة بريطانية إلى أن يتوفاه الله، فتدفع بها أختاه للعودة إلى أهلها، فيكون مخيم اللاجئين قرب غزة مكانها الذي تستقر فيه في خمسينيات القرن الماضي، وفيه تتزوج وتنجب ولدا يختفي بعد خروجه للتعلم في مصر في الثمانينيات. وتتوالى عليها الأيام حتى يناير/كانون الثاني عام 2009، حيث تقع حادثة الاختفاء هذه.
تتوالى الأحداث في ما يبدو سلسلة مضطربة وغير منتظمة من المفاجآت العجيبة والانتقالات المهولة بين المدهش والعادي، والغريب والمتوقع الذي يكون الشاهد على أن الأشياء تتحول من موضع إلى آخر، وتنتقل من الشيء إلى نقيضه. من هنا شاءت الأقدار أن تصبح (فضة) (كريستينا)، بما يعكس ازدواجية في الأصل جرت العادة على التعامل معها باعتبارها مصدر قلق وانتهاك. لكنها في هذه الرواية برزت مساحة تمكن الإنسان – كما يقول علي حرب في كتابه تواطؤ الأضداد – من صنع نفسه وبناء عالمه على سبيل التجاوز، فكريستينا تثبت عبر أكثر من موقف قدرة لافتة على اختراق وحدانية المرجع لمصلحة البعد المزدوج، بما يجعل الثبات مجرد وهم، والصفاء مجرد أكذوبة، ولا أدل على ذلك من أن فضة ابنة عوني السعيد المولودة في يافا، هي نفسها كريستينا ابنة جورج الذي سجلها بهذا الاسم. ونراها في مسار حياتها وقد حضرت في إطار بنية مركبة وملتبسة ومنفتحة على أكثر من وجه. لذلك ينقل الراوي العليم عنها أنها لم تغلق النافذة طوال حياتها، وأصرّت طيلة حياتها على تركها مشرعة للريح حتى حين يحمل الشتاء الأمطار أو الخريف الأتربة.
في إطار هذا المنطق التركيبي والتحويلي يحضر مفهوم الوطن ملتبسا، ومنقسما بين بريطانيا التي تحمل كريستينا جنسيتها، وأرض وصلتها ضائعة لا تعرف شيئا عن مصير عائلتها فيها. وإن كانت الهوية تفرض هيئة وشكلا معينين، فإن كريستينا التي كانت ترتدي البنطال والسترة وتتصرف بطريقة مغايرة لم يبد عليها أنها كانت فلسطينية، حتى حين عادت وغيّرت ملابسها التي أتت بها، ولبست كما بقية نساء المخيم الثوب الفلاحي أو البدوي، فإن شيئا فيها ظلّ يشير إلى هذا الجزء الملتبس من هويتها، وبدت كما الواقع بين كرسيين، ففي لندن رفضها أهل جورج، وفي المخيم في أول عهدها به رفض قاطنوه فكرة أن تكون واحدة منهم. إلا أن كريستينا كما أسلفنا كانت لها ممارساتها التي تنتقل فيها بسلاسة بين عالمين لا تراهما متعارضين، وكانت بارعة في التوفيق بين ماض مختلف وواقع جديد أصبحت تعيشه في غزة، التي فاق تعداد اللاجئين فيها سكانها الأصليين. وما كان لمثل كريستينا أن ترى تناقضا بين تأدية فرض الصلوات الخمس، والذهاب إلى الكنيسة تبتهل للعذراء من أجل أن تحميها من مصائب الدنيا. وما كان هذا ليحجب لقب الحاجة عنها لما عرفه أهل غزة عنها من قدرة على شفاء العلل. لتبقى بطلة الرواية أنموذجا يكسر كل صورة ذهنية جامدة هي جزء من أرشيف مختزن من القواعد الثابتة التي يضعها المجتمع.
