أحمد الشرع يتحدث عن سيناريو تقسيم سوريا ويحذر الدروز من الاستقواء بإسرائيل    أبطال واقعة "الليلة بكام"، قرار جديد ضد المتهمين بمطاردة طبيبة وأسرتها بالشرقية    موعد ومكان تشييع جنازة مدير التصوير تيمور تيمور ويسرا تعتذر عن عدم الحضور    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    بعد قمة ألاسكا.. الاتحاد الأوروبي يطرح مبادرة لعقد لقاء ثلاثي    الزمالك يكشف تفاصيل إصابة دونجا... وفحوصات جديدة لتحديد موقفه من التدريبات    عمرو الحديدي: مكي قدم مباراة كبيرة أمام الزمالك وناصر ماهر لا يصلح لمركز الجناح    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في عطلة الصاغة الأسبوعية الأحد 17 أغسطس 2025    9 إصابات ومصرع سيدة في محور المحمودية بالإسكندرية    في تبادل إطلاق النيران.. مصرع تاجر مخدرات بقنا    منافسة بنكية ساخنة على رسوم تقسيط المشتريات تزامنًا مع فصل الصيف    رابط نتيجة تقليل الاغتراب.. موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 والكليات والمعاهد المتاحة فور اعتمادها    خالد سليم يعانق وجدان الجمهور بصوته في الأمسية الثانية من فعاليات الدورة 33 لمهرجان القلعة (صور)    وكيل صحة سوهاج يحيل طبيبا وممرضا بمستشفى طما المركزى للتحقيق    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    إزالة تعديات على الشوارع بالخارجة.. والتنفيذ على نفقة المخالف| صور    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    «بأمان».. مبادرات وطنية لتوعية الأهالي بمخاطر استخدام الأطفال للإنترنت    "لسه بيتعرف".. أيمن يونس يعلق على أداء يانيك فيريرا في مباارة الزمالك والمقاولون    ملف يلا كورة.. تعثر الزمالك.. قرار فيفا ضد الأهلي.. وإصابة بن رمضان    سلة - باترك جاردنر – سعداء بما حققه منتخب مصر حتى الآن.. ويجب أن نركز في ربع النهائي    عمرو محمود ياسين يكشف تفاصيل رحيل تيمور تيمور: «الأب الذي ضحى بحياته من أجل ابنه»    أحمد موسى: قطيع الإخوان هربوا من أمام السفارة المصرية ب هولندا (فيديو)    لأول مرة بجامعة المنيا.. إصدار 20 شهادة معايرة للأجهزة الطبية بمستشفى الكبد والجهاز الهضمي    انخفاض الكندوز 26 جنيهًا، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    أول تعليق من فيريرا بعد تعادل الزمالك والمقاولون العرب    نشرة التوك شو| لجان حصر وحدات الإيجار القديم تبدأ عملها.. واستراتيجية جديدة للحد من المخالفات المرورية    تعرف على مكان دفن مدير التصوير الراحل تيمور تيمور    يسرا تنعى تيمور تيمور بكلمات مؤثرة: "مش قادرة أوصف وجعي"    الآلاف يشيعون «تقادم النقشبندي» شيخ المصالحات في الصعيد    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الأحد 17 أغسطس 2025    أسباب وطرق علاج الصداع الناتج عن الفك    «صحة مطروح» مستشفيات المحافظة قدمت 43191 خدمة طبية وأجرت 199 عملية جراحية خلال أسبوع    أول يوم «ملاحق الثانوية»: تداول امتحانات «العربي» و«الدين» على «جروبات الغش الإلكتروني»    في أقل من شهر.. الداخلية تضبط قضايا غسل أموال ب385 مليون جنيه من المخدرات والسلاح والتيك توك    توقعات الأبراج حظك اليوم الأحد 17 أغسطس 2025.. مفاجآت الحب والمال والعمل لكل برج    شهداء ومصابون في غارة للاحتلال وسط قطاع غزة    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    أبرز تصريحات الرئيس السيسي حول الأداء المالي والاقتصادي لعام 2024/2025    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    «أوحش من كدا إيه؟».. خالد الغندور يعلق على أداء الزمالك أمام المقاولون    تصاعد الغضب في إسرائيل.. مظاهرات وإضراب عام للمطالبة بإنهاء الحرب    كيف تتعاملين مع الصحة النفسية للطفل ومواجهة مشكلاتها ؟    