محافظ الدقهلية يفتتح حمام سباحة التعليم بالجلاء بتكلفة 4.5 مليون جنيه.. صور    قضاة البيادة… إقحام أكاديمية العسكر في تأهيل القضاة إهانة مهنية وجريمة غير مسبوقة    سعر التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الثلاثاء 19 أغسطس 2025    وزير الزراعة: نسعى للوصول بالرقعة الزراعية إلى 13.5 مليون فدان خلال 3 سنوات    98.5 مليار جنيه حصيلة أرباح البنوك التجارية والصناعية بنهاية العام المالي    مسؤول بالاتصالات: استقبال المكالمات المحلية مجاني.. والخصم يقتصر على التجوال الدولي    هشام نصر: وزارة الإسكان قررت سحب أرض فرع الزمالك في 6 أكتوبر    «الخارجية اليابانية» ل «المصري اليوم »: مشاركة مصر مهمة في «قمة التيكاد»    ترامب يغادر اجتماع زيلينسكي والقادة الأوروبيين في البيت الأبيض.. فما السبب؟    محافظ كفرالشيخ يؤدي واجب العزاء في وفاة والد رئيس مركز ومدينة عاصمة المحافظة    هشام حنفي: الأهلي تفوق هجوميًا على فاركو والزمالك افتقد الحلول أمام المقاولون    موعد مباراة بيراميدز والمصري في الدوري الممتاز والقناة الناقلة    التعادل يحسم مواجهة إلتشي وريال بيتيس في الجولة الأولى من الدوري الإسباني    ليدز يونايتد يحقق المفاجأة أمام ايفرتون في الدوري الإنجليزي    تواجه اتهامًا باستغلال الأطفال ومحرر ضدها 300 قضية.. 16 معلومة عن لعبة «روبلوكس»    8 مصابين في انقلاب سيارة بطريق "قنا - سفاجا" الصحراوي    مصرع عنصر إجرامي وضبط 5 آخرين في مداهمة أمنية بالأقصر    بالصور| نادين الراسي بإطلالة جريئة بأحدث ظهور.. والجمهور: حلوة ومهضومة    رئيس «قصور الثقافة»: إعداد موقع إلكتروني خاص باكتشاف المواهب وبيع اللوحات والكتب    أحمد السبكي: "مش عارف رافعين عليا قضية ليه بسبب فيلم الملحد!"    حدث بالفن | مطرب مهرجانات يزيل "التاتو" وإصابة فنانة وتعليق نجل تيمور تيمور على وفاة والده    «مصر تتعرض لضغوط هائلة».. مذيعة سي إن إن من معبر رفح: 5 آلاف شاحنة تنتظر العبور إلى غزة (فيديو)    ضياء السيد: الأهلي سيواجه أزمة أمام بيراميدز.. والتسجيل سيدين محمد معروف    أيمن يونس يكشف سبب تراجع نتائج الأهلي والزمالك وبيراميدز    إبراهيم نور الدين: أرفض الاستعانة بحكام أجانب في مباريات الدوري    العمراوى حكما لمباراة سيراميكا وإنبى.. وعبد الرازق للجونة والمحلة فى الدورى    رئيس الوزراء الياباني يرحب بجهود أمريكا لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية    أنشيلوتى يستبعد فينيسيوس ويعيد رودريجو وميليتاو إلى قائمة البرازيل    ترتيب الدورى الإنجليزى بعد نهاية الجولة الأولى.. 7 أندية بالعلامة الكاملة    حاول إنقاذ الصغير.. مصرع أب ونجله غرقًا داخل ترعة قرية الشيخ عيسى بقنا    إطلاق حملة لرفع وعي السائقين بخطورة تعاطي المخدرات    ظاهرة جوية تضرب البلاد.. بيان مهم بشأن حالة الطقس: «توخوا الحذر»    محاولة تهريب عملات ومخدرات.. مباحث مطار القاهرة تحقق ضربات أمنية ناجحة    مصرع طالب إعدادي غرقا في نهر النيل بقرية في الصف    بوتين يبحث مع نظيره البرازيلي نتائج قمة ألاسكا ويصف لقاءه بترامب ب"الجيد"    سعر اليورو اليوم الثلاثاء الموافق 19 أغسطس 2025.. كم سجلت العملة الأوروبية في البنوك؟    