فى واحدة من أكثر تجارب التاريخ دلالة وإلهاما، عرفت الأيديولوجية الماركسية طريقها إلى التطبيق العملى فى الاتحاد السوفيتى المولود من رحم الامبراطورية الروسية التى أخذت فى التفكك سياسيا وعسكريا بفعل ضغوط الحرب العالمية الأولى، واجتماعيا بفعل تنامى غضب الفلاحين من قسوة نظام القنانة (أى العبودية للأرض وليس للشخص، والتى عرفها التاريخ الطويل للإقطاع الأوروبى)، والصعود الملحوظ لدور العمال الروس فى القرن التاسع عشر. لقد أفضت تلك الضغوط إلى هيجان ثورى استمر أكثر من ثلاث سنوات تشارك فى قيادته الحزب البلشفى، مع المنشفيك، والاشتراكيين الثوريين، وجميعهم يمثلون أطيافا يسارية صاغت الحال الثورية التى اقتطف البلاشفة ثمارها وحدهم بفعل انقلاب عسكرى استبق به لينين ثورة شعبية تبقى السلطة موضع مشاركة سواء مع الأطراف أكثر اعتدالا من البلاشفة خصوصا كامينيف وزينوفيف، أو الأطياف الثورية الأخرى الأقل جذرية. ولعلها سنة تاريخية تحكمت فى مسارات التغيرات الكبرى، حيث الطرف الأكثر جذرية غالبا ما يكون الأقدر على حسم الأمر لصالحه، ففى أوقات التحول تكون الرغبة فى الانقلاب على كل شىء أقرب إلى الطبيعة البشرية من الرغبة فى إصلاح أى شىء. اعتنق البلاشفة ماركسية جذرية، عولت على المادية الجدلية وعلى حتمية تاريخية، تدعى فهما شاملا للعالم يتداخل مع مفهوم الدين، إلى حد يمكن معه اعتبارها دينا أرضيا. فإذا كان الدين، ضمن تعريفاته المتعددة، يمثل رؤية شاملة للوجود الكونى، فإن الأيديولوجية الكلية، كالشيوعية، تطرح نفسها باعتبارها رؤية كلية للواقع الإنسانى. وكلما كانت الأيديولوجية أكثر جذرية وإطلاقية اقتربت من حدود الدين، وإن بقى الفارق الأساسى وهو أن الدين جوهره التعالى، حيث النص المقدس يتجاوز الخطاب المعقلن، وبنية الاعتقاد تتجاوز حدود المعرفة، والأمر القدسى يقدم نفسه كسر قائم وراء العقل. أما الأيديولوجية فغالبا ما تنزع إلى اتجاهين: أولهما نحو عقلنة المقدس عندما تصوغ مقولاتها الخاصة حول الطبيعة والتاريخ والإنسان، وتقدمها كبديل للمفاهيم الدينية المؤسسة. وثانيهما إلى تقديس العقل، عندما تدعو جمهورها (العقلانى) إلى الإيمان بمقولاتها الأساسية، والاعتقاد فى قدرتها وحدها على تفسير العالم، فهى تطلب من معتنقها أن يمنح لها عقله ولكن بحرارة قلبه، ولعل هذا يفسر سر رفضها مختلف الأنساق الفكرية الأخرى التى توازيها أو تشبهها أو تقترب منها بدافع من الغيرة إذ تعتبرها وريثة أو منافسة فتسعى إلى إقصائها، مثلما تميل الأديان إلى إنكار أو إقصاء بعضها البعض. وقد تجلى ذلك فى سعى الشيوعية إلى نفى المسيحية كديانة سماوية بذريعة أن قيمها تغيب وعى الجماهير الثورى بأفيون الخضوع للمقدس وانتظار الملكوت السماوى، ومن ثم تمثل عقبة على طريق التحديث الشامل، والتقدم الجذرى، حيث الأخير يتطلب قيما دنيوية واعتقادات عقلانية وسلوكيات عملية. المفارقة هنا أن الشيوعية التى سعت إلى نفى المسيحية كاعتقاد سماوى أخذت تصنع عقائد أرضية بديلة. ففى الماركسية العلمية ثمة عقيدة الموضوعية جوهرا للفكر، وعقيدة الطبيعة جوهرا للعلم، وعقيدة الديمقراطية الاشتراكية (على طريق السوفيتات التى