عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد مباركي.. يقول في الجنون
نشر في صوت البلد يوم 16 - 01 - 2017

نحن العرب المشارقة - إذا جاز التعبير - نعشق بساطة وبهاء ودفء كرم شعب المغرب الشقيق، وجمال طبيعته الساحرة، بقدر ما نعتز بشهامة الشعب الجزائري وعنفوان كرامته التي جعلته يضحي بالكثير الكثير، لتحقيق النصر على المحتل الفرنسي، ولكننا مهما قلنا، فلن نجمع بين المحبتين الشعبيتين، بقدر ما جَمَعَ القاص والروائي المبدع محمد مباركي، إذ ولد في الجزائر، وتَعَلّمَ الوجد في مدينته الأصلية "وجدة" المغربية.
ولا أريد الحديث عن أعمال هذا القاص والروائي التي ابتدأها عام 2010 بمجموعة قصص بعنوان "وطن الخبز الأسود" وتلاها في عام 2011 برواية "جدار" ثم مجموعة قصص بعنوان "الرّقم المعلوم" في 2012، ولم تكن آخرها رواية "تغسال".
فلقد شرفتني الروائية ليلى مهيدرة بدعوتها للمشاركة في هذا المهرجان العتيد، وبإرسال مجموعة قصص مباركي بعنوان "قال رفيقي في الجنون"، لأقرأها وأكتب قراءتي لها، كما يلي:
المجموعة القصصية جاءت بعنوان؛ "قال رفيقي في الجنون". مباركي لم يكتب: "قال رفيقي المجنون" وإنما وكأنه يقول: "قال رفيقي في درب نعيشه هو درب الجنون." وهذا قول دقيق المعنى..إذ أننا لسنا مجانين، ولكننا نعيش حياة مجنونة، في كون مجنون.
كيف لا تكون حياتنا مجنونة ونحن نقرأ مثلاً؛ "حصول أكبر سفاح مجرم في العالم على جائزة نوبل للسلام" أخذها للسلام...وليتهم جعلوها جائزة زيوس للحرب.. أو جائزة هولاكو للإرهاب. كيف لا يكون الجنون هو ما نعيش، وهناك ملياردير يهدد بكل صلف وقسوة ملايين الجوعى والمعطلين عن العمل، كيف لا يكون الجنون ما نعيشه، ونحن أمة مقسمة مفسخة متقاتلة متذابحة، رغم كونها - من المحيط إلى الخليج - ذات لغة عربية واحدة، وتاريخ واحد، وجغرافيا واحدة، واقتصاد واحد، ودين واحد، بينما يتحد الأوروبيون أصحاب مائة وخمسين لغة مختلفة، وتجدهم يُجمعون على تفسيخنا وتقطيعنا وتحويلنا إلى شراذم ينهش بعضنا بعضاً.
ولهذا أجد مباركي قد وُفِّق في العنوان "رفيقي في الجنون". إنه يقول في قصته الأولى الممهورة بعنوان الكتاب نفسه: "أجدني أهذي في صحوي ونومي. يحضر عقلي بين الحين والحين لمدّة قصيرة، فأنتبه فيها لحالي.." إن شخصية السارد في هذه القصة تنطق بالهذيان، إذ لا تميز الزوجة من ميادة الحناوي، من وردة الجزائرية. ولهذا تنتهي القصة ببكاء جميع المجانين على حالهم. وللخروج من رفقة الجنون هذه، صار السارد يعيش شعوراً يدفعه لأن يطير. قد يكون الحل هو الطيران من على سطح الأرض والاختفاء في المجهول.
إذ يقول: "كنت أريد أن أطير. سألت نفسي لماذا لا أطير!" وهذا الحل كنت قد وضعت شبيهه في روايتي "الحب في زمن العولمة" إذ اقترح مليارديرات الأرض - في اجتماع تآمري - لهم التخلص من مليارات الفقراء، وذلك بتثبيت جهاز طرد مركزي يقذف الفقراء ليطيروا بعيداً عن الجاذبية الأرضية، فيختفون في الفضاء، لتبقى الحياة سعيدة بمليارديراتها غير الملوثين بالفقراء. فكرة الطيران هذه لدى مباركي موفقة. قد يكون هناك توارد خواطر بين فقراء الكتاب العرب، وذلك بالخوف من خبث المليارديرات من أن يبعدوهم عن هذه الأرض الظالمة التي قد تؤدي الحياة فيها إلى الجنون.