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    بريطانيا تحاكم عشرات الأشخاص لدعمهم حركة «فلسطين أكشن»    مسؤول مخابرات إسرائيلى: قتل 50 ألف فلسطينى كان ضروريًا لردع الأجيال القادمة    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر فلكيًا للموظفين والبنوك (تفاصيل)    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. الاحتلال يقيم خيام إيواء لسكان مدينة غزة لنقلهم للجنوب.. مظاهرات فى تل أبيب تطالب بإبرام صفقة تبادل مع حماس.. وميلانيا ترامب ترسل رسالة شخصية إلى بوتين    حزن ودعوات| المئات يشيعون جثمان «شهيد العلم» في قنا    القائد العام للقوات المسلحة: المقاتل المصري أثبت جدارته لصون مقدرات الوطن وحماية حدوده    وزير الأوقاف: مسابقة "دولة التلاوة" لاكتشاف أصوات ذهبية تبهر العالم بتلاوة القرآن الكريم    الشيخ خالد الجندي: الإسلام دين شامل ينظم شؤون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى    الإصلاح والنهضة يواصل تلقي طلبات الترشح لعضوية مجلس النواب عبر استمارة إلكترونية    وزير الري يتابع موقف التعامل مع الأمطار التي تساقطت على جنوب سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فقه السياق وضرورته لفهم التراث ونقله
نشر في صوت البلد يوم 17 - 11 - 2016

القراءة التراثية ملهمة لفهم النص، وحاضرة دائماً عند استدعاء أحداث التاريخ، فجهود علماء المسلمين حتى القرن السابع الهجري في كافة الفنون وبحثهم العميق وتقصيهم الدقيق، أثمرت كنوزاً من الآراء ملأت دواوين كثيرة ومصنفات ضخمة، جعلت من جاء بعد جيل الكبار من المصنفين والمحققين لا يسعهم إلا تقليد هؤلاء الجهابذة من الفقهاء والعارفين، وأصبح المتأخر لا يجرؤ على الخروج عنهم أو مخالفتهم، ظناً منه أن هذه الإبداعات لن تتكرر.
هذه الرؤية المثالية لجيل التأسيس المعرفي عند المسلمين، استمرت قروناً من الزمن، وأثقلت كتبهم بالمزيد من الشروح والحواشي عليها، ومع كل تلك القيمة المضافة من العلم الشرعي التي نشهد بها لهم، إلا أن هناك خلطاً وخللاً حدثا في الأجيال التي جاءت بعدهم، وبعضه أغلاط تنعكس على فهمنا للدين والعمل به، وملخص هذه المآخذ، أن القيمة الاجتهادية لهؤلاء العلماء جعلت من جاء بعدهم يستلهمون آراءهم في كافة المجالات ويسحبون إبداعهم في كل الأمور حتى الحياتية منها رغم اختلاف الزمان والمكان والحال، ويتكاثر النقل عنهم ليتنزل على واقع آخر مختلف، ويُحث على الاقتداء بهم في مواقف خاصة فعلوها في حياتهم، بينما يفصل بين المقتدي والمقتدى به مئات السنين، ولأجل توضيح هذه المآخذ في ذهن القارئ أضرب على ذلك بعدد من الأمثلة، منها، موقف العلماء من السلطة، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد المشهود لهم بالقبول حتى عصرنا الحاضر، فهم لم يقبلوا عملاً تحت سلطة خلفاء عصرهم في القضاء أو الإفتاء، وانعزلوا عن بلاط السلاطين، بالرغم من أنهم لم يدعوا أحداً للخروج على الظالم منهم، بل كانوا يرون الصبر والنصح، وهذه المواقف المعتبرة في زمانهم قد تكون مضرة اليوم وسياقها السابق يختلف عن حاضرنا، وابتعاد العلماء عن الأمراء سيُسد بغيرهم، والناصحون لن يتمكنوا من البلاغ إلا من خلال الاقتراب، وإلا شوّش على مرادهم المتربصون، وصدتهم البطانة في حال اكتفوا بالمراسلة أو المكاتبة، والابتعاد قد تكون مضاره على المجتمع أعظم من مصلحة العلماء بالارتياح بعيداً عن ضغوط الاقتراب النفسية ومتطلباته الكثيرة.
