الإسماعيلية تطلق برنامجا تدريبيا مستوحى من التجربة السنغافورية في التعليم (صور)    نشاط مكثف لتحالف الأحزاب في انتخابات الشيوخ 2025    في مستهل زيارته لنيويورك.. وزير الخارجية يلتقي بالجالية المصرية    مدبولي يستعرض نماذج استجابات منظومة الشكاوى الحكومية في قطاعات مختلفة    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    بعد عودته لساعات، انقطاع التيار الكهربائي عن بعض مدن الجيزة    سعر اليورو اليوم الإثنين 28 يوليو 2025 أمام الجنيه بالبنوك المصرية    28 يوليو 2025.. أسعار الخضروات والفاكهة بسوق العبور للجملة اليوم    شركة عجيبة للبترول: وضع بئر Arcadia-28 على الإنتاج بمعدل 4100 برميل مكافئ يوميا    استشهاد 41 فلسطينيا بنيران جيش الاحتلال منذ فجر اليوم    رئيس الوزراء البريطاني سيحث ترامب على الضغط على إسرائيل لوقف الحرب فى غزة    رئيس وزراء ماليزيا يأمل فى نجاح مباحثات وقف إطلاق النار بين تايلاند وكمبوديا في بلاده    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    الشرطة الألمانية: انهيار أرضي يُحتمل أن يكون السبب في حادث القطار المميت    رئيس وزراء السودان يصدر قرارا بتعيين 5 وزراء جدد    أرينا سابالينكا تواصل صدارة تصنيف لاعبات التنس    شوبير يدافع عن طلب بيراميدز بتعديل موعد مباراته أمام وادي دجلة في الدوري    المصري يستنكر بشدة ما حدث من تجاوزات في مباراة الترجي الودية    الشحات: لن أرحل عن الأهلي إلا بقرار من النادي    الصفاقسي: معلول سيتولى منصبا إداريا في النادي بعد الاعتزال وهذا موقف المثلوثي    رومانو: دياز يصل اليوم إلى ميونيخ للانضمام إلى بايرن    الحبس سنة لبلوجر متهم بنشر محتوى خادش للحياء    طقس اليوم بمطروح والساحل الشمالى.. حار رطب ونشاط الرياح وارتفاع الأمواج    جامعة جنوب الوادي تستعد لاستقبال طلاب المرحلة الأولى بمعامل التنسيق الإلكتروني    الداخلية تحكم قبضتها على المنافذ..ضبط مئات القضايا خلال 24 ساعة    تفاصيل بوستر مهرجان الغردقة لسينما الشباب    دفن زياد الرحبانى في مدفن حديقة منزل فيروز    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    أمين الفتوى: الصلاة بالبنطلون أو "الفانلة الداخلية" صحيحة بشرط ستر العورة    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    الصحة تحقق في وفاة شابة داخل مستشفى خاص    الصحة العالمية : مصر أول بلد بالعالم يحقق المستوى الذهبي للتخلص من فيروس C    الإطار التنسيقي الشيعي يدين هجوم الحشد الشعبي على مبنى حكومي ببغداد    رسمياً.. بدء تقديم تظلمات الثانوية الأزهرية 2025 «موعد انتهاء التقديم والرسوم»    الاتحاد الأوروبي يقر تيسيرات جديدة على صادرات البطاطس المصرية    بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ .. لماذا لم يقيل السيسي محافظ الجيزة ورؤساء الأحياء كما فعل مع قيادات الداخلية ؟    محافظ القليوبية يجري جولة مفاجئة بمدينة الخانكة ويوجّه بتطوير شارع الجمهورية    السيسي يحتفل بدخول شاحنات "هزيلة " بعد شهور من التجويع… وإعلامه يرقص على أنقاض مجاعة غزة    هدي المفتي تكشف علاقتها ب ويجز لأول مرة: "مش مقربين"    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    طرائف الانتقالات الصيفية.. الزمالك وبيراميدز كشفا عن صفقتين بالخطأ (صور)    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    بالصور.. اصطدام قطار بجرار أثناء عبوره شريط السكة الحديد بالبحيرة    طعنة غدر.. حبس عاطلين بتهمة الاعتداء على صديقهما بالقليوبية    بعد تهشم إصبعه.. جراحة معقدة تنقذ يد مصاب بمستشفى ههيا في الشرقية    وائل جسار ل فضل شاكر: سلم نفسك للقضاء وهتاخد براءة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 28 يوليو    «مكنتش بتاعتها».. بسمة بوسيل تفجر مفاجأة بشأن أغنية «مشاعر» ل شيرين عبدالوهاب.. ما القصة؟    