ساعات قليلة تفصلنا عن النتيجة النهائية لجائزة البوكر العربية، التي ينافس عليها ست روايات من السودان والمغرب ولبنان وفلسطين وسوريا وتونس والتي أُعلنت يوم الجمعة الموافق 13 فبراير الماضي، والروايات هي "شوق الدرويش" للسوداني حمور زيادة و"ممر الصفصاف" للمغربي أحمد المديني و"طابق 99" للبنانية جنى فواز الحسن و"حياة معلقة" للفلسطيني عاطف أبو سيف و"ألماس ونساء" للسورية لينا هويان الحسن، و"الطلياني" للتونسي شكري المبخوت. ونقلًا عن موقع الجائزة ننشر حوارًا مع عاطف أبوسيف المرشح في القائمة القصيرة - أين كنت عند الإعلان عن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية؟ وماذا كان رد فعلك؟ كنت وقتها في منزل والدي الذي تربيت فيه في قلب مخيم جباليا. كان أخي الأصغر، محمد، يقوم بسحب أنفاسًا عميقة من أرجيلته وكنت أجلس قبالته وهو يحدثني عن دراسته في مصر. سألني فجأة "شو أخبار البوكر؟". كأنه كان يعرف أن موعد إعلان القائمة القصيرة اليوم الجمعة. نظرت إلى ساعتي كانت قد تجاوزت منتصف النهار. قلت أظن أنه تم الإعلان عن القائمة، وانتهي الأمر. وما أن أكملت جملتي حتى رن جوالي وكانت الصديقة الصحفية بديعة زيدان من قاعة مؤتمر إعلان القائمة تخبرني بأن "حياة معلقة" ضمن القائمة، ثم ناشري الصديق أحمد أبو طوق. ثم توالت الاتصالات تباعًا. لم يكن ثمة كهرباء وقتها في المخيم لذا لم أتمكن من متابعة الأمر على المواقع. أظن أني وقتها أخذت مبسم الأرجيلة من أخي وأخذت أعب دخان التبغ بفرحة، وأرد بين الفينة والأخرى على اتصالات الأصدقاء مهنئين. - ماذا يعني لك ترشيح روايتك في القائمة القصيرة للجائزة؟ البوكر حدث أدبي مهم. ووصول روايتي هناك يقترح شيئين. الأول يشكل التفاتة إلى الأدب الفلسطيني الشاب. وهذا اقتراح يشير إلى تواصل واستمرار في الأدب الفلسطيني. والثاني يشير إلى حقيقة الأدب الفلسطيني الذي يكتب في غزة. حيث في غزة ثمة كتاب وكاتبات فقط يمنعهم الحصار وقلة التواصل مع الناشرين خارج غزة من أن يقدموا أعمالًا رائعة للمكتبة العربية. وربما يجدر أن اقترح على دور النشر العربية أن تلتفت جيدًا لهؤلاء الشباب والشابات الذي يعانون من أجل أن يتواصل نهر الأدب في غزة. - هل لديك طقوس للكتابة؟ القصة ليست قصة طقوس. إنها لحظة اختمار الفكرة ونضوجها. في مرات قد أمضي شهورًا أفكر في قصة الرواية وقد أشتبك في نقاشات بيني وبين نفسي حول شخوصها ومصائرهم. وقد أقوم بالاحتفاظ ببعض هذه النقاشات على الورق مرفقة برسومات توضيحية وخرائط وما شابه. حين أشعر أن الفكرة نضجت أبدأ في الكتابة. ظللت أردد العبارة الأولى في "حياة معلقة" التي تقول "ولد نعيم في الحرب ومات في الحرب أيضًا" ستة أشهر تقريبًا، حتى باتت مثل التعويذة التي تعيد تشكل نهاراتي، دون أن أعرف أنها ستكون الجملة الأولى في روايتي. - لماذا تكتب؟ أن تعيش في غزة يعني أن تعيش في نشرة أخبار. هكذا كنت أقول لأصدقائي الأوروبيين حين كانوا يسألونني عن غزة. أن تعرف أنك اداة في ترس صراع كبير لا يمكن لك أن تفلت من عقاله. قصص الناس في المساء يتحلقون أمام عتبات البيوت في المخيم، واسترجاعات الماضي الجميل دائمًا عن قوارب تتهادي أو نسائم تتسلل من خصاص نوافذ البيوت المطلة على بحر لا ينتهي في مدينة لم تنته يوماَ من ذاكرتهم: يافا. لا أذكر لحظة معينة بدأت فيها بالكتابة. لكن أذكر شغف الطفل الذي كنته وأنا استمع لقصص جدتي عائشة عن طفولتها وصباها في مدينتها الجميلة يافا، وتنهداتها وهي تسترجع الزمن بطريقة مذهلة، وتعده وتضعه أمامنا ونحن نجلس حول كانون النار نتدفأ من برد الشتاء. كانت قصصها تلك تقلب أوجاعها كما تقلب النار حبات الكستناء التي كان أبي يرمي بها بين جمرات النار. هذا الشغف هو الذي جعلني أمسك القلم وأنا فتى لم أتجاوز منتصف عقدي الثاني وأحاول أن أكتب ما تقول عائشة. كنت أظن أنني أسرق قصصها، لم أكن أعرف أنها قصصي أيضًا. كنت بلغتي البسيطة ومفرداتي الضيقة وخطي ربما السيئ أحاول أن أعيد ما تقوله عائشة. لكنني كنت أدرك أن جمرات عائشة الملتهبة مع السرد لا يمكن لي أن أقبض عليها. ثمة سر خفي فيما كانت تقول، إنه سر التجربة التي عاشتها وخبرتها وانْكَوَت بنارها. وكانت تنهي كل حكاية بتنهيدة لابد أنها تهز الأرض تحت البيت الجميل الذي تركته قرب شاطئ البحر في عروس البحر يافا. كانت عائشة بارعة في رسم يافا، تحفظ الشوارع وأماكن سكن الجيران والمستشفي والسوق والمقهى. كانت بارعة في تجسيد ما تروي في بانوراما مشهدية سينمائية. كانت تلك الاستعادات وهذا الإمساك بالماضي يحمل سحرًا مؤثرًا على مخيلتي. ليس من السهل الهرب من كل ذلك. ليس من السهل أن تجد نفسك خارج سياق المكان والذاكرة وكومة الاحلام المكسرة التي تراها مثل تلال شاهقة خلف عقول الجيران، ولا الشموع المطفأة في أعين الصبية وهم يركضون في أزقة لا تتسع لهرولة أقدامهم وتدافعها نحو المستقبل كنت أريد أن أكون وفيًا بامتياز لألم عائشة ولدموعها الساخنة كأنها تبكي رحيلها من يافا لأول مرة. كل مرة كنت أظن أنها تبكي للمرة الأولى في حياتها على هذا الزمن الجميل. لكن ما أقسى البكاء حين يتخمر ويعتق، وما أكثر مرارة النفس حين يهبط القلب في قاع سحيق، تحس كأن عربة نقل فغصته كعلبة كوكاكولا على طريق سريع. ثمة ألم لا يحتمل وحكايات تنضح حزنًا وبحثًا عن مستقبل لم يعد ممكنًا بسبب هذا الحزن. كانت ثمة لحظة سردية افتراضية عليك أن تنطلق منها كي تؤسس لحكايات جديدة. لحظة هي كل ما تملك من الذاكرة ومن ذاكرة الآخرين. الذاكرة الجمعية للمخيم وللناس حولك. وكثيرًا ما كنت اجد نفسي أسيرًا لهذا الألم. مُطالبًا بان اكونه، بأن أعيشه، بان أخبر عنه. انت مطالب بالوفاء، الكل يطالبك الوفاء وكل له نسخته عن هذا الوفاء. لكنك مطالب أكثر بان تلتزم بنصك، بان تبحث عما يجعل هذا النص السردي تعبيرًا حقيقًا عن الناس وفي نفس الوقت حاملًا لقصة البشرية وألمها واحلامها وضعفها، لصراعها الازلى بين الخير والشر، ولإنحدار الروح البشرية وانبعاثها من رقادها رغم ذلك؛ تجعل من كل ذلك ممكنًا بغض النظر عن هوية القاريء. - لمن تقرأ؟ من هم الكتاب الذين أثروا فيك كروائي؟ بدأت قراءاتي الأولى من الكتب القليلة التي كان يحتفظ بها أبي في خزانته الصغيرة. كانت تلك الكتب في وقتها بالنسبة لي مكتبة كبيرة لا تضاهيها حتى الآن بالنسبة لي أي مكتبة في العالم. كان منع التجوال الذي يفرضه الجيش مع الانتفاضة الأولى فرصة لأن انشغل بقراءة السيرة الهلالة وكليلة ودمنة وبعضًا من قصص السيرة النبوية. وكانت بنية السرد في تلك الكتب تثير مخيلة الفتي الذي كان يحلم بأن يعيد سرد حكاية جدته في يافا. ولأنني درست الأدب الإنجليزي، كانت روايات ثوماس هاردي وأدب القرن التاسع عشر الفيكتوري بواقعيته أول ما لفت انتباهي، ليس بميله لتفاصيل العالم الصغير الذي تدور فيه الحكايات المتشابكة والمعقدة، بل ببحثها عن الروح الإنسانية والصراع الأزلى بين الخير والشر وقوة الأخير في انتزاع الإنسان من فطرته. هذه الفطرة المفقودة بحكم التجربة وربما النضوج هي حالة السرد الإفتراضية التي كانت تفلح في در دموع عائشة وهي تنعي ماضيها. من هنا أحببت روايات وليام فولكنر واستعادته لعالم المسيسبي في الجنوب الأمريكي والسقوط المؤلم للعائلة وللمجتمع. سقوط وتفكك يعكس ضعف الفطرة الإنسانية أيضًا لكنه يعكس قسوة الحياة حين تدوس البشر تحت عجلاتها. هو سقوط "كاندي" عن الشجرة وهي تحاول التلصص وتلوث ملابسها الداخلية في مشهد فوكنر الجميل. هو ذاته سقوط عائشة من يافا إلى خيمة في سوافي غزة الحارة في نيسان من العام 1948. بذلك اقتربت من جيمس جويس وفيرجينا وولف وعالم الرواية المعاصرة حيث يصبح وعي الفرد وقلقه محركًا للسرد. ثمة غواية كبيرة في دمج الكاتب بين الموضوع وبين التكنيك بحيث لا تكون العلاقة وظيفية بل عضوية، حيث تنبع الحاجة لأحدهم من الآخر. ثم ساكتشف تنوع الادب وغناه سواء على صعيد الموضوعات أو الأساليب أو على صعيد المعالجات وتمظهر الواقع في المتن السردي، وساكتشفت بأنه يمكن للمرء أن يكون وفيًا لدموع عائشة وفي نفس الوقت ينهل من عالم اوسع تتداخل فيه الرواية مع الموسيقى مع الرسم مع السينما. هكذا تصبح الرواية بنت عصرها ويكون الواقع براءة اختراع الفن، ليس بأن يكون الواقع تقليدًا للفن في إنعكاس محمود لمقولة أرسطو، ولكن في اعادة صياغة لهذا الواقع لتصبح لحظة السرد الافتراضية التي أشرت لها ليست بأكثر من تفجير لنبع متخيل. كانني اعود مرة أخرى لهذا الرابط الذي يضم هاردي وفوكنر فكلاهما دارت كل رواياته في مقاطعة متخيلة، بها ضياع وقرى وشخصيات تتحرك، يموت بعضها ويولد آخر. وكلاهما جعل من هذا الواقع المتخيل مصغرًا لعالم يختصر روح البشرية وصراعها. فلسطينيًا اشعر مع قصص غسان كنفاني أنني بالبيت، عالم غسان والحسرة التي تنطق بها شخصياته التي هي انعكاس مباشر وغير مجّمل لكومة الحزن الكبيرة التي تند عن تنهيدة الناس في المخيم، تكاد تنفجر. لربما لأن غسان كان يتحدث عن شيء قريب من خبراتي أو حياتي أو القصص التي سمعتها في الحارة، وربما لأن في غسان شيء منا فهو "منا وفينا". وهنا قيمة الأدب الحقيقية حين يعني شيئًا للناس وأظن هذا ما قصده زميلي في السجن. كذلك كان الألم في روايات جبرا خاصة في البحث عن الهوية، في إكسير الذاكرة حيث يصبح البحث عن وليد مسعود هو بحث عنا كلنا. وكنت افرح كلما قرأتهما. - درست وعملت بالعلوم السياسية. كيف ترى العلاقة بين الأدب. وهل أفادتك تجربتك السياسية في كتابة هذه الرواية؟ أذكر مشهدًا، وهو للمصادفة حصل معي، في روايتي الأولى "ظلال في الذاكرة"، حين يعتقل الجيش بطل الرواية وهو صغير. فتذهب أمه للضابط الإسرائيلي تولول وتقول له إن طفلها لا يفهم سياسة. يرد الضابط مستهزئًا "حتى الحمار هنا بفهم سياسية". في السياق الفلسطيني أنت جزء من الحالة العامة لا تستطيع الفكاك منها. هذا على صعيد الممارسة والحياة، فانا مثل كل أبناء جيلي أصبت خلال المواجهات مع الجيش خلال الانتفاضة الأولى وسجنت وتألمت لفراق أحبتي وأهلي في الحروب القاسية التي تشن على الشعب الفلسطيني. على صعيد الافادة، أميل للقول إن دراسة السياسة كعلم أفادتني من جهة فهمي للكثير من المفاهيم التي تعتمل في رحم أي صراع درامي. مثل مفهوم القوة والصراع، وتكوينات المجتمعات وتطورها، كل هذه لم تعد بالنسبة لي مجرد أفكار وتأملات بل هي مفاهيم تأسست على قراءات عميقة خاصة لخبرات الشعوب والدول. - تتناول الرواية قصص بعض سكان مخيم جباليا. هل هذه القصص مستوحاة من الواقع أم هي من نسج الخيال؟ الفن هو محاكاة للواقع لكنه ليس نسخة كربون عنه. بهذا فإن ما أكتب لصيق كثيرًا بالعالم الذي أعيش فيه والذي أصبو للتعبير عنه بشكل لائق، لكنه، أي ما أكتب، ليس نقلًا حرفيًا له. فالقصص يمكن لها أن تحدث في السياقين الجغرافي والزماني الذين أعيشه فيهما. كانت أحد أحلامي حين بدأت أكتب وأنا فتى يخطو في نصف عقده الثاني أن أعبر بشفافية عن آلام الناس وحكايتهم. رغم أن أحداث الرواية تقع بين جنازتين وتملؤها أحزان واحباطات كثيرة إلا أن الأمل يتسرب منها. هذا الأمل يأتي من كونك روائى أم سياسي؟ أنت لا تستطيع أن تعيش بلا أمل. في أشد لحظات الحياة قسوة عليك أن تؤمن بأن ثمة نور سيفد عما قليل من بين غيوم الظلام. على الأقل هذا ما كنت أحسه دائمًا. مثلًا خلال العدوان الأخير على غزة كنت أشعر أنني وزوجتي وأطفالي قد نكون أموات الآن، وأن حقيقة أنني أفكر ليست إلا أنني أفكر في عالمي الآخر. وحده الأمل كان قادرًا على أن يجعل لقسوة الواقع معنى، ووحده كان يمدنا بالطاقة اللازمة للاستمرار. كان الدرس الأول الذي تعلمته في سجن النقب حين كتبت، وخلال النشرة الرمضانية، قصة بسيطة تصف يوم سيدة سيخرج ابنها بعد سنوات من السجن وانشغالها بالتحضير لاستقباله، وما أن يخرج ابنها وتعود به من حاجز إيرز إلى البيت حتى يأتيها خبر أن الجيش اعتقل ابنها الآخر. لا زلت أذكر تلك "الشخرة" الاستنكارية لأحد الاسرى، في ذلك الشتاء القارص عام 1992، وهو يقول لي بعبارات قاسية "كل هذا العناء كي تخبرنا أن شخصًا تحرر من السجن وآخر دخل إليه". كان هذا درسي الأول في السرد. فثمة شيء يجب أن يعنيه السرد للقاريء، فالحكاية لا تكفي كما لا يكفي الألم ولا تكفي الحسرات، كما لا تعين الاحلام والآمال قصة بائسة على نوائب الزمن. الجانب الآخر المهم أن زميلي في السجن كان يقترح أنه يريد أن يشعر أن ثمة أمل أنه سيخرج من السجن. إذا لم تعطه القصة هذا الامل فإن الأمر كيس أكثر من مضيعة للوقت بالنسبة له. - قلت من قبل في أحد الحوارات الصحفية أنك أردت كسر حصار غزة من خلال هذه الرواية. هل تعتقد أنك نجحت؟ أظن أن "حياة معلقة" أفلتت من قسوة الواقع الذي تتحدث عنه. كانت أكثر حظًا من أبطالها. فهي لم تظل حبيسة غزة وسجينة لواقعها الأليم؛ بل نجحت في القفز خارج الأسوار الشائكة المكهربة التي تحيط القطاع وتعزله عن العالم. وربما هذا من مفارقات الحياة المعلقة في غزة.