عيار 21 بالمصنعية يهبط 90 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الخميس 31-7-2025 (محلياً وعالميًا)    سعر الدولار اليوم الخميس 31-7-2025 بعد تسجيله أعلى مستوياته خلال 60 يومًا    ترامب يعلن عن اتفاق تجاري مع كوريا الجنوبية    أمريكا: تحذيرات في كريسنت سيتي بعد أضرار بميناء المدينة جراء موجة مد بحري مفاجئة    «يوم استثنائي».. تحذير شديد بشأن حالة الطقس اليوم: أمطار ورياح مُحملة بالأتربة    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    قناة السويس حكاية وطنl القناة الجديدة.. 10 سنوات من التحدى والإنجاز    15 دولة غربية تدعو دولا أخرى لإعلان عزمها الاعتراف بفلسطين    إسرائيل تندد بموقف كندا من الاعتراف بفلسطين: مكافأة لحماس    إعلام أوكراني: الدفاع الجوي يتصدى لهجمات في كييف وحريق جراء هجوم مسيّرة روسية    لليوم الرابع، ارتفاع أسعار النفط وسط مخاوف من تأثر الإمدادات بتهديدات ترامب الجمركية    مع الهضبة والكينج .. ليالى استثنائية فى انتظار جمهور العلمين    من يتصدر إيرادات الموسم السينمائى الصيفى ومن ينضم للمنافسة ؟    «وصلة» لقاء دافىء بين الأجيال .. « القومى للمسرح » يحتفى بالمكرمين    طريقة عمل الكب كيك في البيت وبأقل التكاليف    حرمه منها كلوب وسلوت ينصفه، ليفربول يستعد لتحقيق حلم محمد صلاح    سلاح النفط العربي    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    نحن ضحايا «عك»    بسهولة ومن غير أدوية.. أفضل الأطعمة لعلاج الكبد الدهني    المهرجان القومي للمسرح يحتفي بالفائزين في مسابقة التأليف المسرحي    بينهم طفل.. إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق فايد بالإسماعيلية (أسماء)    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    هاريس تٌعلن عدم ترشحها لمنصب حاكمة كاليفورنيا.. هل تخوض انتخابات الرئاسة 2028؟    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    السيارات الكهربائية.. والعاصمة الإنجليزية!    424 مرشحًا يتنافسون على 200 مقعد.. صراع «الشيوخ» يدخل مرحلة الحسم    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    تراجع غير متوقع للمبيعات المؤجلة للمساكن في أمريكا خلال الشهر الماضي    اصطدام قطار برصيف محطة "السنطة" في الغربية.. وخروج عربة من على القضبان    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    مصرع شاب وإصابة 4 في تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    رئيس وزراء كندا: نعتزم الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر ويجب نزع سلاح حماس    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بالشيوخ    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    شادى سرور ل"ستوديو إكسترا": بدأت الإخراج بالصدفة فى "حقوق عين شمس"    ترامب: وزارة الخزانة ستُضيف 200 مليار دولار الشهر المقبل من عائدات الرسوم الجمركية    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سقوط الايديولوجيا وأفول الحتمية التاريخية
نشر في صوت البلد يوم 30 - 10 - 2017

انبثقت عموم المذاهب الاشتراكية من مجموعة أفكار مثالية تدور حول كيفية تحقيق العدالة والمساواة بين البشر، وهي أفكار خالدة ستبقى دوماً ملهمة لجميع ذوي النزعات الإنسانية. غير أن أكثر الأفكار مثالية غالباً ما تتحول إلى أكثرها تطرفاً وعنفاً، فالأفكار المثالية غالباً ما تكون هي الأكثر جذرية، تنشد الحد الأقصى من الأشياء المفترض أنها خيرة وإيجابية، فإذا ما انحرفت عن مسارها تشوهت تماماً وصارت أسوأ من غيرها، لأنها غالباً سوف تفضي الى الحد الأقصى من الشرور والسلبيات.