أسعار الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الثلاثاء 19 أغسطس 2025    محافظ سوهاج: المرسى السياحى متنفس للأهالى ويستقبل المراكب السياحية.. فيديو    تركت الدراسة 3 مرات ومهرها نسخة من المصحف.. 28 معلومة عن الشيف عبير الصغير    ابحث عن النصيحة عند من يصغر سنًا.. حظ برج الجدي اليوم 19 أغسطس    أستاذ تاريخ: مقولة "من النيل إلى الفرات" تزييف تاريخي صدره الصهاينة    هشام عباس يتألق بأغانى "عينى" و"عينيها السود" فى حفل مهرجان القلعة بدورته ال33 ويعلق: المهرجان له طابع خاص.. فريق كايرو كافيه يغنى للعندليب عبد الحليم حافظ وأم كلثوم    «لو العصير وقع علي فستان فرحك».. حيل ذكية لإنقاذ الموقف بسرعة دون الشعور بحرج    ما علاج الفتور في العبادة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز قضاء الصيام عن الميت؟.. أمين الفتوى يجيب    أمين الفتوى: تركة المتوفاة تُوزع شرعًا حتى لو رفضت ذلك في حياتها    قبول طلاب المرحلة الثانية بالثانوي العام في سوهاج بحد أدنى 233 درجة    «الرقابة الصحية»: الإسكندرية مؤهلة لتكون نموذجًا رائدًا في تطبيق التأمين الصحي الشامل    البحوث الفلكية : غرة شهر ربيع الأول 1447ه فلكياً الأحد 24 أغسطس    تمكين الشباب.. رئيس جامعة بنها يشهد فعاليات المبادرة الرئاسية «كن مستعدا»    هل المولد النبوي الشريف عطلة رسمية في السعودية؟    هل يتم تعديل مواعيد العمل الرسمية من 5 فجرًا إلى 12 ظهرًا ؟.. اقتراح جديد في البرلمان    اختبارات للمرشحين للعمل بالأردن في مجالات الزراعة.. صور    إجراء فحص طبى ل907 مواطنين خلال قافلة طبية مجانية بقرية الحنفى فى بلطيم    رئيس "الوطنية للانتخابات" يزور النيابة الإدارية: خط الدفاع الأول ضد الفساد المالي والإداري    يعالج الكبد الدهني في هذه الحالة فقط- "FDA" توافق على دواء جديد    الديهي يكشف تفاصيل اختراقه ل"جروب الإخوان السري" فيديو    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نازك الملائكة شاعرة التوبة عن خطيئة التجديد
نشر في صوت البلد يوم 29 - 08 - 2017

إذا كان المبتكر الأول أو المجدَّد في جانبٍ ما من فن الشعر يوصف بأنَّه «آدم الشعر» بمعنى الأبوَّة والنموذج البدئي، فإنَّ مثل هذا التوصيف مع شاعرة مثل نازك الملائكة (1923 - 2007) لهو أمر جدير بالبحث من أجل أن نجد لغواية حواء وتوبتها تفسيراً آخر، ونتأمل كيف يمكن أن يتحول الابتكار إلى ارتكابٍ يستدعي التوبة، فإذا كان آدم أبَ الجميع حقاً، فإنَّ حواء، إضافة إلى كونها الأمّ الأولى، فهي أيضاً من ابتكر الغواية الأصلية، تماماً كما فعلت نازك حين قادت سلالة من الغواة من فردوس كان يبدو أبديَّاً متمثلاً في الشعر العمودي، إلى متاهاتٍ أخرى واقتراحات جديدة في خريطة قلقةٍ متمثلة في الشعر الحديث.
لكن أصول الخطيئة الأصلية ضائعة، فهي أشبه بجريمة مركَّبة أطرافها متعدِّدون: آدم وحواء والشيطان والأفعى والشجرة، وربما ثمة جناة آخرون خفيُّون. وفي وقت مبكر، ومبكر جداً بدا أن نازك تعلن براءتها من غواية حواء ومما «ارتكبته» هي شخصياً، سواء في خطابها الشعري، أو في مقولاتها النقدية التي تصلح أن تكون وثيقة أساسية في رصد «التوبة» إن لم نقل «الردّة» عن تبشيرها الأول الحماسي والمتقدَّم.
