غرفة عمليات المؤتمر: المرأة الصعيدية لها دور محوري في تغيير موازين الانتخابات بدائرة الفتح    إسكان الشيوخ توجه اتهامات للوزارة بشأن ملف التصالح في مخالفات البناء    نقابة المهندسين تحتفي بالمهندس طارق النبراوي وسط نخبة من الشخصيات العامة    انطلاق أعمال لجنة اختيار قيادات الإدارات التعليمية بالقليوبية    هيئة سلامة الغذاء: 6425 رسالة غذائية مصدرة خلال الأسبوع الماضي    تكثيف حملات النظافة حول الكنائس بالشرقية    وزير الإسكان: مخطط شامل لتطوير وسط القاهرة والمنطقة المحيطة بالأهرامات    نائب محافظ الدقهلية يتفقد مشروعات الخطة الاستثمارية بمركز ومدينة شربين    أمين عام حزب الله: نزع السلاح مشروع إسرائيلي أمريكي    "القاهرة الإخبارية": خلافات عميقة تسبق زيلينسكي إلى واشنطن    وزيرا خارجية تايلاند وكمبوديا يصلان إلى الصين لإجراء محادثات    كأس مصر، الزمالك يحافظ علي تقدمه أمام بلدية المحلة بهدف بعد مرور 75 دقيقة    ميلان يرتقي لصدارة الدوري الإيطالي بثلاثية في شباك فيرونا    ضبط شخص في الجيزة بتهمة بالنصب على راغبي السفر للعمل بالخارج    وزارة الداخلية تضبط سيدة وجهت الناخبين بمحيط لجان قفط    وداع هادئ للمخرج داوود عبد السيد.. علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية    رحيل «دقدق» مؤدي المهرجانات الشعبية.. صاحب الأغنية الشهيرة «إخواتي»    تأجيل تصوير مسلسل «قتل اختياري» بعد موسم رمضان 2026    أكرم القصاص للأحزاب الجديدة: البناء يبدأ من القاعدة ووسائل التواصل نافذة التغيير    من مستشفيات ألمانيا إلى الوفاة، تفاصيل رحلة علاج مطرب المهرجانات "دقدق"    رسالة من اللواء عادل عزب مسئول ملف الإخوان الأسبق في الأمن الوطني ل عبد الرحيم علي    صعود مؤشرات البورصة بختام تعاملات جلسة بداية الأسبوع    البورصة المصرية تربح 17.5 مليار جنيه بختام تعاملات الأحد 28 ديسمبر 2025    عاجل- هزة أرضية عنيفة تهز تايوان وتؤدي لانقطاع الكهرباء دون خسائر بشرية    بابا لعمرو دياب تضرب رقما قياسيا وتتخطى ال 200 مليون مشاهدة    قضية تهز الرأي العام في أمريكا.. أسرة مراهق تتهم الذكاء الاصطناعي بالتورط في وفاته    وليد الركراكي: أشرف حكيمي مثل محمد صلاح لا أحد يمكنه الاستغناء عنهما    الزمالك يصل ملعب مباراته أمام بلدية المحلة    وزارة الصحة: غلق مصحة غير مرخصة بالمريوطية وإحالة القائمين عليها للنيابة    من مخزن المصادرات إلى قفص الاتهام.. المؤبد لعامل جمارك بقليوب    صاحب الفضيلة الشيخ / سعد الفقي يكتب عن : شخصية العام!    " نحنُ بالانتظار " ..قصيدة لأميرة الشعر العربى أ.د.أحلام الحسن    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : حينما نزل الغيث ؟!    رئيس جامعة قناة السويس يتفقد اللجان الامتحانية بالمعهد الفني للتمريض    لتخفيف التشنج والإجهاد اليومي، وصفات طبيعية لعلاج آلام الرقبة والكتفين    أبرز مخرجات الابتكار والتطبيقات التكنولوجية خلال عام 2025    انتظام حركة المرور بدمياط رغم سوء الأحوال الجوية    الداخلية تقضي على بؤر إجرامية بالمنوفية وتضبط مخدرات بقيمة 54 مليون جنيه    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة في صورة بطاطين    أزمة السويحلي الليبي تتصاعد.. ثنائي منتخب مصر للطائرة يلجأ للاتحاد الدولي    وصول جثمان المخرج داوود عبدالسيد إلى كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة    بدون حبوب| أطعمة طبيعية تمد جسمك بالمغنيسيوم يوميا    «ليمتلس ناتشورالز» تعزز ريادتها في مجال صحة العظام ببروتوكول تعاون مع «الجمعية المصرية لمناظير المفاصل»    ولادة عسيرة للاستحقاقات الدستورية العراقية قبيل عقد أولى جلسات البرلمان الجديد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم فى سوهاج    هيئة الرعاية الصحية تستعرض إنجازات التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم القناة    أمم أفريقيا 2025.. تشكيل بوركينا فاسو المتوقع أمام الجزائر    وزير الصناعة يزور مقر سلطة الموانئ والمناطق الحرة في جيبوتي ويشهد توقيع عدد من الاتفاقيات    مد غزة ب7400 طن مساعدات و42 ألف بطانية ضمن قافلة زاد العزة ال103    أحمد سامي: تعرضت لضغوطات كبيرة في الاتحاد بسبب الظروف الصعبة    لافروف: روسيا تعارض استقلال تايوان بأي شكل من الأشكال    الناخبون يتوافدون للتصويت بجولة الإعادة في 19 دائرة ب7 محافظات    أول تعليق من حمو بيكا بعد انتهاء عقوبته في قضية حيازة سلاح أبيض    الزمالك يخشى مفاجآت كأس مصر في اختبار أمام بلدية المحلة    2025.. عام المشروعات الاستثنائية    2026 .. عام الأسئلة الكبرى والأمنيات المشروعة    عبد الفتاح عبد المنعم: الصحافة المصرية متضامنة بشكل كامل مع الشعب الفلسطينى    يوفنتوس يقترب خطوة من قمة الدوري الإيطالي بثنائية ضد بيزا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد مباركي.. يقول في الجنون
نشر في صوت البلد يوم 16 - 01 - 2017

نحن العرب المشارقة - إذا جاز التعبير - نعشق بساطة وبهاء ودفء كرم شعب المغرب الشقيق، وجمال طبيعته الساحرة، بقدر ما نعتز بشهامة الشعب الجزائري وعنفوان كرامته التي جعلته يضحي بالكثير الكثير، لتحقيق النصر على المحتل الفرنسي، ولكننا مهما قلنا، فلن نجمع بين المحبتين الشعبيتين، بقدر ما جَمَعَ القاص والروائي المبدع محمد مباركي، إذ ولد في الجزائر، وتَعَلّمَ الوجد في مدينته الأصلية "وجدة" المغربية.
ولا أريد الحديث عن أعمال هذا القاص والروائي التي ابتدأها عام 2010 بمجموعة قصص بعنوان "وطن الخبز الأسود" وتلاها في عام 2011 برواية "جدار" ثم مجموعة قصص بعنوان "الرّقم المعلوم" في 2012، ولم تكن آخرها رواية "تغسال".
فلقد شرفتني الروائية ليلى مهيدرة بدعوتها للمشاركة في هذا المهرجان العتيد، وبإرسال مجموعة قصص مباركي بعنوان "قال رفيقي في الجنون"، لأقرأها وأكتب قراءتي لها، كما يلي:
المجموعة القصصية جاءت بعنوان؛ "قال رفيقي في الجنون". مباركي لم يكتب: "قال رفيقي المجنون" وإنما وكأنه يقول: "قال رفيقي في درب نعيشه هو درب الجنون." وهذا قول دقيق المعنى..إذ أننا لسنا مجانين، ولكننا نعيش حياة مجنونة، في كون مجنون.
كيف لا تكون حياتنا مجنونة ونحن نقرأ مثلاً؛ "حصول أكبر سفاح مجرم في العالم على جائزة نوبل للسلام" أخذها للسلام...وليتهم جعلوها جائزة زيوس للحرب.. أو جائزة هولاكو للإرهاب. كيف لا يكون الجنون هو ما نعيش، وهناك ملياردير يهدد بكل صلف وقسوة ملايين الجوعى والمعطلين عن العمل، كيف لا يكون الجنون ما نعيشه، ونحن أمة مقسمة مفسخة متقاتلة متذابحة، رغم كونها - من المحيط إلى الخليج - ذات لغة عربية واحدة، وتاريخ واحد، وجغرافيا واحدة، واقتصاد واحد، ودين واحد، بينما يتحد الأوروبيون أصحاب مائة وخمسين لغة مختلفة، وتجدهم يُجمعون على تفسيخنا وتقطيعنا وتحويلنا إلى شراذم ينهش بعضنا بعضاً.