ومن الأمثلة على هذا الخلل في فقه السياق، ما يتناقله الخطباء والوعاظ من التبجيل العظيم لمواقف سعيد بن جبير مع الحجاج والعز بن عبدالسلام مع المماليك بما فيها من عزة الاحتساب رغم الخطر والأذية، فعرض هذه المواقف والتباكي عليها ينبغي أن يكونا في سياقهما المطلوب، بما يضمن للفرد السلامة وللمنكر الزوال، وإلا قد يفهمه المتحمسون أمراً ملزماً بالإنكار دون معرفة العواقب والمآلات المترتبة عليه، وحديث: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (رواه الحاكم وصححه الالباني في السلسلة 1/648) هذا يدل على مقام عالٍ لا يستطيعه كل الناس، وبالتالي الأمر التكليفي مناطه القدرة، والشريعة جاءت برفع الحرج، والحذر من الفتنة قاعدة يجب مراعاتها في كل زمان ومكان، ومن الأدبيات التي حوتها كتب الفقه واختلف سياقها عن عصرنا، تصنيف البلاد إلى دار حرب ودار إسلام، وتطبيقات أحكام جهاد الطلب وفق اختلافات عصرنا، وتمكّن المسلم من البلاغ ونشر الدين بكافة الوسائل السلمية، دون الحاجة لإكراه القتال «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ»(البقرة 216) كذلك التعامل مع أهل الذمة والعهد من أهل الكتاب، ويدخل في قاعدة مراعاة السياق الموقف من هجر المبتدع، والنهي عن السفر إلى بلاد الكفار، أو مشاركتهم والتحالف معهم لمصالح راجحة، وما يتعلق بسفر المرأة وعملها وتوليها المناصب الفرعية في الدولة، وكذلك أغلب أحكام السياسة الشرعية التراثية داخلة بشكل مباشر في تطبيقات هذه القاعدة الموجبة لمراعاة السياق الظرفي عند النقل والاستدلال.
كما أن هناك مواقف لبعض الأئمة الكبار وقعت أمام نازلة كانت في عصرهم فتُستحضر في كل عصر ويؤخذ بها حتى يومنا هذا، مثل: موقف الإمام الغزالي من الفلسفة، فقد كان في سياق الرد على المتأثرين بها في الإلهيات، فموقفه في «تهافت الفلاسفة» تحكمه واجباته الدينية فيما رآه من واقع المتفلسفة المسلمين وانسياقهم الأعمى بهذا المعطى الجديد، وهذا ما يجعلنا نتريث في إسقاط هذا الموقف على كل مدّع للفلسفة وفق تغيراتها الهائلة اليوم، ومثله موقف ابن تيمية من المبتدعة الذين حاولوا التأثير في المعتقد بالطرق الكلامية وإثباتها بمنطق قد يحمل معه التناقض في المعتقد ذاته، فرد عليهم منهجياً ومنطقياً، وسياق الموقف التيمي له ظروفه الخاصة، لا ينبغي سحبه على كليات المنطق والعمل به في الأقيسة والجدل والحجاج والتفكير العلمي وغيرها.
هذه الأمثلة والمواقف السابقة وغيرها هي من باب الدلالة على أهمية مراعاة السياق الزماني والمكاني واختلاف الأحوال والأعراف عند النقل والمحاكاة، وهي قريبة من اشتراط العلماء تغيير الفتوى إذا تغير مناط الحكم، والأمثلة لا ينبغي أن تقف أحياناً كجدار مانع من قبول القاعدة، فليس من شرط المثال الصحة، والمهم هنا تقرير صحة القاعدة وتأكيد وجوب مراعاتها وإلا اتهمت الشريعة بالتناقض أو جلب المفاسد على الخلق، وحاشاها من ذلك.
