أم طبخت ترابا وفتيات انتحرن، مسؤول أممي يكشف عن مآس يعيشها السودانيين بسبب الحرب    أخبار مصر: وفاة عروس أثناء حفل زفافها بالمنيا والصحة تكشف مفاجأة، بداية فصل الصيف والأرصاد تحذر، ورحلة عمرة لأسرتي مشجعتي الأهلي    عاجل:- استقرار أسعار الحديد والأسمنت في مصر بعد عيد الأضحى    مبدأ قضائي باختصاص القضاء الإداري بنظر دعاوى التعويض عن الأخطاء    في ختام أسبوع العيد.. سعر الذهب اليوم الخميس 20 يونيو 2024 وعيار 21 الآن    النشرة الصباحية من «المصري اليوم»: سحب 4 أدوية من الأسواق.. الموت يخطف عروس المنيا.. حصيلة مرعبة في وفيات الحجاج المصريين.. سبب عدم خروج صلاح أمام غينيا بيساو.. والأرصاد تحذر من طقس اليوم    صحة قنا تكشف حصيلة مخالفات الأغذية والمشروبات المضبوطة خلال أيام العيد    عاجل:- وفاة العديد من الحجاج غير النظاميين خلال موسم الحج 1445ه    اسعار حفلات عمرو دياب في مراسي الساحل الشمالي    تعرف على خريطة الكنائس الشرقيّة الكاثوليكية    بعد تصريحات اللاعب| هل يرفض الأهلي استعارة «تريزيجيه» بسبب المطالب المادية؟    مصرع شخصين وإصابة 3 آخرين في حادث تصادم بكفر الشيخ    إلى أين تتجه التطورات على حدود إسرائيل الشمالية؟    حماس: تأكيد جديد من جهة أممية رفيعة على جرائم إسرائيل في غزة    سنتكوم تعلن تدمير مسيّرتين ووحدة قيادة تابعة للحوثيين في اليمن    ارتفاع عدد ضحايا الانهيارات الأرضية إلى 10 أشخاص في بنجلاديش    حرب الاتهامات تشتعل بين مندوبي السودان والإمارات في مجلس الأمن (فيديو)    العطلة الطويلة جذبت الكثيرين إلى المصايف| أين قضى المصريون الإجازة؟    الآلاف في رحاب «السيد البدوى» احتفالًا بعيد الأضحى    هيئة الداوء تحذر من 4 أدوية وتأمر بسحبها من الأسواق    أسرع مرض «قاتل» للإنسان.. كيف تحمي نفسك من بكتيريا آكلة اللحم؟    التخزين الخامس خلال أيام.. خبير يفجر مفاجأة بشأن سد النهضة    وزير الداخلية السعودي: موسم الحج لم يشهد وقوع أي حوادث تمس أمن الحجيج    yemen exam.. رابط الاستعلام عن نتائج الصف التاسع اليمن 2024    بوتين: روسيا ستواصل تعزيز العلاقات وتطوير التعاون مع فيتنام    بعد بيان الأبيض.. اتحاد الكرة يبحث عن حكم أجنبي لإدارة قمة الأهلي والزمالك    إيقاف قيد نادي مودرن فيوتشر.. تعرف على التفاصيل    تشييع جثامين أم وبناتها الثلاث ضحايا حادث انقلاب سيارة في ترعة بالشرقية    الركود يسيطر على سوق الذهب وإغلاق المحال حتى الإثنين المقبل    هل يسمع الموتى من يزورهم أو يسلِّم عليهم؟ دار الإفتاء تجيب    «إن كنتم تناسيتم ذلك أنا لم أنسى».. تعليق مثير من محمد عواد بعد إحالته للتحقيق    «آخرساعة» في سوق المدبح القديم بالسيدة زينب| «حلويات المدبح»    بعنوان «قلبي يحبك يا دنيا».. إلهام شاهين تُعلن عن فيلم جديد مع ليلي علوي وهالة صدقي    بعد نجاح زراعته في مصر.. هل الكاسافا هو البطاطا؟ الزراعة تجيب    "تاتو" هيفاء وهبي وميرهان حسين تستعرض جمالها.