ولهذا أجد مباركي قد وُفِّق في العنوان "رفيقي في الجنون". إنه يقول في قصته الأولى الممهورة بعنوان الكتاب نفسه: "أجدني أهذي في صحوي ونومي. يحضر عقلي بين الحين والحين لمدّة قصيرة، فأنتبه فيها لحالي.." إن شخصية السارد في هذه القصة تنطق بالهذيان، إذ لا تميز الزوجة من ميادة الحناوي، من وردة الجزائرية. ولهذا تنتهي القصة ببكاء جميع المجانين على حالهم. وللخروج من رفقة الجنون هذه، صار السارد يعيش شعوراً يدفعه لأن يطير. قد يكون الحل هو الطيران من على سطح الأرض والاختفاء في المجهول.
إذ يقول: "كنت أريد أن أطير. سألت نفسي لماذا لا أطير!" وهذا الحل كنت قد وضعت شبيهه في روايتي "الحب في زمن العولمة" إذ اقترح مليارديرات الأرض - في اجتماع تآمري - لهم التخلص من مليارات الفقراء، وذلك بتثبيت جهاز طرد مركزي يقذف الفقراء ليطيروا بعيداً عن الجاذبية الأرضية، فيختفون في الفضاء، لتبقى الحياة سعيدة بمليارديراتها غير الملوثين بالفقراء. فكرة الطيران هذه لدى مباركي موفقة. قد يكون هناك توارد خواطر بين فقراء الكتاب العرب، وذلك بالخوف من خبث المليارديرات من أن يبعدوهم عن هذه الأرض الظالمة التي قد تؤدي الحياة فيها إلى الجنون.
في القصة الثانية من القصص العشرين التي تتمدد على صفحات المجموعة، بعنوان "ورقة" نستشعر سوء تفاهم بين امرأة في الأربعينيات، نجدها مضطهدة ومتعبة ومرتبكة، تشك في نفسها وفي الناس أجمعين، وبين شابة في العشرين تقف أمامها بورقة ترعب المرأة، فتطرد الشابة التي تترك الورقة على مكتب المرأة، فيقرأها زوجها الشكاك، المحاصِر لخصوصيات زوجته، وإذ بالصغيرة تطلب فيها المساعدة لأخوات يتيمات ثلاث. القصة رغم قصرها، فهي ترسم ماضي السيدة الشقي بقدرة فائقة على التصوير، وحاضرها المحاصَر بزوجها وبالآخرين، وبالتالي ارتباكها الذي يجعلها لا تميز بين الخير والشر في كل من يتقدم منها. وهي تصور تأثير المتسلطين على تصرفات الآخرين، والتي تدمر سلوكهم الإنساني، وتحطم معنوياتهم وإنسانيتهم.
في القصة الثالثة بعنوان: "الكذاب" وهو العم "العيد" رجل مهذار يُضحك أفراد الحي بكذبه وحكاياته التي يعرفونها مازحة. نجد بلاغة لغوية جميلة، وانزياحات تعبيرية تحسن التشبيه، كقوله ؛ "يجري الكذب على لسانه بهذه البداهة مجرى الماء في سرير النّهر..".
أعجبتني عبارة "مجرى الماء في سرير النهر". كان التعبير جديداً علي. وكأن الماء يتدفق في سرير جارٍ. ولكن فحوى القصة كلها كان لتعظيم كذب العم عيد. لدرجة يوصلنا السارد إلى أن أعظم كذبة ذكرها العيد هي أن وزن خاروف العيد كان قنطار لحم صافٍ؛ مما جعل السارد يستعظم هذه الكذبة، التي لا تحتمل.."، إذ قال: "بلغ وزنه قنطارَ لحمٍ صافٍ".
وهنا وجدت أن وزن القنطار كان كذبة كسائر الكذب المحبب للمستمعين، ولكنه ليس كذبة مذهلة كما كان السارد يريد أن يوصلنا إليه. ذلك لأن القنطار حسب المعجم في مصر يساوي مائة رطل، أي 45 كغم. وهذا الوزن ليس كثيراً على خاروف لو كان ضخم الجسم. كنت أتوقع أن يقول العم "العيد": "كان الخاروف بحجم الفيل"، مثلاً، أو بحجم الجمل، حتى ننذهل لهذه الكذبة. ولكنها كذبة عادية كسائر الكذب الذي كان يُضحك جمهور "العيد"، وهو يقصد ترفيههم. ولكن القاص مباركي أمتعنا بهذه الشخصية "العيد"، فنجح بهذا الإبداع، إذ جعلنا أمام شخصية حية تسعى.