ففي تقديمها لديوانها الأول «مأساة الحياة وأغنية للإنسان» الذي يعود زمن كتابته إلى أواسط الأربعينات، وقامت بنشره في السبعينات أي بعد نحو ربع قرن منذ نشرها «عاشقة الليل» و «شظايا ورماد» تعود إلى استخدم كلمة «نظم» بدل «الشعر»، بينما تؤكد في الوقت ذاته أن مرجعيتها الشعرية ناشئة عن اطلاعها على مطولات الشعر الإنكليزي وهو ما حرضها على كتابة مطولة «يفتقد لها الشعر العربي» كما تقول. وتعلن أنَّ نبرة التشاؤم في شعرها مستقاة من أفكار شوبنهاور.
وفي قصيدتها «آدم وحواء» في الديوان ذاته تستعير محنة حواء لكنَّها تحمِّلُ آدم والشيطان وِزرَ الخطيئة الأولى، بعلانية تتعلق بالتفسير الديني، أي بالنتيجة والحكم، ولا تبحث في الدافع الشعري الخفي، أي حافز الغواية: «ليتَ حوّاءَ لمْ تَذُقْ ثَمَرَ الدَّوحَةِ ليتَ الشيطانِ لمْ يَتَجنَّا». وتشير في مكان آخر من الديوان نفسه إلى تلازم الخطيئة الفردية بالعقاب الجماعي: حسبُها أنَّنا دَفعْنَا إليها/ ثمن العَيْشِ حيرةً ودُمُوعا/ أيَّ ذنبٍ جناهُ آدمُ حَتَّى/ نَتلقَّى العِقابَ نحنُ جَميعا؟/ وليكنْ آدمٌ جَنَى حسبُهُ فقدانُ فردوسِهِ الجميلِ عِقَابا».
بين أن هذا التداخل بين الخطيئة الأصلية والمتوارثة. بين الذنب الشخصي والإثم الجماعي، يمكن النظر إليه من خلال مفهوم «غواية الحداثة الشعرية» على أنه الخطيئة التي تعني الخصوبة، حيث غدا التمرّد سلالة متناسلة، ولم يعد مجرد خروج عروضي، كما توقَّعتْ حواءُ الشعر، بل إنه أودى بالأوزان الخليلة كلها، وهزَّ مفهوم القصيدة والشعر عموماً حينما ذهب إلى تداخل الأجناس، فيما يشبه هندسة وراثية تجسد لا نهائية العصيان والتمرّد.
ومنذ مقدمتها لديوان «شظايا ورماد» التي يمكن أن تقرأ بأنها البيان الأول لإعلان ما سمته «الشعر الحر» أعلنت بوضوح أنَّ ما عرف نقدياً بالشعر الحديث، هو ظاهرة عروضية بملامحها الأساسية، وهو ما عادت ورسخته في شكل تطبيقي وتفصيلي في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» ودأبت على تكراره في مقدمات دواوينها التي اعتادت على تصديرها بإشارات نقدية. وصولاً إلى تقديمها لديوانها «يغيِّر ألوانه البحر».
ووفق هذا الفهم فإن شعر الحداثة هو مرحلة في التحولات الإيقاعية التي شهدها الشعر العربي عبر عصوره كما هو الحال في الموشح أو شعر البند على سبيل المثال، وليس انعطافاً في مستوى الفهم الجوهري للشعر.
بيد أنَّ هذا الخروج الشكلي، لم يكن كافياً لإخراجِ «الإنسانة» من عزلتها، فقد انتصرت عزلة «الإنسانة» على التمرَّد العروضي النسبي للشاعرة. ومن هنا فإنَّ المزاج الروحي الملتبس لشخصية نازك، ظاهرة مهمة ينبغي إعادة قراءة شعرها على أساسه، ولعل تلميح توفيق صايغ منذ وقت مبكر إلى فكرة المتاهة في دراسته عن ديوانها «شظايا ورماد» التي نشرت بعد رحيل الاثنين. يصلح أن يكون فتحة مضيئة في تلك العزلة الشائكة.