في القصة الثانية من القصص العشرين التي تتمدد على صفحات المجموعة، بعنوان "ورقة" نستشعر سوء تفاهم بين امرأة في الأربعينيات، نجدها مضطهدة ومتعبة ومرتبكة، تشك في نفسها وفي الناس أجمعين، وبين شابة في العشرين تقف أمامها بورقة ترعب المرأة، فتطرد الشابة التي تترك الورقة على مكتب المرأة، فيقرأها زوجها الشكاك، المحاصِر لخصوصيات زوجته، وإذ بالصغيرة تطلب فيها المساعدة لأخوات يتيمات ثلاث. القصة رغم قصرها، فهي ترسم ماضي السيدة الشقي بقدرة فائقة على التصوير، وحاضرها المحاصَر بزوجها وبالآخرين، وبالتالي ارتباكها الذي يجعلها لا تميز بين الخير والشر في كل من يتقدم منها. وهي تصور تأثير المتسلطين على تصرفات الآخرين، والتي تدمر سلوكهم الإنساني، وتحطم معنوياتهم وإنسانيتهم.
في القصة الثالثة بعنوان: "الكذاب" وهو العم "العيد" رجل مهذار يُضحك أفراد الحي بكذبه وحكاياته التي يعرفونها مازحة. نجد بلاغة لغوية جميلة، وانزياحات تعبيرية تحسن التشبيه، كقوله ؛ "يجري الكذب على لسانه بهذه البداهة مجرى الماء في سرير النّهر..".
أعجبتني عبارة "مجرى الماء في سرير النهر". كان التعبير جديداً علي. وكأن الماء يتدفق في سرير جارٍ. ولكن فحوى القصة كلها كان لتعظيم كذب العم عيد. لدرجة يوصلنا السارد إلى أن أعظم كذبة ذكرها العيد هي أن وزن خاروف العيد كان قنطار لحم صافٍ؛ مما جعل السارد يستعظم هذه الكذبة، التي لا تحتمل.."، إذ قال: "بلغ وزنه قنطارَ لحمٍ صافٍ".
وهنا وجدت أن وزن القنطار كان كذبة كسائر الكذب المحبب للمستمعين، ولكنه ليس كذبة مذهلة كما كان السارد يريد أن يوصلنا إليه. ذلك لأن القنطار حسب المعجم في مصر يساوي مائة رطل، أي 45 كغم. وهذا الوزن ليس كثيراً على خاروف لو كان ضخم الجسم. كنت أتوقع أن يقول العم "العيد": "كان الخاروف بحجم الفيل"، مثلاً، أو بحجم الجمل، حتى ننذهل لهذه الكذبة. ولكنها كذبة عادية كسائر الكذب الذي كان يُضحك جمهور "العيد"، وهو يقصد ترفيههم. ولكن القاص مباركي أمتعنا بهذه الشخصية "العيد"، فنجح بهذا الإبداع، إذ جعلنا أمام شخصية حية تسعى.
في قصته «رجل بلا رقبة» نجد السارد يواجه شخصية القصة بأحداثها التي نفهم منها أن رجلاً فقيراً لا يملك ثمن طعام عائلته، متزوجٌ من امرأة سيئة السمعة، يضطر لقبول عرض لأن يذهب مع ابنتيه بحجة العُمرة، فيتركهما في بلاد العمرة، عند امرأة مريبة، تعطيه صرة من النقود، وتقول له مع السلامة. فتتبع الابنتان سيرة أمهما. نلاحظ في هذه القصة شعوراً بالمسؤولية الوطنية لدى القاص، والغيرة على بنات البلد. وهذا ملمح من ملامح كتابة محمد مباركي الواقعية بسخرية مُرّة، إذ نكتشف أنه كاتب ساخر، يغار على سمعة وطنه، ويحاول أن يصحح من الانحرف عن أصول المسيرة الاجتماعية العربية المغربية القويمة.
وهنا استطاع القاص أن يوصل لنا الفكرة، بدون أن يورط نفسه وأنفس القراء بتفاصيل الانحرافات التي تتم عادة عن السلوك المجتمعي، وكأنه يردد مقولة؛ "تجوع الحرة ولا تأكل بثديها."