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    حمدي الميرغني يوجه رسالة ل علي ربيع بعد حضوره مسرحية "ميمو"    تامر حسني يشعل حفله بكفر الشيخ رابع أيام عيد الأضحى (صور)    خاص.. موقف الزمالك من خوض مباراة الأهلي بالدوري    «من أجل كايزر تشيفز».. بيرسي تاو يضع شرطًا مُثيرًا للرحيل عن الأهلي (تفاصيل)    تحت سمع وبصر النيابة العامة…تعذيب وصعق بالكهرباء في سجن برج العرب    معظم الحجاج المتوفين خلال موسم حج هذا العام من المخالفين    حظك اليوم| برج الحمل الخميس 20 يونيو.. «وجه تركيزك على التفاصيل»    وفاة الناقد الأدبي محمود عبدالوهاب    فرقة أعز الناس.. سارة جمال تغني "ألف ليلة وليلة" في "معكم منى الشاذلي"    كندا تبدأ بتصنيف الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 20 يونيو 2024 في البنوك    وزير الرياضة ينعي مشجع نادي الزمالك    ارتفاع رصيد الذهب فى الاحتياطى الأجنبى لمصر إلى 456 مليار جنيه    مشروبات صحية يجب تناولها عقب لحوم العيد (فيديو)    تعرف علي المبادرات التي أطلقتها الدولة المصرية لتدريب الشباب وتأهيلهم وتمكينهم    إحالة مديرى مستشفى "ساقلتة" و"أخميم" للتحقيق لتغيبهما عن العمل فى العيد    بخطوات سهلة.. طريقة عمل كفتة داود باشا    بعد انتهاء أعمال الحج.. علي جمعة يكشف عن آداب زيارة مقام النبي والمسجد النبوي    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج بكالوريوس الطب والجراحة (الشعبة الفرنسية) جامعة الإسكندرية    مايا مرسي تستقبل رئيس الوكالة الإسبانية للتعاون الإنمائي    ما هي علامات قبول الحج؟.. عالم أزهري يجيب    علي جمعة ينصح: أكثروا في أيام التشريق من الذكر بهذه الكلمات العشر    ما هي الأشهر الحرم وسبب تسميتها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سحر الموجي تعبُر النظريات النسوية روائياً
نشر في صوت البلد يوم 10 - 07 - 2017

السيرينات هي مخلوقات خرافية إغريقية، تشبه جنية البحر، لكنها تتميز بصوتها العذب الذي يجذب البحارة الى عالم التيه، إنها الموازية للنداهة في الفولكلور المصري. وقد قام أوديسيوس بوضع الشمع في أذنيه كيلا يسمع الصوت وطلب من البحارة أن يربطوه إلي صاري السفينة، لكنهم اضطروا في النهاية إلي فك وثاقه من شدة صراخه واستعطافه إياهم. السيرينات هن علامة الخطر، التحدي الذي يواجه أبطال الملاحم، وهن الإغراء الكائن دائماً أمام البطل إذ إن الخضوع للصوت يعني انقطاع المسار البطولي.
تنقلب هذه المنظومة تمامًا عند سحر الموجي، فتفتتح الكاتبة المصرية روايتها «مسك التل» (دار الشروق، 2017) بمجموعة من النساء يسكنّ بيت السيرينات، وهو يقوم على تل في مكان ناء في وسط الطبيعة. وهن لسن أي نساء، بل بطلات أشهر الروايات العربية والعالمية. وكأنهن يُكملن الحياة التي انقطعت بانتهاء الرواية التي ظهرن فيها. بهذا يمسك القارئ بأول الخيط الذي يمنح هؤلاء البطلات حياة ثانية في تحد واضح لإرادة الكاتب الأصلي. هي مواجهة مباشرة بين هؤلاء البطلات وبين الكتاب والكاتبات الذين رسموا حياتهن، فكلهن يعشن في قلق السؤال وإعادة قراءة للماضي، بل إنهن يعرفن عبر قراءة قصصهن في المكتبة ما كان خافياً عليهن. وعبر هذه المعرفة تكتسب هؤلاء البطلات القدرة على بناء حياة جديدة، أو بالأحرى حياة ثانية تكون فيها الغلبة لصوتهن وليس لصوت من كتبهن. ولذلك يبدو طبيعياً أن تكون ليلى على سبيل المثل، بطلة «الباب المفتوح» للراحلة لطيفة الزيات، متسقة تماماً مع مسار حياتها، فقد منحتها الكاتبة في الرواية الأصلية صوتاً وذاتية تمكناها من بناء حياة جديدة.