في قصته «رجل بلا رقبة» نجد السارد يواجه شخصية القصة بأحداثها التي نفهم منها أن رجلاً فقيراً لا يملك ثمن طعام عائلته، متزوجٌ من امرأة سيئة السمعة، يضطر لقبول عرض لأن يذهب مع ابنتيه بحجة العُمرة، فيتركهما في بلاد العمرة، عند امرأة مريبة، تعطيه صرة من النقود، وتقول له مع السلامة. فتتبع الابنتان سيرة أمهما. نلاحظ في هذه القصة شعوراً بالمسؤولية الوطنية لدى القاص، والغيرة على بنات البلد. وهذا ملمح من ملامح كتابة محمد مباركي الواقعية بسخرية مُرّة، إذ نكتشف أنه كاتب ساخر، يغار على سمعة وطنه، ويحاول أن يصحح من الانحرف عن أصول المسيرة الاجتماعية العربية المغربية القويمة.
وهنا استطاع القاص أن يوصل لنا الفكرة، بدون أن يورط نفسه وأنفس القراء بتفاصيل الانحرافات التي تتم عادة عن السلوك المجتمعي، وكأنه يردد مقولة؛ "تجوع الحرة ولا تأكل بثديها."
نشعر هنا أن القاص استخدم أسلوب "المدعي العام" وليس السارد في هذا السرد الذي لا يوجهه إلى القارىء، بل وكأنه يفاجىء شخصية القصة، بكونه يعرف كل شيء عن المسرود عنه. إذ يقول له: "احتفظتَ بالرّسالة في جيب معطفك المتهرّئ حتّى عدتَ إلى المنزل. أعطيتها لابنتك الكبرى. بدأت قراءتها بتمعّن. حاولتَ فهم ما تقرأه البنت من خلال تقلّص وتمدّد قسمات وجهها. وسألتها: "ما الأمر يا ابنتي؟" وهكذا يستمر السرد التحقيقي للقصة، بطريقة غير تقليدية، تجعلنا ننتبه لأسلوب السارد العليم، الذي يفضح مشاعر الأب، كقوله: "أحسستَ برقبتك تغوص في قفصك الصّدري. وآلمتك أسئلة القاضي الشّابّ. نزلت عليك كاليعاسيب لسعت أذنيك الكبيرتين."
السارد هنا يشبه محققاً في محكمة، يُحضِّر أسئلة الادعاء العام ضد المتهم؟ ولو أن القاص اتبع أسلوب سرد ما حدث مباشرة للقارىء، لكان وقعُ القصة أقل إدهاشا، ولكنه قرر كشف فضيحة الفاعل، فحقق بهذا الأسلوب فضح الرجل الديوث والتهكم عليه، فدعّم بذلك نجاح القصة.
في القصة الخامسة بعنوان "يا دجنبر الحاقد" نقرأ عن مسجد اشتروه في بلاد الغربة، يدخله مغترب من جماعتهم، فيصلي مع الجماعة، ويطلب من الإمام أن ينام في المسجد اتقاء للصقيع الذي يكاد أن يجمد جسده. فيرفض الشيخ مبيت الشاب المُهجر من وطنه. ولكن أحد القائمين على المسجد يتوسط للشاب، إذ يطلب من الإمام أن يسمح له بالمبيت، فيصر الشيخ على رفض إيواء المشرد. فيضطر هذا الرجل أن يُذَكِّر الشيخ بأصل قدومه مثلما قدم هذا الشاب فآووه يومها، وعلموه الدين، وعينوه إماماً. وعندما رسخت جذوره، نسي أصله وفصله، فصار يتحكم بالمسلمين المشردين. ولهذا يتم طرد الشيخ من إمامة المسجد.
وهذه القصة المؤثرة توضح كيف يأتي الأشخاص البسطاء فيستولون على منصة الإمامة، ثم يتغيرون، ليتسلطوا على رقاب العباد من المواطنين. وهنا لا يسرد مباركي قصته ويتوقف عند حد السرد، بل نجده يقدم الحل، بأن اللجنة المشرفة على المسجد تطرد الإمام الذي يسيء إدارة مسؤولياته بالحق.
وهنا نتعرف على قاص يحلم بإرساء قواعد الحق في مجتمعه، ويحمل مسؤولية الكلمة التي يكتبها، فيكون كاتباً ملتزماً، يطرد الأئمة الفاسدين الذين يتولون مسؤولية الآخرين.
وإذا ذكرنا الفساد الذي يستشري يوماً بعد يوم باستشراء تباعد الفوارق الطبقية بين المليارديرات والفقراء، الذين لا تتاح لهم مجرد فرصة عمل، نفهم أن لا فائدة ترجى من المؤسسات التي تتضخم يوما بعد يوم تحت عنوان "مؤسسة مكافحة الفساد" إذ يزداد انتشار الفساد مع تضخم المؤسسات التي تُبنى لمكافحته. المرض هنا هو رأس المال المتوحش، الذي ينتشر كالسرطان أو كمرض الإيدز في المجتمع، إذ لا يمكن الشفاء منه بأخذ المسكنات.