في الجملة الأخيرة في تقديمها ل «شظايا ورماد» حيت نازك الملائكة من سمَّتهم «شعراء الغد بألف تحية» ولم تمض فترة طويلة قبل أن تتنصل عن هذا التبشير وتحيل تحيتها تلك إلى نعوت نقدية قاسية باتجاه «شعراء الغد» وذلك في كتابها «قضايا الشعر المعاصر»: فالماغوط: «أديب لبناني ناشئ!» وتوفيق صايغ «لم يكتب في حياته بيت شعر واحداً. وكل ما يكتبه نثر مثل النثر العادي!» والأمر ينطبق بدرجة أو أخرى على البياتي وجبرا، مستثنية نزار قباني والسياب المحافظين على الشكل المنضبط لقصيدة التفعيلة.
حتى في ديوانها المتأخِّر «يغيِّرُ ألوانه البحر» تبدو نازك موجة ثابتة في ذلك البحر، ومع أنها تقول: «يُغَيِّرُ ألوانَهُ ويصيرُ بلونِ الرماد» إلا أنها سعت فيه إلى استعادة شظايا رمادها الأول، ولم تكد تغادر الموضوعات القديمة، الموضوعات الكبرى العامة: «سيناء في حرب أكتوبر» و «خريطة فلسطين» و «تحرير القنيطرة» مع قصائد أخرى ذات نبرة صوفية دينية بل إنها ابتهالات صريحة كما في قصيدة «زنابق صوفية للرسول: قصيدة حب للرسول في صيغة معاصرة» و «دكان القرائين الصغيرة» أو العديد من الكتابات الاستعادية الأخرى بروح رومنطيقية واضحة.
وباستثناء قصيدتها «صور وتهويمات أمام أضواء المرور» التي تستفيد منها من تعدُّد الألوان في الإشارات الضوئية في محاولة لخلق نوع من الدراما، إلا أنها سرعان ما تختار النداء المتكرر في شكل مبالغ فيه كتقنية أساسية في البناء العام القصيدة ولا تكسر شيئاً من سطوة الإرث الرومانسي المتحكم في جذور تكوينها الشعري والشخصي، فالضوء الأحمر- مع ملاحظة أنها تؤنثه- هو حُمرة: «تقطعُ ما نتمنَّى أْن نسمعَ بعدَهْ/ لا تُعطينا العِطْرَ ولكنْ تُفجعِنا بحُطامِ الوَرْدَةْ». والأصفر: معبرُنا المرموقُ ووادينا الأشقر/ ما بينَ الصمتِ وبين النغمةْ/ ما بينَ النظرةِ والكلمةْ/ فاصلُ أسرارٍ وتجلٍّ بينَ الضوءِ وبينَ العَتمةْ/ في ليلِ محبٍّ ضيَّعَ مسلكَه في غابةِ بَسمةْ» ولا يبدو البيت الأخير بعيداً عن بقايا تأثيرات أستاذها علي محمود طه بأضواء «الجندول» و «ليالي كليوباترا».
أما الأخضر ففيه: «يختلطُ الموتُ مع الميلادْ/ يتكسَّرُ مِنْ فرحِ اللقيا وجهُ القمرِ».
غير أن هذا التعدد من الألوان لا يقودُها سوى إلى لونها الداخلي، إلى رمادها وظلامها البعيدين فحسب: «ما بينَ الأحمرِ والأصفرِ والأخضرِ/ تضحكُ يا قَلْبي، تَبْكِي، تتذكَّرْ/ وَتسيرُ تسيرُ إلى أينَ/ الْمَسعى والظلمةُ ممدودةْ».وهذا يعدينا إلى نيتها لتغيير عنوان مجموعتها «قرارة الموجة» إلى «طريق العودة» لأنه يعبر عنها أكثر كما تقول، كما لو الاندفاع والعمق يخيفانها، بينما الانكفاء والحنين يعبِّران عنها أكثر.
لعل نازك أكثر من كتب عن الموت الجماعي، الموت الكارثي، موت الحرب العالمية الثانية-رغم إنها حرب أوربا في ميدانها الأساسي-بما في ذلك قصيدة «الكوليرا» والتي صارت تقرأ على إنها التاريخ الرسمي للشعر الحرَّ. موضوعها تلك الجائحة التي ضربت مصر وأحدثت موتاً كارثياً يحسب فيه قبض الأرواح بالدقائق، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالفيضانات التي ضربت بغداد، لكن حواء الشعر العربي لم تعبر كثيراً عن الموت الشخصي، فالموت في شعرها كما في معظم شعر الرواد معبر عنه بالموت العضوي المباشر.