نشعر هنا أن القاص استخدم أسلوب "المدعي العام" وليس السارد في هذا السرد الذي لا يوجهه إلى القارىء، بل وكأنه يفاجىء شخصية القصة، بكونه يعرف كل شيء عن المسرود عنه. إذ يقول له: "احتفظتَ بالرّسالة في جيب معطفك المتهرّئ حتّى عدتَ إلى المنزل. أعطيتها لابنتك الكبرى. بدأت قراءتها بتمعّن. حاولتَ فهم ما تقرأه البنت من خلال تقلّص وتمدّد قسمات وجهها. وسألتها: "ما الأمر يا ابنتي؟" وهكذا يستمر السرد التحقيقي للقصة، بطريقة غير تقليدية، تجعلنا ننتبه لأسلوب السارد العليم، الذي يفضح مشاعر الأب، كقوله: "أحسستَ برقبتك تغوص في قفصك الصّدري. وآلمتك أسئلة القاضي الشّابّ. نزلت عليك كاليعاسيب لسعت أذنيك الكبيرتين."
السارد هنا يشبه محققاً في محكمة، يُحضِّر أسئلة الادعاء العام ضد المتهم؟ ولو أن القاص اتبع أسلوب سرد ما حدث مباشرة للقارىء، لكان وقعُ القصة أقل إدهاشا، ولكنه قرر كشف فضيحة الفاعل، فحقق بهذا الأسلوب فضح الرجل الديوث والتهكم عليه، فدعّم بذلك نجاح القصة.
في القصة الخامسة بعنوان "يا دجنبر الحاقد" نقرأ عن مسجد اشتروه في بلاد الغربة، يدخله مغترب من جماعتهم، فيصلي مع الجماعة، ويطلب من الإمام أن ينام في المسجد اتقاء للصقيع الذي يكاد أن يجمد جسده. فيرفض الشيخ مبيت الشاب المُهجر من وطنه. ولكن أحد القائمين على المسجد يتوسط للشاب، إذ يطلب من الإمام أن يسمح له بالمبيت، فيصر الشيخ على رفض إيواء المشرد. فيضطر هذا الرجل أن يُذَكِّر الشيخ بأصل قدومه مثلما قدم هذا الشاب فآووه يومها، وعلموه الدين، وعينوه إماماً. وعندما رسخت جذوره، نسي أصله وفصله، فصار يتحكم بالمسلمين المشردين. ولهذا يتم طرد الشيخ من إمامة المسجد.
وهذه القصة المؤثرة توضح كيف يأتي الأشخاص البسطاء فيستولون على منصة الإمامة، ثم يتغيرون، ليتسلطوا على رقاب العباد من المواطنين. وهنا لا يسرد مباركي قصته ويتوقف عند حد السرد، بل نجده يقدم الحل، بأن اللجنة المشرفة على المسجد تطرد الإمام الذي يسيء إدارة مسؤولياته بالحق.
وهنا نتعرف على قاص يحلم بإرساء قواعد الحق في مجتمعه، ويحمل مسؤولية الكلمة التي يكتبها، فيكون كاتباً ملتزماً، يطرد الأئمة الفاسدين الذين يتولون مسؤولية الآخرين.
وإذا ذكرنا الفساد الذي يستشري يوماً بعد يوم باستشراء تباعد الفوارق الطبقية بين المليارديرات والفقراء، الذين لا تتاح لهم مجرد فرصة عمل، نفهم أن لا فائدة ترجى من المؤسسات التي تتضخم يوما بعد يوم تحت عنوان "مؤسسة مكافحة الفساد" إذ يزداد انتشار الفساد مع تضخم المؤسسات التي تُبنى لمكافحته. المرض هنا هو رأس المال المتوحش، الذي ينتشر كالسرطان أو كمرض الإيدز في المجتمع، إذ لا يمكن الشفاء منه بأخذ المسكنات.
في قصته السادسة بعنوان""بين بغلين" يخرج السارد ببغلين، يركب أحدهما ويحمل أغراضه على الآخر، ليُحضِّر بحثا ميدانيّا حول بعض الصّخور النّادرة في منطقة جبليّة بجهته بحكم اختصاصه في الجغرافيا الطّبيعية.