في مشهد عاصفة غامضة، يطبق الظلام وتقع لحظة سكون، فتنتقل أمينة الثلاثية المحفوظية وكاثرين ارنشو بطلة «مرتفعات وذرنغ» التي كتبتها اميلي برونتي عام 1847 من الغابة المحيطة ببيت السيرينات إلى حرم مسجد الحسين في القاهرة. تؤسس هذه اللقطة سمة المشهدية السينمائية التي تعتمد عليها الرواية حتى النهاية، وهو ما ينقذ السرد من السقوط في فخ التفاصيل غير الضرورية. فالانتقال من مشهد إلي مشهد يشبه المونتاج الذي يعفينا من إعمال المنطق في السؤال.
حياة عاصفة
لا يأتي اختيار أمينة وكاثرين اعتباطاً، فقد اختارت الموجي شخصيتين معروفتين أدبيًا، مرّتا بحياة عاصفة. فأمينة - كما كتبها نجيب محفوظ - لم تحظ بصوت خاص بها، بل كان صوتها يتسرب من عنق زجاجة صوتي نجيب محفوظ وسي السيد، لذلك لم نعرف مطلقًا مشاعرها الدقيقة مثلاً عندما استشهد ابنها فهمي، لم نعرف ما إذا كانت راضية وقانعة بحياتها مع سي السيد أم غاضبة. أما كاثرين ففقدت امكان تتويج حبها لهيثكليف بسبب أخيها الذي أصرّ على الحفاظ على التراتب الهرمي للطبقات، وجاء موتها ليبتر حياتها وصوتها، فما كان من روحها إلا أن ظلت تهيم في البراري وتنادي تماماً كالسيرينات.
تأتي كل شخصية بحياة كاملة صاخبة تحتاج إلى الشرح والتعليق، فعل لابد أن يكتمل بإرادة كل واحدة منهما. لا تُعيد الموجي كتابة حياة أي واحدة منهما، بل هي تمنحهما الصوت المسلوب والقدرة علي الاختيار في حياة ثانية، وقد كان ذلك هو الهم المسيطر علي أعمال الموجي السابقة. في معنى آخر، تمنحهما الموجي مشاهد إضافية في النص الأصلي، وهي مشاهد تدفع القارئ إلى إعادة النظر في كل بديهيات رؤيته لهذه الشخصيات. وبالمثل، تحصل الشخصيتان على فرصة للتعبير عن رؤيتهما لما حدث في الثلاثية منذ ما يزيد عن الستين عاماً ومرتفعات وذرنج من حوالى قرنين.
بظهور شخصيتي أمينة وكاثرين في حاضر القاهرة - 2010 تحديداً - كان لابد من ظهور شخصية تنتمي الى تلك اللحظة الآنية، فظهرت شخصية مريم- الطبيبة النفسية التي هجرت عملها وحياتها وتعاني من الاكتئاب. باجتماع الثلاث معاً، تتمكن الموجي من منح كل واحدة ليس فقط مساحة وصوتًا واضحًا، بل مساراً متميزاً يتشكل بناء على اختيار واع وإرادة حرة لا تتأثر بأي قيم ذكورية متوارثة، كما كان الحال مع أمينة، أو بأي ضغوط خاصة بالطبقة، كما كان الحال مع كاثرين، أو بضغوط الحياة اليومية القاسية في المدينة كما هو الحال مع مريم. وكما يتمكن القارئ من إعادة النظر إلى حيوات سابقة من منظور مختلف يحدث الشيء نفسه لمريم التي تراجع كل مفردات الماضي الذي كان ضاغطاً عليها - سيطرة الأم وفقد الزوج وبعض العلاقات المحكوم عليها بالفشل.
ليس الأمر ببساطة التضامن النسوي، بل إنه يتعلق بالتقاء الأرواح في زمن آخر، كأنه إعادة اكتشاف لما كنا عليه في حياتنا الأخرى، كأنها دورة مستمرة لا نعيها إلا عبر التنقل بين الأزمنة، وهي حركة تمنح الروح والعقل إمكان القراءة والتفسير ومن ثم القبول. وبهذا يكتسب بيت السيرينات- الذي رأته مريم أثناء غيبوبة الضغط العالي- دلالة عالية في الرواية، فهو عمق العقل الباطن، هو مكان المواجهة، هو مكان المعرفة بدليل ما اكتسبته أمينة هناك والذي يتسم أحيانًا بالمبالغة. هو المرآة التي ترشدنا إلى الفهم، هو أكثر ما يخيفنا أن نفكر فيه. تكتسب هذه الدلالة أهمية أعلى عندما نلحظ أن الشخصيات كلها لا تجد السلام إلا عبر التداخل النفسي والزمني والثقافي، فكما تلتقي كاثرين بيوسف وأمه، تلتقي أمينة مع حفيدها، وتتصالح مريم مع نفسها.