في قصته السادسة بعنوان""بين بغلين" يخرج السارد ببغلين، يركب أحدهما ويحمل أغراضه على الآخر، ليُحضِّر بحثا ميدانيّا حول بعض الصّخور النّادرة في منطقة جبليّة بجهته بحكم اختصاصه في الجغرافيا الطّبيعية.
يخرج السارد بنا في عالم جديد علينا، ويلتجىء ليلاً في مغارة مع بغليه. وبالسرد ينجح مباركي في جعلنا نخشى تقلبات النهار في الأماكن قيد التجوال والبحث، ويرعبنا في عتمة الليل، فيوصلنا إلى مرحلة الخوف مما نحن فيه. ويستمر يشحننا بالرعب، حتى يوعز له البغلان فجأة أن هناك تدفق ماء مهول سينفجر من قلب المغارة، وإذا بقينا هنا فسيقتلنا. وما هي سوى لحظات كان قد خرج منها الباحث حتى تدفقت مياه تعجز عن مقاومتها أعتى الصخور. ولكنني لم أفهم لماذا اختار الباحث الحيوانين ليكونا بغلين وهما عندنا معروفين بالغباء. ولماذا كان البغلان هما الناطقان بالتحذير، ولم يحذر الباحث، وهو الأولى بالتوقُّع.
وفي النتيجة، هل يريد القاص أن يوصلنا إلى أن الوطن العربي مقدم على كوارث قاتلة؟ ولكن تفجر الماء هو خير.. فهل يقصد مباركي أن الخير قادم في النهاية لوطننا المرعوب بعيشته الضنكى؟
ورغم هذه التساؤلات، نجد أن كتابة مباركي ترسم لوحات تعبيرية بالكلمات، فيبرز لنا جمالية لغتنا العربية، وقدرتها على التعبير، ورسم الصور المتحركة. إذ يقول في هذه القصة: "انفجر الماء غاضبا من عمق المغارة وارتمى لسانه بعيدا دحرج الجلاميد.." فهنا استطاع تصوير حركة الماء وهو ينفجر بتعابير وجه غاضبٍ، وكأنه كائن حي ينفجر غاضباً، وأعطى تدفق الماء روحاً وحياة وشخصية غاضبة ذات لسان يلعلع بقوة الماء، لدرجة يدحرج الجلاميد.
إنه رسام بارع، يدب الروح في الأشياء. وحسب اعتقادي، فإن المواد السائلة والصلبة، هي كائنات حية، لأنها مكونة من ذرات، وكل ذرة فيها بروتونات وإلكترونان ونيوترون. تدور وتدور داخل كل ذرة.. مثل دوران الموتورات الدوارة. وهذا ما يؤكده مباركي بقوله ينفجر الماء غاضباً. وقوله: "وارتمى لسانه بعيداً دحرج الجلاميد." تحية لهذا الكاتب المبدع الملتزم بقضايا وطنه.
نحن العرب المشارقة - إذا جاز التعبير - نعشق بساطة وبهاء ودفء كرم شعب المغرب الشقيق، وجمال طبيعته الساحرة، بقدر ما نعتز بشهامة الشعب الجزائري وعنفوان كرامته التي جعلته يضحي بالكثير الكثير، لتحقيق النصر على المحتل الفرنسي، ولكننا مهما قلنا، فلن نجمع بين المحبتين الشعبيتين، بقدر ما جَمَعَ القاص والروائي المبدع محمد مباركي، إذ ولد في الجزائر، وتَعَلّمَ الوجد في مدينته الأصلية "وجدة" المغربية.
ولا أريد الحديث عن أعمال هذا القاص والروائي التي ابتدأها عام 2010 بمجموعة قصص بعنوان "وطن الخبز الأسود" وتلاها في عام 2011 برواية "جدار" ثم مجموعة قصص بعنوان "الرّقم المعلوم" في 2012، ولم تكن آخرها رواية "تغسال".
فلقد شرفتني الروائية ليلى مهيدرة بدعوتها للمشاركة في هذا المهرجان العتيد، وبإرسال مجموعة قصص مباركي بعنوان "قال رفيقي في الجنون"، لأقرأها وأكتب قراءتي لها، كما يلي:
المجموعة القصصية جاءت بعنوان؛ "قال رفيقي في الجنون". مباركي لم يكتب: "قال رفيقي المجنون" وإنما وكأنه يقول: "قال رفيقي في درب نعيشه هو درب الجنون." وهذا قول دقيق المعنى..إذ أننا لسنا مجانين، ولكننا نعيش حياة مجنونة، في كون مجنون.