يخرج السارد بنا في عالم جديد علينا، ويلتجىء ليلاً في مغارة مع بغليه. وبالسرد ينجح مباركي في جعلنا نخشى تقلبات النهار في الأماكن قيد التجوال والبحث، ويرعبنا في عتمة الليل، فيوصلنا إلى مرحلة الخوف مما نحن فيه. ويستمر يشحننا بالرعب، حتى يوعز له البغلان فجأة أن هناك تدفق ماء مهول سينفجر من قلب المغارة، وإذا بقينا هنا فسيقتلنا. وما هي سوى لحظات كان قد خرج منها الباحث حتى تدفقت مياه تعجز عن مقاومتها أعتى الصخور. ولكنني لم أفهم لماذا اختار الباحث الحيوانين ليكونا بغلين وهما عندنا معروفين بالغباء. ولماذا كان البغلان هما الناطقان بالتحذير، ولم يحذر الباحث، وهو الأولى بالتوقُّع.
وفي النتيجة، هل يريد القاص أن يوصلنا إلى أن الوطن العربي مقدم على كوارث قاتلة؟ ولكن تفجر الماء هو خير.. فهل يقصد مباركي أن الخير قادم في النهاية لوطننا المرعوب بعيشته الضنكى؟
ورغم هذه التساؤلات، نجد أن كتابة مباركي ترسم لوحات تعبيرية بالكلمات، فيبرز لنا جمالية لغتنا العربية، وقدرتها على التعبير، ورسم الصور المتحركة. إذ يقول في هذه القصة: "انفجر الماء غاضبا من عمق المغارة وارتمى لسانه بعيدا دحرج الجلاميد.." فهنا استطاع تصوير حركة الماء وهو ينفجر بتعابير وجه غاضبٍ، وكأنه كائن حي ينفجر غاضباً، وأعطى تدفق الماء روحاً وحياة وشخصية غاضبة ذات لسان يلعلع بقوة الماء، لدرجة يدحرج الجلاميد.
إنه رسام بارع، يدب الروح في الأشياء. وحسب اعتقادي، فإن المواد السائلة والصلبة، هي كائنات حية، لأنها مكونة من ذرات، وكل ذرة فيها بروتونات وإلكترونان ونيوترون. تدور وتدور داخل كل ذرة.. مثل دوران الموتورات الدوارة. وهذا ما يؤكده مباركي بقوله ينفجر الماء غاضباً. وقوله: "وارتمى لسانه بعيداً دحرج الجلاميد." تحية لهذا الكاتب المبدع الملتزم بقضايا وطنه.
نحن العرب المشارقة - إذا جاز التعبير - نعشق بساطة وبهاء ودفء كرم شعب المغرب الشقيق، وجمال طبيعته الساحرة، بقدر ما نعتز بشهامة الشعب الجزائري وعنفوان كرامته التي جعلته يضحي بالكثير الكثير، لتحقيق النصر على المحتل الفرنسي، ولكننا مهما قلنا، فلن نجمع بين المحبتين الشعبيتين، بقدر ما جَمَعَ القاص والروائي المبدع محمد مباركي، إذ ولد في الجزائر، وتَعَلّمَ الوجد في مدينته الأصلية "وجدة" المغربية.
ولا أريد الحديث عن أعمال هذا القاص والروائي التي ابتدأها عام 2010 بمجموعة قصص بعنوان "وطن الخبز الأسود" وتلاها في عام 2011 برواية "جدار" ثم مجموعة قصص بعنوان "الرّقم المعلوم" في 2012، ولم تكن آخرها رواية "تغسال".
فلقد شرفتني الروائية ليلى مهيدرة بدعوتها للمشاركة في هذا المهرجان العتيد، وبإرسال مجموعة قصص مباركي بعنوان "قال رفيقي في الجنون"، لأقرأها وأكتب قراءتي لها، كما يلي:
المجموعة القصصية جاءت بعنوان؛ "قال رفيقي في الجنون". مباركي لم يكتب: "قال رفيقي المجنون" وإنما وكأنه يقول: "قال رفيقي في درب نعيشه هو درب الجنون." وهذا قول دقيق المعنى..إذ أننا لسنا مجانين، ولكننا نعيش حياة مجنونة، في كون مجنون.