تنسيق الثانوية العامة 2025 بالقاهرة.. درجة القبول والشروط لطلاب الانتظام والخدمات    منها «الاتجار في المخدرات».. ما هي اتهامات «أيمن صبري» بعد وفاته داخل محبسه ب بلقاس في الدقهلية؟    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    إدريس يشيد بالبداية المبهرة.. ثلاث ميداليات للبعثة المصرية فى أول أيام دورة الألعاب الإفريقية للمدارس    أم وابنها يهزمان الزمن ويصنعان معجزة فى الثانوية العامة.. الأم تحصل على 89% والابن 86%.. محمد: ليست فقط أمى بل زميلتي بالدراسة.. والأم: التعليم لا يعرف عمرا وحلمنا ندرس صيدلة.. ونائب محافظ سوهاج يكرمهما.. فيديو    الباذنجان مهم لمرضى السكر والكوليسترول ويحمي من الزهايمر    بعد توقف 11 عاما.. رئيس حقوق الإنسان بالنواب يُشارك في تشغيل مستشفي دار السلام    بتوجيهات شيخ الأزهر.. قافلة إغاثية عاجلة من «بيت الزكاة والصدقات» في طريقها إلى غزة    هل الحر الشديد غضبًا إلهيًا؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نهاية العالم وحسب.. للكندي إكزافييه دولان
نشر في صوت البلد يوم 02 - 10 - 2016

قد يخطر لأحدنا عند مشاهدة فيلم ك «أوتيلّو» للأمريكي أورسون ويلز، المأخوذ عن مسرحيّة شكسبير المعروفة، بأنّ النَّص المسرحي العظيم إنّما كُتب أساسا للسينما وليس للمسرح، ليكون فيلما لا ليؤدى على الخشبة، إنّه بنسخته السينمائية بلغ مستوى جماليا في نقل الحكاية يصعب أن تصل إليه المسرحية.
لكن بمشاهدة الفيلم الأخير للكندي الشاب إكزافييه دولان، «نهاية العالم وحسب»، المأخوذ عن مسرحية بالعنوان نفسه للفرنسي جان لوك لاغارس، قد يخطر لأحدنا تعديلٌ طفيف على ما سبق ذكره، وهو أنّ التصوير السينمائي للنص المسرحي هو غالبا الأجمل، من دون أن يكون النصّ بالضرورة عظيما، أي من دون أن نصعد بمستوى الأمثلة إلى شكسبير وويلز.
للأعمال السينمائية المنقولة عن النص المسرحي، وليس عن المسرحية، أسلوب سينمائي خاص، «جانْر» خاص أهم ميزاته هي محدودية المكان والزمان، وهي شروطٌ مسرحيّة، وكذلك الاعتماد أساسا على الحوارات، كون السيناريو مأخوذ من نصّ هو أساسا مجموعة حوارات. فلا تجول الكاميرا كثيرا ولا يكون الأساس في أن تحصل الأحداث، بل في أن تُحكى. فالحدث هو الحكي هنا، هو الحوار، أو ما يمكن أن يحصل ضمن الحوار، حدثٌ يأتي في سياق الحديث، أمّا الجماليات البصريّة فتكون غالبا في مَشاهد شبه ثابتة، وهذا الفيلم غنيّ بها.
يأتي الفيلم كإنجاز جديد لدولان (27 عاما) بعد أفلامه «قتلت أمّي» و «علاقات الحب المتخيَّلة» و «لورنس في كل الأحوال» «توم في المزرعة» و «مومي»، وجميعها بديعة، وقد نالت جوائز عدّة. أما فيلمه المعروض في الصالات الفرنسية هذه الأيام فقد نال أهم ثاني جائزة في مهرجان كان الأخير، وهي «الجائزة الكبرى»، أعلى ما ناله دولان في سيرته الفيلميّة، وقد نال «مومي» جائزة «لجنة التحكيم» قبل عامين، ما قد يبدو تدرّجا إلى السعفة الذهبية في السنوات المقبلة.
الفيلم الذي مثّلت فيه مجموعة من أفضل الممثلين في فرنسا، ناتالي باي بدور الأم، فانسان كاسل بدور الأخ وماريون كوتيار بدور زوجته، ليا سيدو بدور الأخت، وغاسبار أوليول بدور لْوي العائد إلى عائلته بعد غياب 12 عاما ليخبرهم بأنّه مريض وسيموت قريبا.