كيف لا تكون حياتنا مجنونة ونحن نقرأ مثلاً؛ "حصول أكبر سفاح مجرم في العالم على جائزة نوبل للسلام" أخذها للسلام...وليتهم جعلوها جائزة زيوس للحرب.. أو جائزة هولاكو للإرهاب. كيف لا يكون الجنون هو ما نعيش، وهناك ملياردير يهدد بكل صلف وقسوة ملايين الجوعى والمعطلين عن العمل، كيف لا يكون الجنون ما نعيشه، ونحن أمة مقسمة مفسخة متقاتلة متذابحة، رغم كونها - من المحيط إلى الخليج - ذات لغة عربية واحدة، وتاريخ واحد، وجغرافيا واحدة، واقتصاد واحد، ودين واحد، بينما يتحد الأوروبيون أصحاب مائة وخمسين لغة مختلفة، وتجدهم يُجمعون على تفسيخنا وتقطيعنا وتحويلنا إلى شراذم ينهش بعضنا بعضاً.
ولهذا أجد مباركي قد وُفِّق في العنوان "رفيقي في الجنون". إنه يقول في قصته الأولى الممهورة بعنوان الكتاب نفسه: "أجدني أهذي في صحوي ونومي. يحضر عقلي بين الحين والحين لمدّة قصيرة، فأنتبه فيها لحالي.." إن شخصية السارد في هذه القصة تنطق بالهذيان، إذ لا تميز الزوجة من ميادة الحناوي، من وردة الجزائرية. ولهذا تنتهي القصة ببكاء جميع المجانين على حالهم. وللخروج من رفقة الجنون هذه، صار السارد يعيش شعوراً يدفعه لأن يطير. قد يكون الحل هو الطيران من على سطح الأرض والاختفاء في المجهول.
إذ يقول: "كنت أريد أن أطير. سألت نفسي لماذا لا أطير!" وهذا الحل كنت قد وضعت شبيهه في روايتي "الحب في زمن العولمة" إذ اقترح مليارديرات الأرض - في اجتماع تآمري - لهم التخلص من مليارات الفقراء، وذلك بتثبيت جهاز طرد مركزي يقذف الفقراء ليطيروا بعيداً عن الجاذبية الأرضية، فيختفون في الفضاء، لتبقى الحياة سعيدة بمليارديراتها غير الملوثين بالفقراء. فكرة الطيران هذه لدى مباركي موفقة. قد يكون هناك توارد خواطر بين فقراء الكتاب العرب، وذلك بالخوف من خبث المليارديرات من أن يبعدوهم عن هذه الأرض الظالمة التي قد تؤدي الحياة فيها إلى الجنون.
في القصة الثانية من القصص العشرين التي تتمدد على صفحات المجموعة، بعنوان "ورقة" نستشعر سوء تفاهم بين امرأة في الأربعينيات، نجدها مضطهدة ومتعبة ومرتبكة، تشك في نفسها وفي الناس أجمعين، وبين شابة في العشرين تقف أمامها بورقة ترعب المرأة، فتطرد الشابة التي تترك الورقة على مكتب المرأة، فيقرأها زوجها الشكاك، المحاصِر لخصوصيات زوجته، وإذ بالصغيرة تطلب فيها المساعدة لأخوات يتيمات ثلاث. القصة رغم قصرها، فهي ترسم ماضي السيدة الشقي بقدرة فائقة على التصوير، وحاضرها المحاصَر بزوجها وبالآخرين، وبالتالي ارتباكها الذي يجعلها لا تميز بين الخير والشر في كل من يتقدم منها. وهي تصور تأثير المتسلطين على تصرفات الآخرين، والتي تدمر سلوكهم الإنساني، وتحطم معنوياتهم وإنسانيتهم.
في القصة الثالثة بعنوان: "الكذاب" وهو العم "العيد" رجل مهذار يُضحك أفراد الحي بكذبه وحكاياته التي يعرفونها مازحة. نجد بلاغة لغوية جميلة، وانزياحات تعبيرية تحسن التشبيه، كقوله ؛ "يجري الكذب على لسانه بهذه البداهة مجرى الماء في سرير النّهر..".