وفي أهمية هذه القاعدة، قال ابن دقيق العيد: «السياق مُبيّن للمجملات، مُرجّح لبعض المحتملات، ومؤكّد للواضحات، فليتنبه لهذا ولا يغلط فيه، ويجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن، لأن بذلك يتبين مقصود الكلام.» (انظر: البحر المحيط 4/32)
وفي الأهمية ذاتها يقول الزركشي: «دلالة السياق أنكرها بعضهم، ومن جهل شيئاً أنكره» (انظر: المرجع السابق 7/317).
بالإضافة إلى ما سبق تقريره حول أهمية السياق وشواهد ذلك، تبقى هناك حاجة ماسة في التأكيد بأن إعمال السياق يحقق ثلاثة مقاصد مهمة:
أولها: أن فقه السياق مندرج في مقاصد الشريعة من خلال ضرورة أن يكون مقصد المكلف تابعاً لمقصد التشريع، فإذا كان الشارع طلب من العباد فعل المصالح ودرء المفاسد، فيجب أن ينساق فعل المكلف وفق هذا المقصد المصلحي ولا يخرج عنه حتى لو أنه مسبوق في فعله، فما كان مصلحة في زمان أو حال قد لا يكون كذلك عند تغير تلك الظروف، يقول الشاطبي: «قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع» (انظر الموافقات 2/331، طبعة دراز)، فتطبيق شروط الفقهاء في بعض المعاملات المالية مع بساطتها في عصرهم، قد يكون في عصرنا سبباً في العسر والمشقة، والأصل في المعاملات الحل والتيسير، وكذا يجرى هذا الأمر في مسائل الحج، فمن عرف قصد التشريع من التيسير على أداء الحاج راعه ما يسمع من فتوى ملزمة لشروط فقهية كانت في زمنهم مصلحة للمكلف، واليوم قد تكون من أهم موارد العسر والحرج على الحاج كالإلزام بالمبيت بمنى لمن لا يجد مسكناً، أو الإلزام بالرمي بعد الزوال للمتعجل، وغيرها من مسائل.
ثانياً: نصوص الوحي (الكتاب والسنة) فيما دلالته يقينية وثبوته قطعي، صالحة لكل زمان ومكان، فلا يختلف العمل بهما مهما تغيرت الأحوال والظروف، ولكن المقام هنا متعلق بما فسرّه الفقهاء منها أو اجتهدوا في إسقاطه على حال أو حدث معين، فنصوص العقيدة على سبيل المثل، ثابتة بوضوح ودلالاتها على موجبات الإيمان بما لا مرية فيه، ولكن مع الزمن والمناكفات الكلامية حول مسائل في البدعة والسنة، اقتحمت مدونات العقيدة الكثير من الآراء الاجتهادية وزادت من مستلزمات المعتقد تشعباً وكثرة، كمسائل في التوسل والتبرك وبعض مستلزمات صفات الله تعالى العملية، وروايات آخر الزمان، وما حصل بين الصحابة من خلاف، والموقف من الطائفة الفلانية وغيرها. فهذه المسائل لم يعشها عصرنا ولم تعد تُذكر فيه، فهل من الشرع امتحان الناس بها وجعلها من مستلزمات صحة الإيمان والمعتقد؟!
ثالثاً: سياق الحال الذي عاشه كثيرون من الأئمة المتبوعين، يحدد طبيعة آرائهم حدةً وليناً، وترخصاً واحتياطاً، قبولاً للمخالف أو شدة عليه، ونقل هذه الآراء أو استلهام مواقفهم بعيداً عن تلك السياقات والأحوال الشخصية التي يمرون بها، يوقع المسلم في مخالفات منهجية شنيعة، ولا تكفي نسبة القول أو الموقف لعالم مشهور سبباً في تمرير هذا الخطأ على الآخرين، فالحكم بالردة أو الزندقة، وأحياناً إعلان المواجهة على مذهب وطائفة ينبغي أن يفهم وفق سياقاته الظرفية، ومن تأمل في هذه القاعدة فسيدرك بسهولة كيف يحمي دينه من شذوذات الآراء، واستغلال الجهلاء، وتوظيف الأدعياء للتراث.