الشخصية الرئيسية اسمها لْوي، كاتب، يعود إلى عائلته في بيتها الريفي، ليعلن لأفرادها موته القريب، يعود بعد انقطاع عنهم لاثني عشر عاما. من اللحظة الأولى لوصوله تتضح التعقيدات في حياتهم، العلاقات بين أفراد العائلة متوتّرة والصّراخ يعمّ البيت، بالكاد يسلّمون عليه حين يصل، علاقته جيّدة مع أخته وإن بديا غريبين عن بعضهما، فقد كانت طفلة حين غادر البيت. علاقته باردة مع أمّه وسيّئة مع أخيه ورسمية مع زوجة أخيه. هذا التوتّر بينهم وبين بعضهم من ناحية، وبينهم وبينه من ناحية ثانية صعّب عليه المهمة التي جاء من أجلها، لا قبل التحضير للغداء ولا أثناءه ولا على الطاولة ولا أثناء شرب القهوة بعدها استطاع إخبارهم باقتراب موته.
في الفيلم عالمان منفصلان، عالمه الذاتي السوداوي الكارثي المترقّب لرد فعل أهله حين يخبرهم بمرضه وموته، وعالم واقعي خارجي يسمعه ويراه في بيت أهله، يملأه التوتر والصراخ وهو ما منع لْوي من البوح بعالمه الذاتي فيفتح العالمين على بعضهما، فبقي المُشاهد طوال الفيلم على الحد الفاصل بين العالمين. لم يتصالح العالمان ولم يحك لْوي ما جاء لحكيه، يبدأ الفيلم كما ينتهي، لكل من هؤلاء، لوي من ناحية والباقي من الناحية الثانية، عالمه المنفصل عن الآخر، تماما كما كان دائما، خلال الأعوام الاثني عشر من غيابه، إلا أنّه، بحضوره، وضع العالمين على طاولة واحدة وفي غرفة واحدة، فبان أكثر تنافرُهما، ما جعله يقرّر أخيرا العودة من حيث أتى، كأنّه لم يأت.
وإن قُدّم لْوي كالشخصية الأساسية إلا أنّه كان الأقل أداء وكلاما، كان المتلّقي لأداء وكلام الآخرين. هو الذي كان المُشاهدُ ينتظره أن يتكلّم، أن يردّ أو يقول شيئا وتحديدا ما جاء إليهم ليقوله، هو، لوي، الأقل كلاما بين الجميع.
الحوارات كانت في مواضيع عاديّة، حوار أفراد عائلة بينهم مشاكلهم ومزاحهم كذلك، على طاولة الغداء، طوال الفيلم كانت كذلك، إلا أن وتيرتها تختلف، التوتّر فيها يتصاعد تدريجيا إلى أن يقترب الفيلم من نهايته، حيث يصطدم الأخوان، لسبب تافه، مشكلة لا مبرّر لها سوى عصبيّة أخيه الكبير، وهي عصبيّة كانت ظاهرة من بداية الفيلم، حيث لم يسلّم على أخيه العائد بعد انقطاع، واستمرت في ردوده وأحاديثه مع زوجته وأمه وأخته، ثم تعنيفه لأخيه، لفظيا وجسديا، وإجباره على الرحيل، والأخير كل ما يفكّر به كان كيفية مفاتحتهم بما جاء لأجله.
يكمل إكزافييه دولان في فيلمه ما تناوله سابقا في العلاقات العائليّة، في تعقيداتها وتأثير ذلك على الفرد فيها. لكن لم يحوِ الفيلم أي حدث، من الدقائق الأولى للفيلم حيث قدّم نصٌّ افتتاحي، كما في أي مسرحية تقدّم الحكاية للجمهور، أي البرولوغ، سمعناه بصوت المخرج دولان بأسلوب «الفويس أوفر»، كخلفية لمَشاهد تصوّر عودة لْوي بالطائرة إلى أهله، من هذه الدقائق إلى نهاية الفيلم لم يحصل ما يمكن تسميته بالحدث، فكان الفيلم كلّه حوارات، وكانت جذّابة. الحدث الذي يمكن أن ينتظره أي مُشاهد هو تحديدا اللحظة التي يخبر فيها لْوي أهلَه بموته القريب، ورد فعلهم، وخاصة تفاعل رد الفعل هذا مع الصراخ وتوتّر العلاقات بينهم جميعا وبين بعضهم، وبينهم وبينه. الحدث، إن كان، سيكون هذا وحسب. لكن النَّص المسرحي والسينمائي الذي كتبه دولان نفسه، ابتعد عن المتوقَّع، وصعد في الحوارات لتكون هي الحدث، لتكون أشد تأثيرا من لحظة إخبارهم، ليكون الأساس هنا لا الموضوع، أي لا تفاعل الشخصيات مع بعضها لحظة الإخبار، بل الذات، أي المشاعر الخاصة التي تموج في ذات لْوي، عالمه الذي يعيش فيه والذي يعرف أنّه سينتهي قريبا. فيختار أن يترك أهلَه بحالهم ويعود إلى حياته أو ما تبقى منها، من دون أن يشارك خبر موته أقربَ الناس إليه.