وكما كانت أمينة هي المحور الحاضر الغائب في بيت النحاسين في ثلاثية محفوظ، أصبحت المحور الرئيس أيضاً في حياة المجتمع الصغير الذي تمكنت من الدخول فيه بيسر وسلاسة. لكن الدور المحوري الذي لعبته أمينة تجلى في حياة مريم ويرجع ذلك بسبب الأمومة الفطرية لدى أمينة من ناحية، ولكونها متصالحة مع ذاتها من ناحية أخرى، فليست لديها ذرة غضب واحدة مثلاً على سي السيد، بل كان جل حزنها يرتكز على فقدها ابنها فهمي الذي كان يأتيها في الأحلام كثيرًا.
السرد الدائري
كانت كاثرين متصالحة مع ذاتها لكنها غاضبة من كونها غادرت الحياة بمفردها من دون هيثكليف، وهو ما كان يتجلى في الحمى التي تنتابها كثيراً، وفي قصيدة «السيدة شالوت» التي كتبها الشاعر الفيكتوري ألفريد تينيسون في القرن التاسع عشر والتي تلح عليها طوال الوقت، وجدت السلام والقناعة مع يوسف، زميلها في العمل. وتحققت أمنيتها - «شبعت من الحياة» - فكان أن غادرا معاً إلى حياة أخرى في التفجير الذي وقع في كنيسة القديسين في الإسكندرية أواخر عام 2010.
وكما بدأ السرد في الحاضر من منطقة الحسين ينتهي عندها بأمينة ومريم، وتلتحق بهما فيرجينيا وولف ربما لتحل محل كاثرين؟ هكذا يتخذ السرد شكلاً دائرياً سواء من ناحية تداخل الأزمنة أو الشخصيات أو الأماكن أو الأحلام، وتتمكن الشخصيات من اجتراح الحدود بكل تجلياتها فيتحول الصمت إلى صوت والفقد إلى ثراء والفوضى العبثية إلى فهم. بهذه الحبكة- التي تُقوض التقنيات الذكورية الثابتة منذ التراث الإغريقي- تبدو سحر الموجي وكأنها تترجم نظريات النسوية العابرة للحدود والقوميات (تقوم أمينة فعليًا بترجمة خطابات فيرجينيا وولف) إلى عمل مُحكم ينهل من العالمي ولا يُغادر المحلي، بل يجمع بينهما عبر الإرادة الذاتية لكل شخصية، كما أنه عمل يُوظف الفانتازي كتقنية، لكنه لا يغادر الواقعي كمضمون. في عالم شفيف، يظهر من خلف غلالة بخور المسك الذي كانت أمينة مُغرمة به تتحرك الشخصيات بسهولة في الزمن، فتجد في كل مكان جزءاً من الروح التائهة لتقوم بصياغة خطاب نسوي مستقل.
السيرينات هي مخلوقات خرافية إغريقية، تشبه جنية البحر، لكنها تتميز بصوتها العذب الذي يجذب البحارة الى عالم التيه، إنها الموازية للنداهة في الفولكلور المصري. وقد قام أوديسيوس بوضع الشمع في أذنيه كيلا يسمع الصوت وطلب من البحارة أن يربطوه إلي صاري السفينة، لكنهم اضطروا في النهاية إلي فك وثاقه من شدة صراخه واستعطافه إياهم. السيرينات هن علامة الخطر، التحدي الذي يواجه أبطال الملاحم، وهن الإغراء الكائن دائماً أمام البطل إذ إن الخضوع للصوت يعني انقطاع المسار البطولي.