موضوعاتها الشعرية بهذا المعنى ذات مضامين «إنسانية» بيد أن الإنسان حتى مع صيغة التعريف اللغوي، يبقى اسماً موغلاً في الحيادية بل وحتى التنكير، ولعلَّ هذا الانشغال «الإنساني» للشعر هو ما أودى بالشخصي وغيَّبه في عموم تجربة نازك، فهي عاشقة «الليل» هذا المذكر اللغوي المجازي: وعاشقة للرجال الموتى، ومن المهم هنا التنويه بقصيدتها الليلية إلى «كيتس» شاعرها الشاب الذي اختطفه الموت. وشعرها يحاور الأشباح والظلال والعتمة ولا يكاد يمسكُ شيئاً.
كل هذا جعلَ من الشاعرة «إنسانة» قَدَرِيةً، بينما بقيت محاولاتها في مقاومة هذا القدر (مكتومة) في شعرها بدل أن تكون (مكتوبة). وإزاء كتابتها عن «قضايا كبرى» في شعرها، وفي نقدها كذلك، ثمة زهدها أو بالأحرى إعراضها الملتبس عن الاهتمام بتدوين تلك الشؤون الشخصية «الصغرى» وهنا اكتملت دائرة حصارها المفزع والمفجع معاً. إذ سرعان ما انزوت، في غموض نفسي مركب من عزلة وقنوط. وعندما التقيت بها في بغداد أواخر الثمانينات أثناء حضورها فاعليات مهرجان المربد الشعري، ولعله كان آخر ظهور علني لها، بدت لي السيدة الأكاديمية أكثر غموضاً من الشاعرة. وهكذا ظلت تجربة العزلة تسم حياتها أكثر من شعرها، صحيح أن ثمة مسحة تشاؤم وتوحُّد في شعرها، يمكن أن تعبر عن شخصية سوداوية، لكنها مختلطة بتوجه فني رومانسي طبع عموم تجربتها ولم تغادرها طيلة تجربتها الشعرية، عكس السياب وإن نسبياً، والبياتي في شكل أوضح. وبلند الحيدري في محاولته لتمثُّل أفكار المدرسة الوجودية.
في «شظايا ورماد» ديوانها الأبرز، ثمة بضع قصائد يمكن من خلالها التقاط ملامح نكهة شخصية ممزوجة بنبرة حداثية ستنحسر في دواوينها اللاحقة، ويمكن تحديد تلك القصائد ب «مر القطار» و «الأفعوان» و «جامعة الظلال» و «مرثية يوم تافه» و «الخيط المشدود في شجرة السرو».
كانت نازك في العشرينيات من عمرها عندما أقدمتْ على إحراق مذكراتها الشخصية! وكتبت قصيدتها «الحياة المحترقة» «سَنَواتي كُلُّها يَا نارُ في هَذي السَّطُور» «فيمَ تَبْقَى ذِكْرياتي حيَّةً بَعْدِي وأُنْسَى» هكذا كان الاعتراف الأخير للنار، اعترافاً مبكراً ووحيداً، ولعل هذا ما يفسِّرُ، على نحو دقيق، لماذا ظلَّ شعر نازك مسكوناً بالدخان والرماد، بينما ظل الحريق مشتعلاً في مكان آخر، مكان في داخلها، تغدو فيه النار السرية أقوى من ضوء الكتابة.
إذا كان المبتكر الأول أو المجدَّد في جانبٍ ما من فن الشعر يوصف بأنَّه «آدم الشعر» بمعنى الأبوَّة والنموذج البدئي، فإنَّ مثل هذا التوصيف مع شاعرة مثل نازك الملائكة (1923 - 2007) لهو أمر جدير بالبحث من أجل أن نجد لغواية حواء وتوبتها تفسيراً آخر، ونتأمل كيف يمكن أن يتحول الابتكار إلى ارتكابٍ يستدعي التوبة، فإذا كان آدم أبَ الجميع حقاً، فإنَّ حواء، إضافة إلى كونها الأمّ الأولى، فهي أيضاً من ابتكر الغواية الأصلية، تماماً كما فعلت نازك حين قادت سلالة من الغواة من فردوس كان يبدو أبديَّاً متمثلاً في الشعر العمودي، إلى متاهاتٍ أخرى واقتراحات جديدة في خريطة قلقةٍ متمثلة في الشعر الحديث.