كيف لا تكون حياتنا مجنونة ونحن نقرأ مثلاً؛ "حصول أكبر سفاح مجرم في العالم على جائزة نوبل للسلام" أخذها للسلام...وليتهم جعلوها جائزة زيوس للحرب.. أو جائزة هولاكو للإرهاب. كيف لا يكون الجنون هو ما نعيش، وهناك ملياردير يهدد بكل صلف وقسوة ملايين الجوعى والمعطلين عن العمل، كيف لا يكون الجنون ما نعيشه، ونحن أمة مقسمة مفسخة متقاتلة متذابحة، رغم كونها - من المحيط إلى الخليج - ذات لغة عربية واحدة، وتاريخ واحد، وجغرافيا واحدة، واقتصاد واحد، ودين واحد، بينما يتحد الأوروبيون أصحاب مائة وخمسين لغة مختلفة، وتجدهم يُجمعون على تفسيخنا وتقطيعنا وتحويلنا إلى شراذم ينهش بعضنا بعضاً.
ولهذا أجد مباركي قد وُفِّق في العنوان "رفيقي في الجنون". إنه يقول في قصته الأولى الممهورة بعنوان الكتاب نفسه: "أجدني أهذي في صحوي ونومي. يحضر عقلي بين الحين والحين لمدّة قصيرة، فأنتبه فيها لحالي.." إن شخصية السارد في هذه القصة تنطق بالهذيان، إذ لا تميز الزوجة من ميادة الحناوي، من وردة الجزائرية. ولهذا تنتهي القصة ببكاء جميع المجانين على حالهم. وللخروج من رفقة الجنون هذه، صار السارد يعيش شعوراً يدفعه لأن يطير. قد يكون الحل هو الطيران من على سطح الأرض والاختفاء في المجهول.
إذ يقول: "كنت أريد أن أطير. سألت نفسي لماذا لا أطير!" وهذا الحل كنت قد وضعت شبيهه في روايتي "الحب في زمن العولمة" إذ اقترح مليارديرات الأرض - في اجتماع تآمري - لهم التخلص من مليارات الفقراء، وذلك بتثبيت جهاز طرد مركزي يقذف الفقراء ليطيروا بعيداً عن الجاذبية الأرضية، فيختفون في الفضاء، لتبقى الحياة سعيدة بمليارديراتها غير الملوثين بالفقراء. فكرة الطيران هذه لدى مباركي موفقة. قد يكون هناك توارد خواطر بين فقراء الكتاب العرب، وذلك بالخوف من خبث المليارديرات من أن يبعدوهم عن هذه الأرض الظالمة التي قد تؤدي الحياة فيها إلى الجنون.
في القصة الثانية من القصص العشرين التي تتمدد على صفحات المجموعة، بعنوان "ورقة" نستشعر سوء تفاهم بين امرأة في الأربعينيات، نجدها مضطهدة ومتعبة ومرتبكة، تشك في نفسها وفي الناس أجمعين، وبين شابة في العشرين تقف أمامها بورقة ترعب المرأة، فتطرد الشابة التي تترك الورقة على مكتب المرأة، فيقرأها زوجها الشكاك، المحاصِر لخصوصيات زوجته، وإذ بالصغيرة تطلب فيها المساعدة لأخوات يتيمات ثلاث. القصة رغم قصرها، فهي ترسم ماضي السيدة الشقي بقدرة فائقة على التصوير، وحاضرها المحاصَر بزوجها وبالآخرين، وبالتالي ارتباكها الذي يجعلها لا تميز بين الخير والشر في كل من يتقدم منها. وهي تصور تأثير المتسلطين على تصرفات الآخرين، والتي تدمر سلوكهم الإنساني، وتحطم معنوياتهم وإنسانيتهم.
في القصة الثالثة بعنوان: "الكذاب" وهو العم "العيد" رجل مهذار يُضحك أفراد الحي بكذبه وحكاياته التي يعرفونها مازحة. نجد بلاغة لغوية جميلة، وانزياحات تعبيرية تحسن التشبيه، كقوله ؛ "يجري الكذب على لسانه بهذه البداهة مجرى الماء في سرير النّهر..".
أعجبتني عبارة "مجرى الماء في سرير النهر". كان التعبير جديداً علي. وكأن الماء يتدفق في سرير جارٍ. ولكن فحوى القصة كلها كان لتعظيم كذب العم عيد. لدرجة يوصلنا السارد إلى أن أعظم كذبة ذكرها العيد هي أن وزن خاروف العيد كان قنطار لحم صافٍ؛ مما جعل السارد يستعظم هذه الكذبة، التي لا تحتمل.."، إذ قال: "بلغ وزنه قنطارَ لحمٍ صافٍ".