تنقلب هذه المنظومة تمامًا عند سحر الموجي، فتفتتح الكاتبة المصرية روايتها «مسك التل» (دار الشروق، 2017) بمجموعة من النساء يسكنّ بيت السيرينات، وهو يقوم على تل في مكان ناء في وسط الطبيعة. وهن لسن أي نساء، بل بطلات أشهر الروايات العربية والعالمية. وكأنهن يُكملن الحياة التي انقطعت بانتهاء الرواية التي ظهرن فيها. بهذا يمسك القارئ بأول الخيط الذي يمنح هؤلاء البطلات حياة ثانية في تحد واضح لإرادة الكاتب الأصلي. هي مواجهة مباشرة بين هؤلاء البطلات وبين الكتاب والكاتبات الذين رسموا حياتهن، فكلهن يعشن في قلق السؤال وإعادة قراءة للماضي، بل إنهن يعرفن عبر قراءة قصصهن في المكتبة ما كان خافياً عليهن. وعبر هذه المعرفة تكتسب هؤلاء البطلات القدرة على بناء حياة جديدة، أو بالأحرى حياة ثانية تكون فيها الغلبة لصوتهن وليس لصوت من كتبهن. ولذلك يبدو طبيعياً أن تكون ليلى على سبيل المثل، بطلة «الباب المفتوح» للراحلة لطيفة الزيات، متسقة تماماً مع مسار حياتها، فقد منحتها الكاتبة في الرواية الأصلية صوتاً وذاتية تمكناها من بناء حياة جديدة.
في مشهد عاصفة غامضة، يطبق الظلام وتقع لحظة سكون، فتنتقل أمينة الثلاثية المحفوظية وكاثرين ارنشو بطلة «مرتفعات وذرنغ» التي كتبتها اميلي برونتي عام 1847 من الغابة المحيطة ببيت السيرينات إلى حرم مسجد الحسين في القاهرة. تؤسس هذه اللقطة سمة المشهدية السينمائية التي تعتمد عليها الرواية حتى النهاية، وهو ما ينقذ السرد من السقوط في فخ التفاصيل غير الضرورية. فالانتقال من مشهد إلي مشهد يشبه المونتاج الذي يعفينا من إعمال المنطق في السؤال.
حياة عاصفة
لا يأتي اختيار أمينة وكاثرين اعتباطاً، فقد اختارت الموجي شخصيتين معروفتين أدبيًا، مرّتا بحياة عاصفة. فأمينة - كما كتبها نجيب محفوظ - لم تحظ بصوت خاص بها، بل كان صوتها يتسرب من عنق زجاجة صوتي نجيب محفوظ وسي السيد، لذلك لم نعرف مطلقًا مشاعرها الدقيقة مثلاً عندما استشهد ابنها فهمي، لم نعرف ما إذا كانت راضية وقانعة بحياتها مع سي السيد أم غاضبة. أما كاثرين ففقدت امكان تتويج حبها لهيثكليف بسبب أخيها الذي أصرّ على الحفاظ على التراتب الهرمي للطبقات، وجاء موتها ليبتر حياتها وصوتها، فما كان من روحها إلا أن ظلت تهيم في البراري وتنادي تماماً كالسيرينات.
تأتي كل شخصية بحياة كاملة صاخبة تحتاج إلى الشرح والتعليق، فعل لابد أن يكتمل بإرادة كل واحدة منهما. لا تُعيد الموجي كتابة حياة أي واحدة منهما، بل هي تمنحهما الصوت المسلوب والقدرة علي الاختيار في حياة ثانية، وقد كان ذلك هو الهم المسيطر علي أعمال الموجي السابقة. في معنى آخر، تمنحهما الموجي مشاهد إضافية في النص الأصلي، وهي مشاهد تدفع القارئ إلى إعادة النظر في كل بديهيات رؤيته لهذه الشخصيات. وبالمثل، تحصل الشخصيتان على فرصة للتعبير عن رؤيتهما لما حدث في الثلاثية منذ ما يزيد عن الستين عاماً ومرتفعات وذرنج من حوالى قرنين.
بظهور شخصيتي أمينة وكاثرين في حاضر القاهرة - 2010 تحديداً - كان لابد من ظهور شخصية تنتمي الى تلك اللحظة الآنية، فظهرت شخصية مريم- الطبيبة النفسية التي هجرت عملها وحياتها وتعاني من الاكتئاب. باجتماع الثلاث معاً، تتمكن الموجي من منح كل واحدة ليس فقط مساحة وصوتًا واضحًا، بل مساراً متميزاً يتشكل بناء على اختيار واع وإرادة حرة لا تتأثر بأي قيم ذكورية متوارثة، كما كان الحال مع أمينة، أو بأي ضغوط خاصة بالطبقة، كما كان الحال مع كاثرين، أو بضغوط الحياة اليومية القاسية في المدينة كما هو الحال مع مريم. وكما يتمكن القارئ من إعادة النظر إلى حيوات سابقة من منظور مختلف يحدث الشيء نفسه لمريم التي تراجع كل مفردات الماضي الذي كان ضاغطاً عليها - سيطرة الأم وفقد الزوج وبعض العلاقات المحكوم عليها بالفشل.