لكن أصول الخطيئة الأصلية ضائعة، فهي أشبه بجريمة مركَّبة أطرافها متعدِّدون: آدم وحواء والشيطان والأفعى والشجرة، وربما ثمة جناة آخرون خفيُّون. وفي وقت مبكر، ومبكر جداً بدا أن نازك تعلن براءتها من غواية حواء ومما «ارتكبته» هي شخصياً، سواء في خطابها الشعري، أو في مقولاتها النقدية التي تصلح أن تكون وثيقة أساسية في رصد «التوبة» إن لم نقل «الردّة» عن تبشيرها الأول الحماسي والمتقدَّم.
ففي تقديمها لديوانها الأول «مأساة الحياة وأغنية للإنسان» الذي يعود زمن كتابته إلى أواسط الأربعينات، وقامت بنشره في السبعينات أي بعد نحو ربع قرن منذ نشرها «عاشقة الليل» و «شظايا ورماد» تعود إلى استخدم كلمة «نظم» بدل «الشعر»، بينما تؤكد في الوقت ذاته أن مرجعيتها الشعرية ناشئة عن اطلاعها على مطولات الشعر الإنكليزي وهو ما حرضها على كتابة مطولة «يفتقد لها الشعر العربي» كما تقول. وتعلن أنَّ نبرة التشاؤم في شعرها مستقاة من أفكار شوبنهاور.
وفي قصيدتها «آدم وحواء» في الديوان ذاته تستعير محنة حواء لكنَّها تحمِّلُ آدم والشيطان وِزرَ الخطيئة الأولى، بعلانية تتعلق بالتفسير الديني، أي بالنتيجة والحكم، ولا تبحث في الدافع الشعري الخفي، أي حافز الغواية: «ليتَ حوّاءَ لمْ تَذُقْ ثَمَرَ الدَّوحَةِ ليتَ الشيطانِ لمْ يَتَجنَّا». وتشير في مكان آخر من الديوان نفسه إلى تلازم الخطيئة الفردية بالعقاب الجماعي: حسبُها أنَّنا دَفعْنَا إليها/ ثمن العَيْشِ حيرةً ودُمُوعا/ أيَّ ذنبٍ جناهُ آدمُ حَتَّى/ نَتلقَّى العِقابَ نحنُ جَميعا؟/ وليكنْ آدمٌ جَنَى حسبُهُ فقدانُ فردوسِهِ الجميلِ عِقَابا».
بين أن هذا التداخل بين الخطيئة الأصلية والمتوارثة. بين الذنب الشخصي والإثم الجماعي، يمكن النظر إليه من خلال مفهوم «غواية الحداثة الشعرية» على أنه الخطيئة التي تعني الخصوبة، حيث غدا التمرّد سلالة متناسلة، ولم يعد مجرد خروج عروضي، كما توقَّعتْ حواءُ الشعر، بل إنه أودى بالأوزان الخليلة كلها، وهزَّ مفهوم القصيدة والشعر عموماً حينما ذهب إلى تداخل الأجناس، فيما يشبه هندسة وراثية تجسد لا نهائية العصيان والتمرّد.
ومنذ مقدمتها لديوان «شظايا ورماد» التي يمكن أن تقرأ بأنها البيان الأول لإعلان ما سمته «الشعر الحر» أعلنت بوضوح أنَّ ما عرف نقدياً بالشعر الحديث، هو ظاهرة عروضية بملامحها الأساسية، وهو ما عادت ورسخته في شكل تطبيقي وتفصيلي في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» ودأبت على تكراره في مقدمات دواوينها التي اعتادت على تصديرها بإشارات نقدية. وصولاً إلى تقديمها لديوانها «يغيِّر ألوانه البحر».
ووفق هذا الفهم فإن شعر الحداثة هو مرحلة في التحولات الإيقاعية التي شهدها الشعر العربي عبر عصوره كما هو الحال في الموشح أو شعر البند على سبيل المثال، وليس انعطافاً في مستوى الفهم الجوهري للشعر.