ولعل هذا كان حال الشيوعية الماركسية، التي عرفت طريقها إلى التطبيق العملي في الاتحاد السوفياتي المولود من رحم الإمبراطورية الروسية التي أخذت في التفكك سياسياً وعسكرياً بفعل ضغوط الحرب العالمية الأولى، واجتماعياً بفعل تنامي غضب الفلاحين من قسوة نظام القنانة وسطوة ملاك الأراضي الزراعية، والصعود الملحوظ لدور العمال الروس في القرن التاسع عشر. لقد أفضت تلك الضغوط إلى هيجان ثوري استمر أكثر من ثلاث سنوات تشارك في قيادته الحزب البلشفي، مع المنشفيك، والاشتراكيين الثوريين، وجميعهم يمثلون أطيافاً يسارية صاغت الحال الثورية التي اقتطف البلاشفة ثمارها وحدهم بفعل انقلاب عسكري استبق به لينين ثورة شعبية تبقي السلطة موضع مشاركة سواء مع الأطراف أكثر اعتدالاً من البلاشفة خصوصاً كامينيفوزينوفيف، أم الأطياف الثورية الأخرى الأقل جذرية. ولعلها سنة تاريخية تحكمت في مسارات التغيرات الكبرى، حيث الطرف الأكثر جذرية غالباً ما يكون الأقدر على حسم الأمر لمصلحته، ففي أوقات التحول تكون الرغبة في الانقلاب على كل شيء أقرب إلى الطبيعة البشرية من الرغبة في إصلاح أي شيء.
اعتنق البلاشفة ماركسية جذرية، عوّلت على المادية الجدلية وعلى حتمية تاريخية تدعي فهماً شاملاً للعالم يتداخل مع مفهوم الدين، إلى حد يمكن معه اعتبارها ديناً أرضياً. فإذا كان الدين، ضمن تعريفاته المتعددة، يمثل رؤية شاملة للوجود الكوني، فإن الأيديولوجية الكلية، كالشيوعية، تطرح نفسها باعتبارها رؤية كلية للواقع الإنساني. وكلما كانت الأيديولوجية أكثر جذرية وإطلاقية اقتربت من حدود الدين، وإن بقي الفارق الأساسي وهو أن الدين جوهره التعالي، حيث النص المقدس يتجاوز الخطاب المعقلن، وبنية الاعتقاد تتجاوز حدود المعرفة، والأمر القدسي يقدم نفسه كسرّ قائم وراء العقل. أما الأيديولوجية فغالباً ما تنزع إلى اتجاهين: أولهما نحو عقلنة المقدس عندما تصوغ مقولاتها الخاصة حول الطبيعة والتاريخ والإنسان، وتقدمها كبديل للمفاهيم الدينية المؤسسة. وثانيهما إلى تقديس العقل، عندما تدعو جمهورها (العقلاني) إلى الإيمان بمقولاتها الأساسية، والاعتقاد في قدرتها وحدها على تفسير العالم، فهي تطلب من معتنقها أن يمنح لها عقله ولكن بحرارة قلبه. ولعل هذا ما يفسر سرّ رفضها كل الأنساق الفكرية الأخرى التي توازيها أو تشبهها أو تقترب منها بدافع من الغيرة، إذ تعتبرها وريثة أو منافسة فتسعى إلى إقصائها، مثلما تميل الأديان إلى إنكار أو إقصاء بعضها بعضاً. وقد تجلى ذلك في سعي الشيوعية إلى نفي المسيحية كديانة سماوية، بذريعة أن قيمها تغيب وعي الجماهير الثوري بأفيون الخضوع للمقدس وانتظار الملكوت السماوي، ومن ثم تمثل عقبة على طريق التحديث الشامل، والتقدم الجذري، حيث الأخير يتطلب قيماً دنيوية واعتقادات عقلانية وسلوكيات عملية.
المفارقة هنا أن الشيوعية التي سعت إلى نفي المسيحية كاعتقاد سماوي أخذت تصنع عقائد أرضية بديلة. ففي الماركسية العلمية، ثمة عقيدة الموضوعية جوهراً للفكر، وعقيدة الطبيعة جوهراً للعلم، وعقيدة الديموقراطية الاشتراكية (على طريق السوفياتات التي أفضت عملياً إلى أبشع صور الديكتاتورية) جوهراً للسياسة. كما أدى التنكر لأنبياء الوحي إلى التعلق بأنبياء السياسة، فصار لينين مسيحاً جديداً مقدساً، وأخيراً أدى التنكر للمخلص الديني/ المسيح الفادي الذي تجسد في الكنيسة إلى استحضار مخلص جديد علماني هو العامل الذي شكل الطبقة البروليتارية، القادرة وحدها على تخليص الوجود البشري من جلّ مظاهر الظلم، الناجمة عن غياب المساواة بين البشر. وهنا كان ضرورياً أن يستحيل معتنقو الشيوعية إلى شعب مختار جديد من الله، يستحق الخلاص وحده من دون الرأسماليين «الكفرة» الذين لم يبذلوا في فهم وإدراك حركة التاريخ؛ ذلك القدر الذي يؤهلهم للنجاة من المصير الرأسمالي البغيض! وهكذا استحالت الرؤية الماركسية للتاريخ أشبه برؤية لاهوتية بديلة أو متخفية، مركزها إنساني، ومحيطها أيديولوجي، وقلبها سياسي، وجوهرها مادي.