أفضت عمليا إلى أبشع صور الدكتاتورية) جوهرا للسياسة. كما أدى التنكر لأنبياء الوحى إلى التمحك بأنبياء السياسة فصار لينين مسيحا جديدا مقدسا، وأخيرا أدى التنكر للمخلص الدينى/ المسيح الفادى الذى تجسد فى الكنيسة إلى استحضار مخلص جديد علمانى هو العامل، الذى شكل الطبقة البروليتارية، القادرة وحدها على تخليص الوجود البشرى من جل مظاهر الظلم، الناجمة عن غياب المساواة بين البشر. وهنا كان ضروريا أن يستحيل معتنقو الشيوعية إلى شعب مختار جديد من الله، يستحق الخلاص وحده من دون الرأسماليين الكفرة الذين لم يبذلوا فى فهم وإدراك حركة التاريخ؛ ذلك القدر الذى يؤهلهم للنجاة من المصير الرأسمالى البغيض! وهكذا استحالت الرؤية الماركسية للتاريخ أشبه برؤية لاهوتية بديلة أو متخفية، مركزها إنسانى، ومحيطها أيديولوجى، وقلبها سياسي، وجوهرها مادى. وعلى يتبدى جوهر الشيوعية كيوتوبيا مادية، نهضت على أن قاعدة قيمتين متطرفتين: الأولى هى النزعة المساواتية المطلقة. والثانية هى الحتمية العلمية الميكانيكية، وكلتاهما أفضت إلى صوغ نموذج للإنسان أقرب إلى روبوت؛ إنسان آلى تلاشى عالمه الداخلى وذابت روحه السامية، ولم تعد لديه شخصية متكاملة، بل مجرد (سيكولوجية) قائمة على وظيفته فى عملية الإنتاج، مثل ترس صغير فى آلة كبيرة تستوعبه وتتجاوزه. أفضى هذا الفهم للطبيعة الإنسانية إلى دمج أفراد الشعب الروسى ضمن الشعوب السوفيتية، عبر التهجير القسري، وصبهم فى كتل تعمل بانتظام وظيفى رهيب يبدأ فى المزارع الجماعية والمصانع الكبيرة، وإلا فهى المنافى والسجون السيبيرية، مرورا بما يشبه الورش الأدبية التى تدافع عن الواقعية الاشتراكية، وفرق الباليه ومعاهد الفنون أو حتى الألعاب الرياضية، التى خضعت جميعها لقوة ضبط ونظام عمل صارم رتيب، تحقيقا لرفعة الدولة ومجد الأمة، وليس بوازع من رغبات البشر، ولا تحقيقا لذواتهم واستثمارا لنبوغهم، وكأن الخيال الأدبى والإبداع الفنى والموهبة الرياضية يمكن توزيعها بحسب بطاقات الرقم القومى. لقد سعت الشيوعية إلى قمع ممكنات الحرية، وكبح مكونات الذات الفردية، لدى الإنسان وتحويله إلى مجرد ترس يعمل بانتظام فى آلة جماعية، عضو يتحرك فى سياق كتلة لا ملامح لها، كى تمنحه حياة منظمة خالية من الألم. غير أن ذلك لم يدم طويلا، فلا الناس كانوا سعداء حقا، ولا الأمة السوفيتية كانت موحدة فعلا، ولا الدولة استمرت فى تحقيق النجاحات الأولى، حيث أرهق البشر فى النهاية، وخفتت دوافعهم، وهرم الحزب الذى أشرف على تنظيمهم، وإن ظل واقفا مستندا إلى منسأته، مثل سليمان الحكيم، قبل أن تسقط عصاه وتتفكك دولته، لينطلق الناس فى كل حدب وصوب، بعد أن تأكد لهم أن الشيوعية زادت من ألمهم، بنفس القدر الذى خصمت به من حريتهم. ومن ثم تنبع الحكمة الخالدة التى يسر بها التاريخ إلينا، ويطالبنا بالإصغاء إليها، وهى أن كل المستبدين الذين توهموا قدرتهم على التحكم فى الطبيعة الإنسانية باختزالها فى بعد واحد، أو تصوروا قدرتهم على تجميد مجتمعاتهم عند حدود رؤاهم، قد فشلوا فى إنجاز مهمتهم النهائية، حتى لو حققوا بعض النجاحات الأولية. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;