ولأنّ الحديث عن نصّ مسرحي، أو تصوير سينمائي لهذا النَّص، فبعض ما يتميز به المسرح سيحضر هنا، إضافة إلى ما ذُكر أعلاه من شروط مكانية وزمانية والحوارات، هنالك التصاعد الحتمي في التوتّر الكامن في الحوارات، وهنالك أساسا الملامح، الاعتماد على التعابير الوجهيّة كمرافق أساسي لحوار، أو للصمت. والصّمت هنا كان فعلا جزءا من الحوار، والصّور المقرّبة الكثيرة في الفيلم، على الملامح وعلى اليدين وغيرها، وتصويرها كلّها ضمن جماليات الإضاءة والظلال والألوان، أضافت توتّرا على التوتّر، وضغطا على الضغط بين الشخصيات، ضغط يحكمه الحوار كما يحكمه المكان المغلق الذي تتصارخ فيه الشخصيات. والصمت ذاته تفاعلَ مرارا مع الموسيقى، الضجة في الفيلم، تفاعل وانقطاع لواحد واستمرار لآخر، الضجة والموسيقى والحوار والصمت، تعامل معها دولان بمنطق المونتاج، كم يتعامل أي سينمائي أوتور، أي مؤلّف، مع الصّورة.
الحديث عن الفيلم لا ينتهي، هو من أفضل ما أنتجته السينما الفرنسية مؤخرا وهو الأفضل في مسيرة دولان الفيلميّة، وهو فيلم فرنسي/كندي، لكنّه الفيلم الفرنسي تماما الأوّل بالنسبة لدولان، اللهجة فرنسية في وقت كانت اللهجة في أفلامه السابقة كيبيكيهة/كنديّة، الممثلون جميعا فرنسيون، والنَّص المسرحي فرنسي، والاحتفاء به كذلك فرنسي.
إن أكمل إكزافييه دولان على المنوال ذاته ستأتي أعوام يسهل فيها القول بأنّه السينمائي الأفضل من بين الأحياء، الرّهافة في أفلامه ستساعده على ذلك، وكذلك إصراره على أن يكون مؤلّفا لها، يكتبها ويخرجها ويمثّل فيها ويجاور بين الأفكار والجماليات وينال جوائز في المهرجانات التي يتواجد فيها.
قد يخطر لأحدنا عند مشاهدة فيلم ك «أوتيلّو» للأمريكي أورسون ويلز، المأخوذ عن مسرحيّة شكسبير المعروفة، بأنّ النَّص المسرحي العظيم إنّما كُتب أساسا للسينما وليس للمسرح، ليكون فيلما لا ليؤدى على الخشبة، إنّه بنسخته السينمائية بلغ مستوى جماليا في نقل الحكاية يصعب أن تصل إليه المسرحية.
لكن بمشاهدة الفيلم الأخير للكندي الشاب إكزافييه دولان، «نهاية العالم وحسب»، المأخوذ عن مسرحية بالعنوان نفسه للفرنسي جان لوك لاغارس، قد يخطر لأحدنا تعديلٌ طفيف على ما سبق ذكره، وهو أنّ التصوير السينمائي للنص المسرحي هو غالبا الأجمل، من دون أن يكون النصّ بالضرورة عظيما، أي من دون أن نصعد بمستوى الأمثلة إلى شكسبير وويلز.
للأعمال السينمائية المنقولة عن النص المسرحي، وليس عن المسرحية، أسلوب سينمائي خاص، «جانْر» خاص أهم ميزاته هي محدودية المكان والزمان، وهي شروطٌ مسرحيّة، وكذلك الاعتماد أساسا على الحوارات، كون السيناريو مأخوذ من نصّ هو أساسا مجموعة حوارات. فلا تجول الكاميرا كثيرا ولا يكون الأساس في أن تحصل الأحداث، بل في أن تُحكى. فالحدث هو الحكي هنا، هو الحوار، أو ما يمكن أن يحصل ضمن الحوار، حدثٌ يأتي في سياق الحديث، أمّا الجماليات البصريّة فتكون غالبا في مَشاهد شبه ثابتة، وهذا الفيلم غنيّ بها.