أعجبتني عبارة "مجرى الماء في سرير النهر". كان التعبير جديداً علي. وكأن الماء يتدفق في سرير جارٍ. ولكن فحوى القصة كلها كان لتعظيم كذب العم عيد. لدرجة يوصلنا السارد إلى أن أعظم كذبة ذكرها العيد هي أن وزن خاروف العيد كان قنطار لحم صافٍ؛ مما جعل السارد يستعظم هذه الكذبة، التي لا تحتمل.."، إذ قال: "بلغ وزنه قنطارَ لحمٍ صافٍ".
وهنا وجدت أن وزن القنطار كان كذبة كسائر الكذب المحبب للمستمعين، ولكنه ليس كذبة مذهلة كما كان السارد يريد أن يوصلنا إليه. ذلك لأن القنطار حسب المعجم في مصر يساوي مائة رطل، أي 45 كغم. وهذا الوزن ليس كثيراً على خاروف لو كان ضخم الجسم. كنت أتوقع أن يقول العم "العيد": "كان الخاروف بحجم الفيل"، مثلاً، أو بحجم الجمل، حتى ننذهل لهذه الكذبة. ولكنها كذبة عادية كسائر الكذب الذي كان يُضحك جمهور "العيد"، وهو يقصد ترفيههم. ولكن القاص مباركي أمتعنا بهذه الشخصية "العيد"، فنجح بهذا الإبداع، إذ جعلنا أمام شخصية حية تسعى.
في قصته «رجل بلا رقبة» نجد السارد يواجه شخصية القصة بأحداثها التي نفهم منها أن رجلاً فقيراً لا يملك ثمن طعام عائلته، متزوجٌ من امرأة سيئة السمعة، يضطر لقبول عرض لأن يذهب مع ابنتيه بحجة العُمرة، فيتركهما في بلاد العمرة، عند امرأة مريبة، تعطيه صرة من النقود، وتقول له مع السلامة. فتتبع الابنتان سيرة أمهما. نلاحظ في هذه القصة شعوراً بالمسؤولية الوطنية لدى القاص، والغيرة على بنات البلد. وهذا ملمح من ملامح كتابة محمد مباركي الواقعية بسخرية مُرّة، إذ نكتشف أنه كاتب ساخر، يغار على سمعة وطنه، ويحاول أن يصحح من الانحرف عن أصول المسيرة الاجتماعية العربية المغربية القويمة.
وهنا استطاع القاص أن يوصل لنا الفكرة، بدون أن يورط نفسه وأنفس القراء بتفاصيل الانحرافات التي تتم عادة عن السلوك المجتمعي، وكأنه يردد مقولة؛ "تجوع الحرة ولا تأكل بثديها."
نشعر هنا أن القاص استخدم أسلوب "المدعي العام" وليس السارد في هذا السرد الذي لا يوجهه إلى القارىء، بل وكأنه يفاجىء شخصية القصة، بكونه يعرف كل شيء عن المسرود عنه. إذ يقول له: "احتفظتَ بالرّسالة في جيب معطفك المتهرّئ حتّى عدتَ إلى المنزل. أعطيتها لابنتك الكبرى. بدأت قراءتها بتمعّن. حاولتَ فهم ما تقرأه البنت من خلال تقلّص وتمدّد قسمات وجهها. وسألتها: "ما الأمر يا ابنتي؟" وهكذا يستمر السرد التحقيقي للقصة، بطريقة غير تقليدية، تجعلنا ننتبه لأسلوب السارد العليم، الذي يفضح مشاعر الأب، كقوله: "أحسستَ برقبتك تغوص في قفصك الصّدري. وآلمتك أسئلة القاضي الشّابّ. نزلت عليك كاليعاسيب لسعت أذنيك الكبيرتين."
السارد هنا يشبه محققاً في محكمة، يُحضِّر أسئلة الادعاء العام ضد المتهم؟ ولو أن القاص اتبع أسلوب سرد ما حدث مباشرة للقارىء، لكان وقعُ القصة أقل إدهاشا، ولكنه قرر كشف فضيحة الفاعل، فحقق بهذا الأسلوب فضح الرجل الديوث والتهكم عليه، فدعّم بذلك نجاح القصة.
في القصة الخامسة بعنوان "يا دجنبر الحاقد" نقرأ عن مسجد اشتروه في بلاد الغربة، يدخله مغترب من جماعتهم، فيصلي مع الجماعة، ويطلب من الإمام أن ينام في المسجد اتقاء للصقيع الذي يكاد أن يجمد جسده. فيرفض الشيخ مبيت الشاب المُهجر من وطنه. ولكن أحد القائمين على المسجد يتوسط للشاب، إذ يطلب من الإمام أن يسمح له بالمبيت، فيصر الشيخ على رفض إيواء المشرد. فيضطر هذا الرجل أن يُذَكِّر الشيخ بأصل قدومه مثلما قدم هذا الشاب فآووه يومها، وعلموه الدين، وعينوه إماماً. وعندما رسخت جذوره، نسي أصله وفصله، فصار يتحكم بالمسلمين المشردين. ولهذا يتم طرد الشيخ من إمامة المسجد.