ليس الأمر ببساطة التضامن النسوي، بل إنه يتعلق بالتقاء الأرواح في زمن آخر، كأنه إعادة اكتشاف لما كنا عليه في حياتنا الأخرى، كأنها دورة مستمرة لا نعيها إلا عبر التنقل بين الأزمنة، وهي حركة تمنح الروح والعقل إمكان القراءة والتفسير ومن ثم القبول. وبهذا يكتسب بيت السيرينات- الذي رأته مريم أثناء غيبوبة الضغط العالي- دلالة عالية في الرواية، فهو عمق العقل الباطن، هو مكان المواجهة، هو مكان المعرفة بدليل ما اكتسبته أمينة هناك والذي يتسم أحيانًا بالمبالغة. هو المرآة التي ترشدنا إلى الفهم، هو أكثر ما يخيفنا أن نفكر فيه. تكتسب هذه الدلالة أهمية أعلى عندما نلحظ أن الشخصيات كلها لا تجد السلام إلا عبر التداخل النفسي والزمني والثقافي، فكما تلتقي كاثرين بيوسف وأمه، تلتقي أمينة مع حفيدها، وتتصالح مريم مع نفسها.
وكما كانت أمينة هي المحور الحاضر الغائب في بيت النحاسين في ثلاثية محفوظ، أصبحت المحور الرئيس أيضاً في حياة المجتمع الصغير الذي تمكنت من الدخول فيه بيسر وسلاسة. لكن الدور المحوري الذي لعبته أمينة تجلى في حياة مريم ويرجع ذلك بسبب الأمومة الفطرية لدى أمينة من ناحية، ولكونها متصالحة مع ذاتها من ناحية أخرى، فليست لديها ذرة غضب واحدة مثلاً على سي السيد، بل كان جل حزنها يرتكز على فقدها ابنها فهمي الذي كان يأتيها في الأحلام كثيرًا.
السرد الدائري
كانت كاثرين متصالحة مع ذاتها لكنها غاضبة من كونها غادرت الحياة بمفردها من دون هيثكليف، وهو ما كان يتجلى في الحمى التي تنتابها كثيراً، وفي قصيدة «السيدة شالوت» التي كتبها الشاعر الفيكتوري ألفريد تينيسون في القرن التاسع عشر والتي تلح عليها طوال الوقت، وجدت السلام والقناعة مع يوسف، زميلها في العمل. وتحققت أمنيتها - «شبعت من الحياة» - فكان أن غادرا معاً إلى حياة أخرى في التفجير الذي وقع في كنيسة القديسين في الإسكندرية أواخر عام 2010.
وكما بدأ السرد في الحاضر من منطقة الحسين ينتهي عندها بأمينة ومريم، وتلتحق بهما فيرجينيا وولف ربما لتحل محل كاثرين؟ هكذا يتخذ السرد شكلاً دائرياً سواء من ناحية تداخل الأزمنة أو الشخصيات أو الأماكن أو الأحلام، وتتمكن الشخصيات من اجتراح الحدود بكل تجلياتها فيتحول الصمت إلى صوت والفقد إلى ثراء والفوضى العبثية إلى فهم. بهذه الحبكة- التي تُقوض التقنيات الذكورية الثابتة منذ التراث الإغريقي- تبدو سحر الموجي وكأنها تترجم نظريات النسوية العابرة للحدود والقوميات (تقوم أمينة فعليًا بترجمة خطابات فيرجينيا وولف) إلى عمل مُحكم ينهل من العالمي ولا يُغادر المحلي، بل يجمع بينهما عبر الإرادة الذاتية لكل شخصية، كما أنه عمل يُوظف الفانتازي كتقنية، لكنه لا يغادر الواقعي كمضمون. في عالم شفيف، يظهر من خلف غلالة بخور المسك الذي كانت أمينة مُغرمة به تتحرك الشخصيات بسهولة في الزمن، فتجد في كل مكان جزءاً من الروح التائهة لتقوم بصياغة خطاب نسوي مستقل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.