وعليه، يتبدى جوهر الشيوعية كيوتوبيا أيديولوجية مادية، نهضت على قاعدة قيمتين متطرفتين: الأولى هي النزعة المساواتية المطلقة. والثانية هي الحتمية العلمية الميكانيكية، وكلتاهما أفضت إلى صوغ نموذج للإنسان أقرب إلى روبوت؛ إنسان آلي لا يعبأ بالمشكلات الأخلاقية التي تعنى بالخير والشر؛ لأن قضية الشر قضية فردية بطبيعتها، تتأسس على قاعدة الحرية الإنسانية وتفترض التفاوت الأخلاقي بين الناس. أما اليوتوبيا فلا تفترض هذا التفاوت ولا تسمح بحرية الاختيار، لأن كل شيء فيها مخطط تماماً ومسبقاً، وعلى نحو كلي وجماعي وليس فردياً أو شخصياً؛ إذ يضمحل عالم الإنسان الداخلي الهائل والمتفرد، وتذوي روحه السامية الكامنة فى باطنه، ليتحول مجرد نقطة هامشية زائفة على سطح جسده المادي، فلا تعود لديه شخصية متفردة، ولا نفس كاملة تتعذب وتتألم وتندم وتتوب، ومن ثم لا تعود لديه مشكلات إنسانية أو أخلاقية، ولا يحيا حياة كاملة مفعمة بالطموح والأمل، والإخفاق والإحباط، بل مجرد (سيكولوجية) قائمة على وظيفته في عملية الإنتاج، حيث يلعب دوراً في بنية كلية شاملة تتجاوزه، مثل ترس صغير في آلة كبيرة تستوعبه وتتجاوزه. إنه في الأخير كائن وظيفي يلعب دوراً في «المؤسسة» وليس كائناً إنسانياً حقاً يعيش الحياة، فالحياة الحق هي الحرية، وهو محروم من الحرية.
أفضى هذا الفهم للطبيعة الإنسانية إلى دمج أفراد الشعب الروسي ضمن الشعوب السوفياتية، عبر التهجير القسري، وصبهم في كتل تعمل بانتظام وظيفي رهيب يبدأ في المزارع الجماعية والمصانع الكبيرة، وإلا ففي المنافي والسجون السيبيرية، مروراً بما يشبه الورش الأدبية التي تدافع عن الواقعية الاشتراكية، وفرق البالية ومعاهد الفنون أو حتى الألعاب الرياضية، التي خضعت جميعها لقوة ضبط ونظام عمل صارم رتيب، تحقيقاً لرفعة الدولة ومجد الأمة، وليس بوازع من رغبات البشر، ولا تحقيقاً لذواتهم واستثماراً لنبوغهم، وكأن الخيال الأدبي والإبداع الفني والموهبة الرياضية يمكن توزيعها وفق البطاقات الشخصية. لقد سعت الشيوعية إلى قمع ممكنات الحرية، وكبح مكونات الذات الفردية، لدى الإنسان وتحويله مجرد ترس يعمل بانتظام في آلة جماعية، عضو يتحرك في سياق كتلة لا ملامح لها، كي تمنحه حياة منظمة خالية من الألم. غير أن ذلك لم يدم طويلاً، فلا الناس كانوا سعداء حقاً، ولا الأمة السوفياتية كانت موحدة فعلاً، ولا الدولة استمرت في تحقيق النجاحات الأولى، إذ أرهق البشر في النهاية، وخفتت دوافعهم، وهرم الحزب الذي أشرف على تنظيمهم، وإن ظل واقفاً مستنداً إلى منسأته، مثل سليمان الحكيم، قبل أن تسقط عصاه وتتفكك دولته، لينطلق الناس في كل حدب وصوب، بعد أن تأكد لهم أن الشيوعية زادت من ألمهم، بالقدر ذاته الذي خصمت به من حريتهم.