وهذه القصة المؤثرة توضح كيف يأتي الأشخاص البسطاء فيستولون على منصة الإمامة، ثم يتغيرون، ليتسلطوا على رقاب العباد من المواطنين. وهنا لا يسرد مباركي قصته ويتوقف عند حد السرد، بل نجده يقدم الحل، بأن اللجنة المشرفة على المسجد تطرد الإمام الذي يسيء إدارة مسؤولياته بالحق.
وهنا نتعرف على قاص يحلم بإرساء قواعد الحق في مجتمعه، ويحمل مسؤولية الكلمة التي يكتبها، فيكون كاتباً ملتزماً، يطرد الأئمة الفاسدين الذين يتولون مسؤولية الآخرين.
وإذا ذكرنا الفساد الذي يستشري يوماً بعد يوم باستشراء تباعد الفوارق الطبقية بين المليارديرات والفقراء، الذين لا تتاح لهم مجرد فرصة عمل، نفهم أن لا فائدة ترجى من المؤسسات التي تتضخم يوما بعد يوم تحت عنوان "مؤسسة مكافحة الفساد" إذ يزداد انتشار الفساد مع تضخم المؤسسات التي تُبنى لمكافحته. المرض هنا هو رأس المال المتوحش، الذي ينتشر كالسرطان أو كمرض الإيدز في المجتمع، إذ لا يمكن الشفاء منه بأخذ المسكنات.
في قصته السادسة بعنوان""بين بغلين" يخرج السارد ببغلين، يركب أحدهما ويحمل أغراضه على الآخر، ليُحضِّر بحثا ميدانيّا حول بعض الصّخور النّادرة في منطقة جبليّة بجهته بحكم اختصاصه في الجغرافيا الطّبيعية.
يخرج السارد بنا في عالم جديد علينا، ويلتجىء ليلاً في مغارة مع بغليه. وبالسرد ينجح مباركي في جعلنا نخشى تقلبات النهار في الأماكن قيد التجوال والبحث، ويرعبنا في عتمة الليل، فيوصلنا إلى مرحلة الخوف مما نحن فيه. ويستمر يشحننا بالرعب، حتى يوعز له البغلان فجأة أن هناك تدفق ماء مهول سينفجر من قلب المغارة، وإذا بقينا هنا فسيقتلنا. وما هي سوى لحظات كان قد خرج منها الباحث حتى تدفقت مياه تعجز عن مقاومتها أعتى الصخور. ولكنني لم أفهم لماذا اختار الباحث الحيوانين ليكونا بغلين وهما عندنا معروفين بالغباء. ولماذا كان البغلان هما الناطقان بالتحذير، ولم يحذر الباحث، وهو الأولى بالتوقُّع.
وفي النتيجة، هل يريد القاص أن يوصلنا إلى أن الوطن العربي مقدم على كوارث قاتلة؟ ولكن تفجر الماء هو خير.. فهل يقصد مباركي أن الخير قادم في النهاية لوطننا المرعوب بعيشته الضنكى؟
ورغم هذه التساؤلات، نجد أن كتابة مباركي ترسم لوحات تعبيرية بالكلمات، فيبرز لنا جمالية لغتنا العربية، وقدرتها على التعبير، ورسم الصور المتحركة. إذ يقول في هذه القصة: "انفجر الماء غاضبا من عمق المغارة وارتمى لسانه بعيدا دحرج الجلاميد.." فهنا استطاع تصوير حركة الماء وهو ينفجر بتعابير وجه غاضبٍ، وكأنه كائن حي ينفجر غاضباً، وأعطى تدفق الماء روحاً وحياة وشخصية غاضبة ذات لسان يلعلع بقوة الماء، لدرجة يدحرج الجلاميد.
إنه رسام بارع، يدب الروح في الأشياء. وحسب اعتقادي، فإن المواد السائلة والصلبة، هي كائنات حية، لأنها مكونة من ذرات، وكل ذرة فيها بروتونات وإلكترونان ونيوترون. تدور وتدور داخل كل ذرة.. مثل دوران الموتورات الدوارة. وهذا ما يؤكده مباركي بقوله ينفجر الماء غاضباً. وقوله: "وارتمى لسانه بعيداً دحرج الجلاميد." تحية لهذا الكاتب المبدع الملتزم بقضايا وطنه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.