يأتي الفيلم كإنجاز جديد لدولان (27 عاما) بعد أفلامه «قتلت أمّي» و «علاقات الحب المتخيَّلة» و «لورنس في كل الأحوال» «توم في المزرعة» و «مومي»، وجميعها بديعة، وقد نالت جوائز عدّة. أما فيلمه المعروض في الصالات الفرنسية هذه الأيام فقد نال أهم ثاني جائزة في مهرجان كان الأخير، وهي «الجائزة الكبرى»، أعلى ما ناله دولان في سيرته الفيلميّة، وقد نال «مومي» جائزة «لجنة التحكيم» قبل عامين، ما قد يبدو تدرّجا إلى السعفة الذهبية في السنوات المقبلة.
الفيلم الذي مثّلت فيه مجموعة من أفضل الممثلين في فرنسا، ناتالي باي بدور الأم، فانسان كاسل بدور الأخ وماريون كوتيار بدور زوجته، ليا سيدو بدور الأخت، وغاسبار أوليول بدور لْوي العائد إلى عائلته بعد غياب 12 عاما ليخبرهم بأنّه مريض وسيموت قريبا.
الشخصية الرئيسية اسمها لْوي، كاتب، يعود إلى عائلته في بيتها الريفي، ليعلن لأفرادها موته القريب، يعود بعد انقطاع عنهم لاثني عشر عاما. من اللحظة الأولى لوصوله تتضح التعقيدات في حياتهم، العلاقات بين أفراد العائلة متوتّرة والصّراخ يعمّ البيت، بالكاد يسلّمون عليه حين يصل، علاقته جيّدة مع أخته وإن بديا غريبين عن بعضهما، فقد كانت طفلة حين غادر البيت. علاقته باردة مع أمّه وسيّئة مع أخيه ورسمية مع زوجة أخيه. هذا التوتّر بينهم وبين بعضهم من ناحية، وبينهم وبينه من ناحية ثانية صعّب عليه المهمة التي جاء من أجلها، لا قبل التحضير للغداء ولا أثناءه ولا على الطاولة ولا أثناء شرب القهوة بعدها استطاع إخبارهم باقتراب موته.
في الفيلم عالمان منفصلان، عالمه الذاتي السوداوي الكارثي المترقّب لرد فعل أهله حين يخبرهم بمرضه وموته، وعالم واقعي خارجي يسمعه ويراه في بيت أهله، يملأه التوتر والصراخ وهو ما منع لْوي من البوح بعالمه الذاتي فيفتح العالمين على بعضهما، فبقي المُشاهد طوال الفيلم على الحد الفاصل بين العالمين. لم يتصالح العالمان ولم يحك لْوي ما جاء لحكيه، يبدأ الفيلم كما ينتهي، لكل من هؤلاء، لوي من ناحية والباقي من الناحية الثانية، عالمه المنفصل عن الآخر، تماما كما كان دائما، خلال الأعوام الاثني عشر من غيابه، إلا أنّه، بحضوره، وضع العالمين على طاولة واحدة وفي غرفة واحدة، فبان أكثر تنافرُهما، ما جعله يقرّر أخيرا العودة من حيث أتى، كأنّه لم يأت.
وإن قُدّم لْوي كالشخصية الأساسية إلا أنّه كان الأقل أداء وكلاما، كان المتلّقي لأداء وكلام الآخرين. هو الذي كان المُشاهدُ ينتظره أن يتكلّم، أن يردّ أو يقول شيئا وتحديدا ما جاء إليهم ليقوله، هو، لوي، الأقل كلاما بين الجميع.
الحوارات كانت في مواضيع عاديّة، حوار أفراد عائلة بينهم مشاكلهم ومزاحهم كذلك، على طاولة الغداء، طوال الفيلم كانت كذلك، إلا أن وتيرتها تختلف، التوتّر فيها يتصاعد تدريجيا إلى أن يقترب الفيلم من نهايته، حيث يصطدم الأخوان، لسبب تافه، مشكلة لا مبرّر لها سوى عصبيّة أخيه الكبير، وهي عصبيّة كانت ظاهرة من بداية الفيلم، حيث لم يسلّم على أخيه العائد بعد انقطاع، واستمرت في ردوده وأحاديثه مع زوجته وأمه وأخته، ثم تعنيفه لأخيه، لفظيا وجسديا، وإجباره على الرحيل، والأخير كل ما يفكّر به كان كيفية مفاتحتهم بما جاء لأجله.