وفي الختام، يمكن أن أبرز الجانب العملي من وراء هذا السرد لأهمية السياق في فهم التراث، من خلال تكثيف التأصيل لهذه القاعدة، وتنزيلها على واقع استدلالاتنا المعاصرة، واستحضار الواقع المعاش والطبيعة الإنسانية والبيئة المحيطة في فهم ما يتبناه الفرد ولو كان عالماً مشهوراً، والتعاطي مع هذا الإنسان وفق بشريته أولى من التسليم بملائكيته.
القراءة التراثية ملهمة لفهم النص، وحاضرة دائماً عند استدعاء أحداث التاريخ، فجهود علماء المسلمين حتى القرن السابع الهجري في كافة الفنون وبحثهم العميق وتقصيهم الدقيق، أثمرت كنوزاً من الآراء ملأت دواوين كثيرة ومصنفات ضخمة، جعلت من جاء بعد جيل الكبار من المصنفين والمحققين لا يسعهم إلا تقليد هؤلاء الجهابذة من الفقهاء والعارفين، وأصبح المتأخر لا يجرؤ على الخروج عنهم أو مخالفتهم، ظناً منه أن هذه الإبداعات لن تتكرر.
هذه الرؤية المثالية لجيل التأسيس المعرفي عند المسلمين، استمرت قروناً من الزمن، وأثقلت كتبهم بالمزيد من الشروح والحواشي عليها، ومع كل تلك القيمة المضافة من العلم الشرعي التي نشهد بها لهم، إلا أن هناك خلطاً وخللاً حدثا في الأجيال التي جاءت بعدهم، وبعضه أغلاط تنعكس على فهمنا للدين والعمل به، وملخص هذه المآخذ، أن القيمة الاجتهادية لهؤلاء العلماء جعلت من جاء بعدهم يستلهمون آراءهم في كافة المجالات ويسحبون إبداعهم في كل الأمور حتى الحياتية منها رغم اختلاف الزمان والمكان والحال، ويتكاثر النقل عنهم ليتنزل على واقع آخر مختلف، ويُحث على الاقتداء بهم في مواقف خاصة فعلوها في حياتهم، بينما يفصل بين المقتدي والمقتدى به مئات السنين، ولأجل توضيح هذه المآخذ في ذهن القارئ أضرب على ذلك بعدد من الأمثلة، منها، موقف العلماء من السلطة، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد المشهود لهم بالقبول حتى عصرنا الحاضر، فهم لم يقبلوا عملاً تحت سلطة خلفاء عصرهم في القضاء أو الإفتاء، وانعزلوا عن بلاط السلاطين، بالرغم من أنهم لم يدعوا أحداً للخروج على الظالم منهم، بل كانوا يرون الصبر والنصح، وهذه المواقف المعتبرة في زمانهم قد تكون مضرة اليوم وسياقها السابق يختلف عن حاضرنا، وابتعاد العلماء عن الأمراء سيُسد بغيرهم، والناصحون لن يتمكنوا من البلاغ إلا من خلال الاقتراب، وإلا شوّش على مرادهم المتربصون، وصدتهم البطانة في حال اكتفوا بالمراسلة أو المكاتبة، والابتعاد قد تكون مضاره على المجتمع أعظم من مصلحة العلماء بالارتياح بعيداً عن ضغوط الاقتراب النفسية ومتطلباته الكثيرة.