بيد أنَّ هذا الخروج الشكلي، لم يكن كافياً لإخراجِ «الإنسانة» من عزلتها، فقد انتصرت عزلة «الإنسانة» على التمرَّد العروضي النسبي للشاعرة. ومن هنا فإنَّ المزاج الروحي الملتبس لشخصية نازك، ظاهرة مهمة ينبغي إعادة قراءة شعرها على أساسه، ولعل تلميح توفيق صايغ منذ وقت مبكر إلى فكرة المتاهة في دراسته عن ديوانها «شظايا ورماد» التي نشرت بعد رحيل الاثنين. يصلح أن يكون فتحة مضيئة في تلك العزلة الشائكة.
في الجملة الأخيرة في تقديمها ل «شظايا ورماد» حيت نازك الملائكة من سمَّتهم «شعراء الغد بألف تحية» ولم تمض فترة طويلة قبل أن تتنصل عن هذا التبشير وتحيل تحيتها تلك إلى نعوت نقدية قاسية باتجاه «شعراء الغد» وذلك في كتابها «قضايا الشعر المعاصر»: فالماغوط: «أديب لبناني ناشئ!» وتوفيق صايغ «لم يكتب في حياته بيت شعر واحداً. وكل ما يكتبه نثر مثل النثر العادي!» والأمر ينطبق بدرجة أو أخرى على البياتي وجبرا، مستثنية نزار قباني والسياب المحافظين على الشكل المنضبط لقصيدة التفعيلة.
حتى في ديوانها المتأخِّر «يغيِّرُ ألوانه البحر» تبدو نازك موجة ثابتة في ذلك البحر، ومع أنها تقول: «يُغَيِّرُ ألوانَهُ ويصيرُ بلونِ الرماد» إلا أنها سعت فيه إلى استعادة شظايا رمادها الأول، ولم تكد تغادر الموضوعات القديمة، الموضوعات الكبرى العامة: «سيناء في حرب أكتوبر» و «خريطة فلسطين» و «تحرير القنيطرة» مع قصائد أخرى ذات نبرة صوفية دينية بل إنها ابتهالات صريحة كما في قصيدة «زنابق صوفية للرسول: قصيدة حب للرسول في صيغة معاصرة» و «دكان القرائين الصغيرة» أو العديد من الكتابات الاستعادية الأخرى بروح رومنطيقية واضحة.
وباستثناء قصيدتها «صور وتهويمات أمام أضواء المرور» التي تستفيد منها من تعدُّد الألوان في الإشارات الضوئية في محاولة لخلق نوع من الدراما، إلا أنها سرعان ما تختار النداء المتكرر في شكل مبالغ فيه كتقنية أساسية في البناء العام القصيدة ولا تكسر شيئاً من سطوة الإرث الرومانسي المتحكم في جذور تكوينها الشعري والشخصي، فالضوء الأحمر- مع ملاحظة أنها تؤنثه- هو حُمرة: «تقطعُ ما نتمنَّى أْن نسمعَ بعدَهْ/ لا تُعطينا العِطْرَ ولكنْ تُفجعِنا بحُطامِ الوَرْدَةْ». والأصفر: معبرُنا المرموقُ ووادينا الأشقر/ ما بينَ الصمتِ وبين النغمةْ/ ما بينَ النظرةِ والكلمةْ/ فاصلُ أسرارٍ وتجلٍّ بينَ الضوءِ وبينَ العَتمةْ/ في ليلِ محبٍّ ضيَّعَ مسلكَه في غابةِ بَسمةْ» ولا يبدو البيت الأخير بعيداً عن بقايا تأثيرات أستاذها علي محمود طه بأضواء «الجندول» و «ليالي كليوباترا».
أما الأخضر ففيه: «يختلطُ الموتُ مع الميلادْ/ يتكسَّرُ مِنْ فرحِ اللقيا وجهُ القمرِ».
غير أن هذا التعدد من الألوان لا يقودُها سوى إلى لونها الداخلي، إلى رمادها وظلامها البعيدين فحسب: «ما بينَ الأحمرِ والأصفرِ والأخضرِ/ تضحكُ يا قَلْبي، تَبْكِي، تتذكَّرْ/ وَتسيرُ تسيرُ إلى أينَ/ الْمَسعى والظلمةُ ممدودةْ».وهذا يعدينا إلى نيتها لتغيير عنوان مجموعتها «قرارة الموجة» إلى «طريق العودة» لأنه يعبر عنها أكثر كما تقول، كما لو الاندفاع والعمق يخيفانها، بينما الانكفاء والحنين يعبِّران عنها أكثر.