ومن ثم تنبع الحكمة الخالدة التي يسر بها التاريخ إلينا، ويطالبنا بالإصغاء إليها، وهي أن كل المستبدين الذين توهموا قدرتهم على التحكم في الطبيعة الإنسانية باختزالها في بعد واحد، أو تصوروا قدرتهم على تجميد مجتمعاتهم عند حدود رؤاهم، أو طمحوا مغترين بسلطة زائفة إلى إعادة صوغها وفق أهوائهم، قد فشلوا في إنجاز مهمتهم النهائية، حتى لو حققوا بعض النجاحات الأولية... لقد فشلت الأيديولوجيا الشيوعية في لعب دور الدين، وأخذ الإيمان الأرثوذكسي يستعيد حيويته من جديد في روسيا ودول أوروبا الشرقية، لأن ما ينبت في التاريخ يظل قابلاً للتجاوز والفناء، ولا خلود إلا لما هو متجاوز أصلاً، ومتسام أبداً. وعلى رغم أن الإنسان يظل في حاجة إلى مثل عليا تعطي معنى لمسيرته على الأرض، كالنزعة الإنسانية التي يمكن اعتبارها نوعاً من الإيمان بقيمة النوع البشري، أو الروح الوطنية التي تمثل إيماناً بقيمة الأرض والجماعة الإنسانية، تعزز دوافع التضحية والفداء دفاعاً عن الأوطان، فإن الإدراك لا بد من أن يكون واضحاً للحد الفاصل بين الدين الأساس، ذي المطلق الإلهي، والمثل العليا الإنسانية ربيبة الخبرة التاريخية، والتي يمكن تبجيلها، نعم، ولكن في حدود العقل وحده؛ لأن تقديسها باعتبارها قيماً متجاوزة يجعل منها وحشاً يلتهم العقل والحرية والإنسان معاً.
انبثقت عموم المذاهب الاشتراكية من مجموعة أفكار مثالية تدور حول كيفية تحقيق العدالة والمساواة بين البشر، وهي أفكار خالدة ستبقى دوماً ملهمة لجميع ذوي النزعات الإنسانية. غير أن أكثر الأفكار مثالية غالباً ما تتحول إلى أكثرها تطرفاً وعنفاً، فالأفكار المثالية غالباً ما تكون هي الأكثر جذرية، تنشد الحد الأقصى من الأشياء المفترض أنها خيرة وإيجابية، فإذا ما انحرفت عن مسارها تشوهت تماماً وصارت أسوأ من غيرها، لأنها غالباً سوف تفضي الى الحد الأقصى من الشرور والسلبيات.
ولعل هذا كان حال الشيوعية الماركسية، التي عرفت طريقها إلى التطبيق العملي في الاتحاد السوفياتي المولود من رحم الإمبراطورية الروسية التي أخذت في التفكك سياسياً وعسكرياً بفعل ضغوط الحرب العالمية الأولى، واجتماعياً بفعل تنامي غضب الفلاحين من قسوة نظام القنانة وسطوة ملاك الأراضي الزراعية، والصعود الملحوظ لدور العمال الروس في القرن التاسع عشر. لقد أفضت تلك الضغوط إلى هيجان ثوري استمر أكثر من ثلاث سنوات تشارك في قيادته الحزب البلشفي، مع المنشفيك، والاشتراكيين الثوريين، وجميعهم يمثلون أطيافاً يسارية صاغت الحال الثورية التي اقتطف البلاشفة ثمارها وحدهم بفعل انقلاب عسكري استبق به لينين ثورة شعبية تبقي السلطة موضع مشاركة سواء مع الأطراف أكثر اعتدالاً من البلاشفة خصوصاً كامينيفوزينوفيف، أم الأطياف الثورية الأخرى الأقل جذرية. ولعلها سنة تاريخية تحكمت في مسارات التغيرات الكبرى، حيث الطرف الأكثر جذرية غالباً ما يكون الأقدر على حسم الأمر لمصلحته، ففي أوقات التحول تكون الرغبة في الانقلاب على كل شيء أقرب إلى الطبيعة البشرية من الرغبة في إصلاح أي شيء.