ومن الأمثلة على هذا الخلل في فقه السياق، ما يتناقله الخطباء والوعاظ من التبجيل العظيم لمواقف سعيد بن جبير مع الحجاج والعز بن عبدالسلام مع المماليك بما فيها من عزة الاحتساب رغم الخطر والأذية، فعرض هذه المواقف والتباكي عليها ينبغي أن يكونا في سياقهما المطلوب، بما يضمن للفرد السلامة وللمنكر الزوال، وإلا قد يفهمه المتحمسون أمراً ملزماً بالإنكار دون معرفة العواقب والمآلات المترتبة عليه، وحديث: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (رواه الحاكم وصححه الالباني في السلسلة 1/648) هذا يدل على مقام عالٍ لا يستطيعه كل الناس، وبالتالي الأمر التكليفي مناطه القدرة، والشريعة جاءت برفع الحرج، والحذر من الفتنة قاعدة يجب مراعاتها في كل زمان ومكان، ومن الأدبيات التي حوتها كتب الفقه واختلف سياقها عن عصرنا، تصنيف البلاد إلى دار حرب ودار إسلام، وتطبيقات أحكام جهاد الطلب وفق اختلافات عصرنا، وتمكّن المسلم من البلاغ ونشر الدين بكافة الوسائل السلمية، دون الحاجة لإكراه القتال «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ»(البقرة 216) كذلك التعامل مع أهل الذمة والعهد من أهل الكتاب، ويدخل في قاعدة مراعاة السياق الموقف من هجر المبتدع، والنهي عن السفر إلى بلاد الكفار، أو مشاركتهم والتحالف معهم لمصالح راجحة، وما يتعلق بسفر المرأة وعملها وتوليها المناصب الفرعية في الدولة، وكذلك أغلب أحكام السياسة الشرعية التراثية داخلة بشكل مباشر في تطبيقات هذه القاعدة الموجبة لمراعاة السياق الظرفي عند النقل والاستدلال.
كما أن هناك مواقف لبعض الأئمة الكبار وقعت أمام نازلة كانت في عصرهم فتُستحضر في كل عصر ويؤخذ بها حتى يومنا هذا، مثل: موقف الإمام الغزالي من الفلسفة، فقد كان في سياق الرد على المتأثرين بها في الإلهيات، فموقفه في «تهافت الفلاسفة» تحكمه واجباته الدينية فيما رآه من واقع المتفلسفة المسلمين وانسياقهم الأعمى بهذا المعطى الجديد، وهذا ما يجعلنا نتريث في إسقاط هذا الموقف على كل مدّع للفلسفة وفق تغيراتها الهائلة اليوم، ومثله موقف ابن تيمية من المبتدعة الذين حاولوا التأثير في المعتقد بالطرق الكلامية وإثباتها بمنطق قد يحمل معه التناقض في المعتقد ذاته، فرد عليهم منهجياً ومنطقياً، وسياق الموقف التيمي له ظروفه الخاصة، لا ينبغي سحبه على كليات المنطق والعمل به في الأقيسة والجدل والحجاج والتفكير العلمي وغيرها.
هذه الأمثلة والمواقف السابقة وغيرها هي من باب الدلالة على أهمية مراعاة السياق الزماني والمكاني واختلاف الأحوال والأعراف عند النقل والمحاكاة، وهي قريبة من اشتراط العلماء تغيير الفتوى إذا تغير مناط الحكم، والأمثلة لا ينبغي أن تقف أحياناً كجدار مانع من قبول القاعدة، فليس من شرط المثال الصحة، والمهم هنا تقرير صحة القاعدة وتأكيد وجوب مراعاتها وإلا اتهمت الشريعة بالتناقض أو جلب المفاسد على الخلق، وحاشاها من ذلك.
وفي أهمية هذه القاعدة، قال ابن دقيق العيد: «السياق مُبيّن للمجملات، مُرجّح لبعض المحتملات، ومؤكّد للواضحات، فليتنبه لهذا ولا يغلط فيه، ويجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن، لأن بذلك يتبين مقصود الكلام.» (انظر: البحر المحيط 4/32)
وفي الأهمية ذاتها يقول الزركشي: «دلالة السياق أنكرها بعضهم، ومن جهل شيئاً أنكره» (انظر: المرجع السابق 7/317).