وهنا وجدت أن وزن القنطار كان كذبة كسائر الكذب المحبب للمستمعين، ولكنه ليس كذبة مذهلة كما كان السارد يريد أن يوصلنا إليه. ذلك لأن القنطار حسب المعجم في مصر يساوي مائة رطل، أي 45 كغم. وهذا الوزن ليس كثيراً على خاروف لو كان ضخم الجسم. كنت أتوقع أن يقول العم "العيد": "كان الخاروف بحجم الفيل"، مثلاً، أو بحجم الجمل، حتى ننذهل لهذه الكذبة. ولكنها كذبة عادية كسائر الكذب الذي كان يُضحك جمهور "العيد"، وهو يقصد ترفيههم. ولكن القاص مباركي أمتعنا بهذه الشخصية "العيد"، فنجح بهذا الإبداع، إذ جعلنا أمام شخصية حية تسعى.
في قصته «رجل بلا رقبة» نجد السارد يواجه شخصية القصة بأحداثها التي نفهم منها أن رجلاً فقيراً لا يملك ثمن طعام عائلته، متزوجٌ من امرأة سيئة السمعة، يضطر لقبول عرض لأن يذهب مع ابنتيه بحجة العُمرة، فيتركهما في بلاد العمرة، عند امرأة مريبة، تعطيه صرة من النقود، وتقول له مع السلامة. فتتبع الابنتان سيرة أمهما. نلاحظ في هذه القصة شعوراً بالمسؤولية الوطنية لدى القاص، والغيرة على بنات البلد. وهذا ملمح من ملامح كتابة محمد مباركي الواقعية بسخرية مُرّة، إذ نكتشف أنه كاتب ساخر، يغار على سمعة وطنه، ويحاول أن يصحح من الانحرف عن أصول المسيرة الاجتماعية العربية المغربية القويمة.
وهنا استطاع القاص أن يوصل لنا الفكرة، بدون أن يورط نفسه وأنفس القراء بتفاصيل الانحرافات التي تتم عادة عن السلوك المجتمعي، وكأنه يردد مقولة؛ "تجوع الحرة ولا تأكل بثديها."
نشعر هنا أن القاص استخدم أسلوب "المدعي العام" وليس السارد في هذا السرد الذي لا يوجهه إلى القارىء، بل وكأنه يفاجىء شخصية القصة، بكونه يعرف كل شيء عن المسرود عنه. إذ يقول له: "احتفظتَ بالرّسالة في جيب معطفك المتهرّئ حتّى عدتَ إلى المنزل. أعطيتها لابنتك الكبرى. بدأت قراءتها بتمعّن. حاولتَ فهم ما تقرأه البنت من خلال تقلّص وتمدّد قسمات وجهها. وسألتها: "ما الأمر يا ابنتي؟" وهكذا يستمر السرد التحقيقي للقصة، بطريقة غير تقليدية، تجعلنا ننتبه لأسلوب السارد العليم، الذي يفضح مشاعر الأب، كقوله: "أحسستَ برقبتك تغوص في قفصك الصّدري. وآلمتك أسئلة القاضي الشّابّ. نزلت عليك كاليعاسيب لسعت أذنيك الكبيرتين."
السارد هنا يشبه محققاً في محكمة، يُحضِّر أسئلة الادعاء العام ضد المتهم؟ ولو أن القاص اتبع أسلوب سرد ما حدث مباشرة للقارىء، لكان وقعُ القصة أقل إدهاشا، ولكنه قرر كشف فضيحة الفاعل، فحقق بهذا الأسلوب فضح الرجل الديوث والتهكم عليه، فدعّم بذلك نجاح القصة.
في القصة الخامسة بعنوان "يا دجنبر الحاقد" نقرأ عن مسجد اشتروه في بلاد الغربة، يدخله مغترب من جماعتهم، فيصلي مع الجماعة، ويطلب من الإمام أن ينام في المسجد اتقاء للصقيع الذي يكاد أن يجمد جسده. فيرفض الشيخ مبيت الشاب المُهجر من وطنه. ولكن أحد القائمين على المسجد يتوسط للشاب، إذ يطلب من الإمام أن يسمح له بالمبيت، فيصر الشيخ على رفض إيواء المشرد. فيضطر هذا الرجل أن يُذَكِّر الشيخ بأصل قدومه مثلما قدم هذا الشاب فآووه يومها، وعلموه الدين، وعينوه إماماً. وعندما رسخت جذوره، نسي أصله وفصله، فصار يتحكم بالمسلمين المشردين. ولهذا يتم طرد الشيخ من إمامة المسجد.