لعل نازك أكثر من كتب عن الموت الجماعي، الموت الكارثي، موت الحرب العالمية الثانية-رغم إنها حرب أوربا في ميدانها الأساسي-بما في ذلك قصيدة «الكوليرا» والتي صارت تقرأ على إنها التاريخ الرسمي للشعر الحرَّ. موضوعها تلك الجائحة التي ضربت مصر وأحدثت موتاً كارثياً يحسب فيه قبض الأرواح بالدقائق، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالفيضانات التي ضربت بغداد، لكن حواء الشعر العربي لم تعبر كثيراً عن الموت الشخصي، فالموت في شعرها كما في معظم شعر الرواد معبر عنه بالموت العضوي المباشر.
موضوعاتها الشعرية بهذا المعنى ذات مضامين «إنسانية» بيد أن الإنسان حتى مع صيغة التعريف اللغوي، يبقى اسماً موغلاً في الحيادية بل وحتى التنكير، ولعلَّ هذا الانشغال «الإنساني» للشعر هو ما أودى بالشخصي وغيَّبه في عموم تجربة نازك، فهي عاشقة «الليل» هذا المذكر اللغوي المجازي: وعاشقة للرجال الموتى، ومن المهم هنا التنويه بقصيدتها الليلية إلى «كيتس» شاعرها الشاب الذي اختطفه الموت. وشعرها يحاور الأشباح والظلال والعتمة ولا يكاد يمسكُ شيئاً.
كل هذا جعلَ من الشاعرة «إنسانة» قَدَرِيةً، بينما بقيت محاولاتها في مقاومة هذا القدر (مكتومة) في شعرها بدل أن تكون (مكتوبة). وإزاء كتابتها عن «قضايا كبرى» في شعرها، وفي نقدها كذلك، ثمة زهدها أو بالأحرى إعراضها الملتبس عن الاهتمام بتدوين تلك الشؤون الشخصية «الصغرى» وهنا اكتملت دائرة حصارها المفزع والمفجع معاً. إذ سرعان ما انزوت، في غموض نفسي مركب من عزلة وقنوط. وعندما التقيت بها في بغداد أواخر الثمانينات أثناء حضورها فاعليات مهرجان المربد الشعري، ولعله كان آخر ظهور علني لها، بدت لي السيدة الأكاديمية أكثر غموضاً من الشاعرة. وهكذا ظلت تجربة العزلة تسم حياتها أكثر من شعرها، صحيح أن ثمة مسحة تشاؤم وتوحُّد في شعرها، يمكن أن تعبر عن شخصية سوداوية، لكنها مختلطة بتوجه فني رومانسي طبع عموم تجربتها ولم تغادرها طيلة تجربتها الشعرية، عكس السياب وإن نسبياً، والبياتي في شكل أوضح. وبلند الحيدري في محاولته لتمثُّل أفكار المدرسة الوجودية.
في «شظايا ورماد» ديوانها الأبرز، ثمة بضع قصائد يمكن من خلالها التقاط ملامح نكهة شخصية ممزوجة بنبرة حداثية ستنحسر في دواوينها اللاحقة، ويمكن تحديد تلك القصائد ب «مر القطار» و «الأفعوان» و «جامعة الظلال» و «مرثية يوم تافه» و «الخيط المشدود في شجرة السرو».
كانت نازك في العشرينيات من عمرها عندما أقدمتْ على إحراق مذكراتها الشخصية! وكتبت قصيدتها «الحياة المحترقة» «سَنَواتي كُلُّها يَا نارُ في هَذي السَّطُور» «فيمَ تَبْقَى ذِكْرياتي حيَّةً بَعْدِي وأُنْسَى» هكذا كان الاعتراف الأخير للنار، اعترافاً مبكراً ووحيداً، ولعل هذا ما يفسِّرُ، على نحو دقيق، لماذا ظلَّ شعر نازك مسكوناً بالدخان والرماد، بينما ظل الحريق مشتعلاً في مكان آخر، مكان في داخلها، تغدو فيه النار السرية أقوى من ضوء الكتابة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.