بالإضافة إلى ما سبق تقريره حول أهمية السياق وشواهد ذلك، تبقى هناك حاجة ماسة في التأكيد بأن إعمال السياق يحقق ثلاثة مقاصد مهمة:
أولها: أن فقه السياق مندرج في مقاصد الشريعة من خلال ضرورة أن يكون مقصد المكلف تابعاً لمقصد التشريع، فإذا كان الشارع طلب من العباد فعل المصالح ودرء المفاسد، فيجب أن ينساق فعل المكلف وفق هذا المقصد المصلحي ولا يخرج عنه حتى لو أنه مسبوق في فعله، فما كان مصلحة في زمان أو حال قد لا يكون كذلك عند تغير تلك الظروف، يقول الشاطبي: «قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع» (انظر الموافقات 2/331، طبعة دراز)، فتطبيق شروط الفقهاء في بعض المعاملات المالية مع بساطتها في عصرهم، قد يكون في عصرنا سبباً في العسر والمشقة، والأصل في المعاملات الحل والتيسير، وكذا يجرى هذا الأمر في مسائل الحج، فمن عرف قصد التشريع من التيسير على أداء الحاج راعه ما يسمع من فتوى ملزمة لشروط فقهية كانت في زمنهم مصلحة للمكلف، واليوم قد تكون من أهم موارد العسر والحرج على الحاج كالإلزام بالمبيت بمنى لمن لا يجد مسكناً، أو الإلزام بالرمي بعد الزوال للمتعجل، وغيرها من مسائل.
ثانياً: نصوص الوحي (الكتاب والسنة) فيما دلالته يقينية وثبوته قطعي، صالحة لكل زمان ومكان، فلا يختلف العمل بهما مهما تغيرت الأحوال والظروف، ولكن المقام هنا متعلق بما فسرّه الفقهاء منها أو اجتهدوا في إسقاطه على حال أو حدث معين، فنصوص العقيدة على سبيل المثل، ثابتة بوضوح ودلالاتها على موجبات الإيمان بما لا مرية فيه، ولكن مع الزمن والمناكفات الكلامية حول مسائل في البدعة والسنة، اقتحمت مدونات العقيدة الكثير من الآراء الاجتهادية وزادت من مستلزمات المعتقد تشعباً وكثرة، كمسائل في التوسل والتبرك وبعض مستلزمات صفات الله تعالى العملية، وروايات آخر الزمان، وما حصل بين الصحابة من خلاف، والموقف من الطائفة الفلانية وغيرها. فهذه المسائل لم يعشها عصرنا ولم تعد تُذكر فيه، فهل من الشرع امتحان الناس بها وجعلها من مستلزمات صحة الإيمان والمعتقد؟!
ثالثاً: سياق الحال الذي عاشه كثيرون من الأئمة المتبوعين، يحدد طبيعة آرائهم حدةً وليناً، وترخصاً واحتياطاً، قبولاً للمخالف أو شدة عليه، ونقل هذه الآراء أو استلهام مواقفهم بعيداً عن تلك السياقات والأحوال الشخصية التي يمرون بها، يوقع المسلم في مخالفات منهجية شنيعة، ولا تكفي نسبة القول أو الموقف لعالم مشهور سبباً في تمرير هذا الخطأ على الآخرين، فالحكم بالردة أو الزندقة، وأحياناً إعلان المواجهة على مذهب وطائفة ينبغي أن يفهم وفق سياقاته الظرفية، ومن تأمل في هذه القاعدة فسيدرك بسهولة كيف يحمي دينه من شذوذات الآراء، واستغلال الجهلاء، وتوظيف الأدعياء للتراث.
وفي الختام، يمكن أن أبرز الجانب العملي من وراء هذا السرد لأهمية السياق في فهم التراث، من خلال تكثيف التأصيل لهذه القاعدة، وتنزيلها على واقع استدلالاتنا المعاصرة، واستحضار الواقع المعاش والطبيعة الإنسانية والبيئة المحيطة في فهم ما يتبناه الفرد ولو كان عالماً مشهوراً، والتعاطي مع هذا الإنسان وفق بشريته أولى من التسليم بملائكيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.