يكمل إكزافييه دولان في فيلمه ما تناوله سابقا في العلاقات العائليّة، في تعقيداتها وتأثير ذلك على الفرد فيها. لكن لم يحوِ الفيلم أي حدث، من الدقائق الأولى للفيلم حيث قدّم نصٌّ افتتاحي، كما في أي مسرحية تقدّم الحكاية للجمهور، أي البرولوغ، سمعناه بصوت المخرج دولان بأسلوب «الفويس أوفر»، كخلفية لمَشاهد تصوّر عودة لْوي بالطائرة إلى أهله، من هذه الدقائق إلى نهاية الفيلم لم يحصل ما يمكن تسميته بالحدث، فكان الفيلم كلّه حوارات، وكانت جذّابة. الحدث الذي يمكن أن ينتظره أي مُشاهد هو تحديدا اللحظة التي يخبر فيها لْوي أهلَه بموته القريب، ورد فعلهم، وخاصة تفاعل رد الفعل هذا مع الصراخ وتوتّر العلاقات بينهم جميعا وبين بعضهم، وبينهم وبينه. الحدث، إن كان، سيكون هذا وحسب. لكن النَّص المسرحي والسينمائي الذي كتبه دولان نفسه، ابتعد عن المتوقَّع، وصعد في الحوارات لتكون هي الحدث، لتكون أشد تأثيرا من لحظة إخبارهم، ليكون الأساس هنا لا الموضوع، أي لا تفاعل الشخصيات مع بعضها لحظة الإخبار، بل الذات، أي المشاعر الخاصة التي تموج في ذات لْوي، عالمه الذي يعيش فيه والذي يعرف أنّه سينتهي قريبا. فيختار أن يترك أهلَه بحالهم ويعود إلى حياته أو ما تبقى منها، من دون أن يشارك خبر موته أقربَ الناس إليه.
ولأنّ الحديث عن نصّ مسرحي، أو تصوير سينمائي لهذا النَّص، فبعض ما يتميز به المسرح سيحضر هنا، إضافة إلى ما ذُكر أعلاه من شروط مكانية وزمانية والحوارات، هنالك التصاعد الحتمي في التوتّر الكامن في الحوارات، وهنالك أساسا الملامح، الاعتماد على التعابير الوجهيّة كمرافق أساسي لحوار، أو للصمت. والصّمت هنا كان فعلا جزءا من الحوار، والصّور المقرّبة الكثيرة في الفيلم، على الملامح وعلى اليدين وغيرها، وتصويرها كلّها ضمن جماليات الإضاءة والظلال والألوان، أضافت توتّرا على التوتّر، وضغطا على الضغط بين الشخصيات، ضغط يحكمه الحوار كما يحكمه المكان المغلق الذي تتصارخ فيه الشخصيات. والصمت ذاته تفاعلَ مرارا مع الموسيقى، الضجة في الفيلم، تفاعل وانقطاع لواحد واستمرار لآخر، الضجة والموسيقى والحوار والصمت، تعامل معها دولان بمنطق المونتاج، كم يتعامل أي سينمائي أوتور، أي مؤلّف، مع الصّورة.
الحديث عن الفيلم لا ينتهي، هو من أفضل ما أنتجته السينما الفرنسية مؤخرا وهو الأفضل في مسيرة دولان الفيلميّة، وهو فيلم فرنسي/كندي، لكنّه الفيلم الفرنسي تماما الأوّل بالنسبة لدولان، اللهجة فرنسية في وقت كانت اللهجة في أفلامه السابقة كيبيكيهة/كنديّة، الممثلون جميعا فرنسيون، والنَّص المسرحي فرنسي، والاحتفاء به كذلك فرنسي.
إن أكمل إكزافييه دولان على المنوال ذاته ستأتي أعوام يسهل فيها القول بأنّه السينمائي الأفضل من بين الأحياء، الرّهافة في أفلامه ستساعده على ذلك، وكذلك إصراره على أن يكون مؤلّفا لها، يكتبها ويخرجها ويمثّل فيها ويجاور بين الأفكار والجماليات وينال جوائز في المهرجانات التي يتواجد فيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.