الرواية عموما تحمل في طياتها دعوة للانضواء تحت مظلة واحدة عبّرت عنها قيادات نسائية خرجت في مظاهرات أسبوعية تحت عنوان «نساء ضد الانقسام» التي لم تعجب شرطيا رأى في خروج النسوة كاشفات رؤوسهن فجورا ينبغي التصدي له، وهو ما حرك كريستينا للقول: «قبل ما نطلب من الأحزاب إنهاء الانقسام خلينا نطلب من هالحارة تتوحد». وهو المنزع الاستبدادي ذاته الذي تتصدى له الرواية بمنطقها الخاص، حين حجب المجتمع عن أقوى امرأة عرفتها غزة (نادية) حقها في انتزاع أبسط حقوقها في الطلاق من الرجل الذي ذاقت منه الويلات، وكانت حجته في ذلك منطقا كاذبا يدّعي رفضه خروج المرأة عن إرادة زوج همّه الحفاظ على المرأة من مغبة الخروج بزينتها إلى المجتمع والاحتكاك بالرجال. عبر هذا المثال وآخر رأينا فيه أصحاب العقلية المعطوبة يرفضون تحويل بيت كريستينا بعد اختفائها إلى مكتبة، يتأكد لنا أن الروائي كان حريصا على التصدي لأصحاب العقلية الاصطفائية والنفسية المعطوبة الذين يدينون الآخر من خلال مفردات الشبح والجحيم، تحركهم إليها رغبتهم في إعادة إنتاج مجتمعات مغلقة، تكون مصنعا للكره والقهر والاستبداد معا.
نستنتج مما سبق أن سؤال الأضداد في الرواية كانت له وجهته الساعية إلى خلق حالة يأتلف معها النقيضان، ما يساهم في تقريب الحياة من حالة قفز أو رحلة بين نقطتين، واحدة نعرفها والثانية نجهلها، وهو ما كانت تصنعه كريستينا التي عاشت في عالمين وقفزت بين لحظتين، وأمسكت بكلتا يديها بصور مختلفة، بينما كانت كل قدم من قدميها تسير في درب مختلف. والراوي العليم في الرواية يسلم بالقول: «إن هذا هو عالم كريستينا الخاص، الذي يكون فيه زوجها أحد أهم أبطال المقاومة، فيما تواظب هي على زيارة قبر أحد الجنود البريطانيين الذين قتلوا وهم يحاولون احتلال غزة». أما مبررها في ذلك فهو راحتها التي تجدها في الحفاظ على توازن العالم. هنا يستوقفني منطق تحويلي يرفض العزلة ويحرص في الوقت نفسه على تحويل المتعدد والمختلف إلى صيغ للتجاور والتعايش، عند هذه النقطة، وعلى الرغم من جاذبية هذا الخروج عن نمطية مركزية جامدة، فإن السؤال يأتي فارضا نفسه بقوة: كيف تتساوى وطنية كريستينا مع إصرارها على زيارة قبور جنود إنكليز، في وقت لم تكن تجهل فيه أنهم من أخذ الأرض وسلمها لليهود؟ والحق أننا مهما حاولنا خلق حالة من الائتلاف مع الأضداد، فإن معطيات الوجود ووقائع الحياة تفرض بالضرورة خلق حالة اختلاف مع بعض الأضداد التي لا يمكن جمعها تحت إطار واحد، وإلا انتفت من حياتنا إمكانية الوصول إلى حلول نهائية في ما يخص مساعي البشر ومشاريعهم المتضادة، لأن أحدا منا لا يمكن أن يجمع كل حالات الطباق في بوتقة واحدة. ولا أجد خيرا من هذا المقطع من قصيدة درويش «طباق لإدوارد سعيد» الذي يختصر شراكة إنسانية لا تنفي سؤال الضحية وفيه يقول:
إن الهوية بنت الولادة لكنها
في النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماض. أنا المتعدد.. في
داخلي خارجي المتجدد. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن
من هناك لدربت قلبي على أن
يربي هناك غزال الكناية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.