اعتنق البلاشفة ماركسية جذرية، عوّلت على المادية الجدلية وعلى حتمية تاريخية تدعي فهماً شاملاً للعالم يتداخل مع مفهوم الدين، إلى حد يمكن معه اعتبارها ديناً أرضياً. فإذا كان الدين، ضمن تعريفاته المتعددة، يمثل رؤية شاملة للوجود الكوني، فإن الأيديولوجية الكلية، كالشيوعية، تطرح نفسها باعتبارها رؤية كلية للواقع الإنساني. وكلما كانت الأيديولوجية أكثر جذرية وإطلاقية اقتربت من حدود الدين، وإن بقي الفارق الأساسي وهو أن الدين جوهره التعالي، حيث النص المقدس يتجاوز الخطاب المعقلن، وبنية الاعتقاد تتجاوز حدود المعرفة، والأمر القدسي يقدم نفسه كسرّ قائم وراء العقل. أما الأيديولوجية فغالباً ما تنزع إلى اتجاهين: أولهما نحو عقلنة المقدس عندما تصوغ مقولاتها الخاصة حول الطبيعة والتاريخ والإنسان، وتقدمها كبديل للمفاهيم الدينية المؤسسة. وثانيهما إلى تقديس العقل، عندما تدعو جمهورها (العقلاني) إلى الإيمان بمقولاتها الأساسية، والاعتقاد في قدرتها وحدها على تفسير العالم، فهي تطلب من معتنقها أن يمنح لها عقله ولكن بحرارة قلبه. ولعل هذا ما يفسر سرّ رفضها كل الأنساق الفكرية الأخرى التي توازيها أو تشبهها أو تقترب منها بدافع من الغيرة، إذ تعتبرها وريثة أو منافسة فتسعى إلى إقصائها، مثلما تميل الأديان إلى إنكار أو إقصاء بعضها بعضاً. وقد تجلى ذلك في سعي الشيوعية إلى نفي المسيحية كديانة سماوية، بذريعة أن قيمها تغيب وعي الجماهير الثوري بأفيون الخضوع للمقدس وانتظار الملكوت السماوي، ومن ثم تمثل عقبة على طريق التحديث الشامل، والتقدم الجذري، حيث الأخير يتطلب قيماً دنيوية واعتقادات عقلانية وسلوكيات عملية.
المفارقة هنا أن الشيوعية التي سعت إلى نفي المسيحية كاعتقاد سماوي أخذت تصنع عقائد أرضية بديلة. ففي الماركسية العلمية، ثمة عقيدة الموضوعية جوهراً للفكر، وعقيدة الطبيعة جوهراً للعلم، وعقيدة الديموقراطية الاشتراكية (على طريق السوفياتات التي أفضت عملياً إلى أبشع صور الديكتاتورية) جوهراً للسياسة. كما أدى التنكر لأنبياء الوحي إلى التعلق بأنبياء السياسة، فصار لينين مسيحاً جديداً مقدساً، وأخيراً أدى التنكر للمخلص الديني/ المسيح الفادي الذي تجسد في الكنيسة إلى استحضار مخلص جديد علماني هو العامل الذي شكل الطبقة البروليتارية، القادرة وحدها على تخليص الوجود البشري من جلّ مظاهر الظلم، الناجمة عن غياب المساواة بين البشر. وهنا كان ضرورياً أن يستحيل معتنقو الشيوعية إلى شعب مختار جديد من الله، يستحق الخلاص وحده من دون الرأسماليين «الكفرة» الذين لم يبذلوا في فهم وإدراك حركة التاريخ؛ ذلك القدر الذي يؤهلهم للنجاة من المصير الرأسمالي البغيض! وهكذا استحالت الرؤية الماركسية للتاريخ أشبه برؤية لاهوتية بديلة أو متخفية، مركزها إنساني، ومحيطها أيديولوجي، وقلبها سياسي، وجوهرها مادي.
وعليه، يتبدى جوهر الشيوعية كيوتوبيا أيديولوجية مادية، نهضت على قاعدة قيمتين متطرفتين: الأولى هي النزعة المساواتية المطلقة. والثانية هي الحتمية العلمية الميكانيكية، وكلتاهما أفضت إلى صوغ نموذج للإنسان أقرب إلى روبوت؛ إنسان آلي لا يعبأ بالمشكلات الأخلاقية التي تعنى بالخير والشر؛ لأن قضية الشر قضية فردية بطبيعتها، تتأسس على قاعدة الحرية الإنسانية وتفترض التفاوت الأخلاقي بين الناس. أما اليوتوبيا فلا تفترض هذا التفاوت ولا تسمح بحرية الاختيار، لأن كل شيء فيها مخطط تماماً ومسبقاً، وعلى نحو كلي وجماعي وليس فردياً أو شخصياً؛ إذ يضمحل عالم الإنسان الداخلي الهائل والمتفرد، وتذوي روحه السامية الكامنة فى باطنه، ليتحول مجرد نقطة هامشية زائفة على سطح جسده المادي، فلا تعود لديه شخصية متفردة، ولا نفس كاملة تتعذب وتتألم وتندم وتتوب، ومن ثم لا تعود لديه مشكلات إنسانية أو أخلاقية، ولا يحيا حياة كاملة مفعمة بالطموح والأمل، والإخفاق والإحباط، بل مجرد (سيكولوجية) قائمة على وظيفته في عملية الإنتاج، حيث يلعب دوراً في بنية كلية شاملة تتجاوزه، مثل ترس صغير في آلة كبيرة تستوعبه وتتجاوزه. إنه في الأخير كائن وظيفي يلعب دوراً في «المؤسسة» وليس كائناً إنسانياً حقاً يعيش الحياة، فالحياة الحق هي الحرية، وهو محروم من الحرية.