وهذه القصة المؤثرة توضح كيف يأتي الأشخاص البسطاء فيستولون على منصة الإمامة، ثم يتغيرون، ليتسلطوا على رقاب العباد من المواطنين. وهنا لا يسرد مباركي قصته ويتوقف عند حد السرد، بل نجده يقدم الحل، بأن اللجنة المشرفة على المسجد تطرد الإمام الذي يسيء إدارة مسؤولياته بالحق.
وهنا نتعرف على قاص يحلم بإرساء قواعد الحق في مجتمعه، ويحمل مسؤولية الكلمة التي يكتبها، فيكون كاتباً ملتزماً، يطرد الأئمة الفاسدين الذين يتولون مسؤولية الآخرين.
وإذا ذكرنا الفساد الذي يستشري يوماً بعد يوم باستشراء تباعد الفوارق الطبقية بين المليارديرات والفقراء، الذين لا تتاح لهم مجرد فرصة عمل، نفهم أن لا فائدة ترجى من المؤسسات التي تتضخم يوما بعد يوم تحت عنوان "مؤسسة مكافحة الفساد" إذ يزداد انتشار الفساد مع تضخم المؤسسات التي تُبنى لمكافحته. المرض هنا هو رأس المال المتوحش، الذي ينتشر كالسرطان أو كمرض الإيدز في المجتمع، إذ لا يمكن الشفاء منه بأخذ المسكنات.
في قصته السادسة بعنوان""بين بغلين" يخرج السارد ببغلين، يركب أحدهما ويحمل أغراضه على الآخر، ليُحضِّر بحثا ميدانيّا حول بعض الصّخور النّادرة في منطقة جبليّة بجهته بحكم اختصاصه في الجغرافيا الطّبيعية.
يخرج السارد بنا في عالم جديد علينا، ويلتجىء ليلاً في مغارة مع بغليه. وبالسرد ينجح مباركي في جعلنا نخشى تقلبات النهار في الأماكن قيد التجوال والبحث، ويرعبنا في عتمة الليل، فيوصلنا إلى مرحلة الخوف مما نحن فيه. ويستمر يشحننا بالرعب، حتى يوعز له البغلان فجأة أن هناك تدفق ماء مهول سينفجر من قلب المغارة، وإذا بقينا هنا فسيقتلنا. وما هي سوى لحظات كان قد خرج منها الباحث حتى تدفقت مياه تعجز عن مقاومتها أعتى الصخور. ولكنني لم أفهم لماذا اختار الباحث الحيوانين ليكونا بغلين وهما عندنا معروفين بالغباء. ولماذا كان البغلان هما الناطقان بالتحذير، ولم يحذر الباحث، وهو الأولى بالتوقُّع.
وفي النتيجة، هل يريد القاص أن يوصلنا إلى أن الوطن العربي مقدم على كوارث قاتلة؟ ولكن تفجر الماء هو خير.. فهل يقصد مباركي أن الخير قادم في النهاية لوطننا المرعوب بعيشته الضنكى؟
ورغم هذه التساؤلات، نجد أن كتابة مباركي ترسم لوحات تعبيرية بالكلمات، فيبرز لنا جمالية لغتنا العربية، وقدرتها على التعبير، ورسم الصور المتحركة. إذ يقول في هذه القصة: "انفجر الماء غاضبا من عمق المغارة وارتمى لسانه بعيدا دحرج الجلاميد.." فهنا استطاع تصوير حركة الماء وهو ينفجر بتعابير وجه غاضبٍ، وكأنه كائن حي ينفجر غاضباً، وأعطى تدفق الماء روحاً وحياة وشخصية غاضبة ذات لسان يلعلع بقوة الماء، لدرجة يدحرج الجلاميد.
إنه رسام بارع، يدب الروح في الأشياء. وحسب اعتقادي، فإن المواد السائلة والصلبة، هي كائنات حية، لأنها مكونة من ذرات، وكل ذرة فيها بروتونات وإلكترونان ونيوترون. تدور وتدور داخل كل ذرة.. مثل دوران الموتورات الدوارة. وهذا ما يؤكده مباركي بقوله ينفجر الماء غاضباً. وقوله: "وارتمى لسانه بعيداً دحرج الجلاميد." تحية لهذا الكاتب المبدع الملتزم بقضايا وطنه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.