أفضى هذا الفهم للطبيعة الإنسانية إلى دمج أفراد الشعب الروسي ضمن الشعوب السوفياتية، عبر التهجير القسري، وصبهم في كتل تعمل بانتظام وظيفي رهيب يبدأ في المزارع الجماعية والمصانع الكبيرة، وإلا ففي المنافي والسجون السيبيرية، مروراً بما يشبه الورش الأدبية التي تدافع عن الواقعية الاشتراكية، وفرق البالية ومعاهد الفنون أو حتى الألعاب الرياضية، التي خضعت جميعها لقوة ضبط ونظام عمل صارم رتيب، تحقيقاً لرفعة الدولة ومجد الأمة، وليس بوازع من رغبات البشر، ولا تحقيقاً لذواتهم واستثماراً لنبوغهم، وكأن الخيال الأدبي والإبداع الفني والموهبة الرياضية يمكن توزيعها وفق البطاقات الشخصية. لقد سعت الشيوعية إلى قمع ممكنات الحرية، وكبح مكونات الذات الفردية، لدى الإنسان وتحويله مجرد ترس يعمل بانتظام في آلة جماعية، عضو يتحرك في سياق كتلة لا ملامح لها، كي تمنحه حياة منظمة خالية من الألم. غير أن ذلك لم يدم طويلاً، فلا الناس كانوا سعداء حقاً، ولا الأمة السوفياتية كانت موحدة فعلاً، ولا الدولة استمرت في تحقيق النجاحات الأولى، إذ أرهق البشر في النهاية، وخفتت دوافعهم، وهرم الحزب الذي أشرف على تنظيمهم، وإن ظل واقفاً مستنداً إلى منسأته، مثل سليمان الحكيم، قبل أن تسقط عصاه وتتفكك دولته، لينطلق الناس في كل حدب وصوب، بعد أن تأكد لهم أن الشيوعية زادت من ألمهم، بالقدر ذاته الذي خصمت به من حريتهم.
ومن ثم تنبع الحكمة الخالدة التي يسر بها التاريخ إلينا، ويطالبنا بالإصغاء إليها، وهي أن كل المستبدين الذين توهموا قدرتهم على التحكم في الطبيعة الإنسانية باختزالها في بعد واحد، أو تصوروا قدرتهم على تجميد مجتمعاتهم عند حدود رؤاهم، أو طمحوا مغترين بسلطة زائفة إلى إعادة صوغها وفق أهوائهم، قد فشلوا في إنجاز مهمتهم النهائية، حتى لو حققوا بعض النجاحات الأولية... لقد فشلت الأيديولوجيا الشيوعية في لعب دور الدين، وأخذ الإيمان الأرثوذكسي يستعيد حيويته من جديد في روسيا ودول أوروبا الشرقية، لأن ما ينبت في التاريخ يظل قابلاً للتجاوز والفناء، ولا خلود إلا لما هو متجاوز أصلاً، ومتسام أبداً. وعلى رغم أن الإنسان يظل في حاجة إلى مثل عليا تعطي معنى لمسيرته على الأرض، كالنزعة الإنسانية التي يمكن اعتبارها نوعاً من الإيمان بقيمة النوع البشري، أو الروح الوطنية التي تمثل إيماناً بقيمة الأرض والجماعة الإنسانية، تعزز دوافع التضحية والفداء دفاعاً عن الأوطان، فإن الإدراك لا بد من أن يكون واضحاً للحد الفاصل بين الدين الأساس، ذي المطلق الإلهي، والمثل العليا الإنسانية ربيبة الخبرة التاريخية، والتي يمكن تبجيلها، نعم، ولكن في حدود العقل وحده؛ لأن تقديسها باعتبارها قيماً متجاوزة يجعل منها وحشاً يلتهم العقل والحرية والإنسان معاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.