شيخ الأزهر يهنئ الرئيس السيسي والأمة الإسلامية بمناسبة عيد الأضحى    المهيرى: اتفاقية للحفاظ على حقوق العاملين ب «اقتصاد المنصات»    رئيس الوزراء يهنئ شعب مصر والأمتين العربية والإسلامية بعيد الأضحى    المركز الأفريقي لخدمات صحة المرأة بالإسكندرية يوصي بالحد من استخدام البلاستيك وحماية المحميات الطبيعية    أستاذ تمويل: المنصة الإلكترونية لتراخيص الاستثمار مهمة لتعزيز بيئة الأعمال    بعد إطلاق ال5G.. مطالب برلمانية بإلزام شركات المحمول بعدم زيادة الأسعار    «الشهر العقاري» تعلن تقديم خدماتها للجمهور خلال إجازة عيد الأضحى    الحرب الكلامية تشتعل.. إيلون ماسك يرد على ترامب: لولا دعمي لخسرت الانتخابات    ترامب: استثناء مصر من قرار حظر السفر لعلاقتها الوثيقة مع أمريكا    أول زيارة للمستشار الألماني للولايات المتحدة    زلزال بجنوب إيطاليا يتسبب في انهيار جزئي بموقع بومبي الأثري    مبعوث ترامب: ممتنون لإسرائيل على استعادة رفات الرهينتين.. وعلى حماس قبول مقترح الهدنة    الهلال يُغري نابولي بعرض خيالي لضم أوسيمين    مدحت بركات: زيارة الرئيس السيسي للإمارات تعكس التزام مصر بالتعاون العربي    بعثة الأهلي تصل فندق الإقامة بمدينة ميامي الأمريكية    مباشر مباراة إسبانيا ضد فرنسا في نصف نهائي دوري الأمم الأوروبية    «كل إناء ينضح بما فيه».. تعليق ناري من زوجة الخطيب على «سب» هاني شكري جماهير الأهلي    غرفة ملابس الزمالك قبل مواجهة بيراميدز في نهائي كأس مصر (صور)    مأمور جمرك بمطار القاهرة يعثر على 9500 دولار ويعيدها لراكبة    قرار هام بشأن أسئلة امتحانات الثانوية الأزهرية في مطروح (تفاصيل)    بروتوكول تعاون بين «التضامن» و«التعليم العالي» ضمن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة المخدرات    أحمد السقا من جبل عرفات: إحنا مصطفين السنة دي من ربنا    ورش وعروض فنية في احتفال ثقافة المنيا بعيد الأضحى    آمال ماهر تتعاون مع محمدي في أغنية "لو لينا عمر"    صلاة العيد يوم الجمعة الساعة كام في مصر؟ رسميًا بالتوقيت المحلي    صلاة عيد الأضحى 2025.. موعدها وطريقة أدائها وفضلها العظيم    العيد بعد الطاعة.. «بهجة مشروعة»    نصائح لإعداد المعدة، كيف نستقبل أكلات العيد دون مشكلات صحية؟    استشاري تغذية يحذّر من الإفراط في تناول اللحمة خلال عيد الأضحى- فيديو    في العيد.. طريقة عمل لحمة الرأس بخطوات سهلة وطعم مميز    "التنظيم والإدارة" يتيح استعادة كود التقديم في مسابقاته عبر بوابة الوظائف الحكومية    مصطفى محمد يُساند الزمالك من مدرجات ستاد القاهرة أمام بيراميدز    ترامب يكشف تفاصيل محادثته الهاتفية مع رئيس الصين    " صوت الأمة " تنشر أهم التوصيات الصادرة عن المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية    إعلام إسرائيلى: مقتل جندى إسرائيلى متأثرا بجروح خطيرة أصيب بها فى غزة قبل 8 أشهر    الرجل الثاني في الكنيسة الأرثوذكسية.. من هو الأنبا يوأنس سكرتير المجمع المقدس؟    "لو لينا عمر" أغنية لآمال ماهر بتوقيع الملحن محمدي في أول عمل يجمعهما    في إجازة عيد الأضحى.. حدود السحب والإيداع القصوى من ماكينات ATM    «الجيل»: ما يدور عن «القائمة الوطنية بانتخابات الشيوخ تكهنات تثير لغط»    «حلوان» و«حلوان الأهلية» تستعرضان برامجهما المتميزة في «نيجيريا»    تشيفو يقترب من قيادة إنتر ميلان بعد تعثر مفاوضات فابريغاس    يوم الرحمة.. كيف تستغل يوم عرفة أفضل استغلال؟    المسرح النسوي بين النظرية والتطبيق في العدد الجديد لجريدة مسرحنا    تهنئة أول أيام عيد الأضحى برسائل دينية مؤثرة    شوبير يكشف موقف أحمد عبد القادر من الاستمرار في الأهلي بالموسم المقبل    تقديم الخدمة الطبية ل1864 مواطنًا ضمن قافلة علاجية بعزبة عبد الرحيم بكفر البطيخ    3 أبراج تهرب من الحب.. هل أنت منهم؟    الصحة: فحص 17.8 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف عن الأمراض المزمنة    أجمل صور يوم عرفة.. لحظات تتجاوز الزمان والمكان    كل ما تريد معرفته عن جبل عرفات ويوم عرفة    قبل عيد الأضحى.. حملات تموينية بأسوان تسفر عن ضبط 156 مخالفة    مصرع عامل في حادث انقلاب دراجة نارية بالمنيا    تكثيف الحملات التموينية المفاجئة على الأسواق والمخابز بأسوان    أسعار البقوليات اليوم الخميس 5-6 -2025 في أسواق ومحال محافظة الدقهلية    موقع الدوري الأمريكي يحذر إنتر ميامي من خماسي الأهلي قبل مونديال الأندية    «مسجد نمرة».. منبر عرفات الذي بني في مكان خطبة الوداع    مسجد نمرة يستعد ل"خطبة عرفة"    أرخص 10 سيارات مستوردة إلى مصر بدون جمارك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نهاية العالم وحسب.. للكندي إكزافييه دولان
نشر في صوت البلد يوم 02 - 10 - 2016

قد يخطر لأحدنا عند مشاهدة فيلم ك «أوتيلّو» للأمريكي أورسون ويلز، المأخوذ عن مسرحيّة شكسبير المعروفة، بأنّ النَّص المسرحي العظيم إنّما كُتب أساسا للسينما وليس للمسرح، ليكون فيلما لا ليؤدى على الخشبة، إنّه بنسخته السينمائية بلغ مستوى جماليا في نقل الحكاية يصعب أن تصل إليه المسرحية.
لكن بمشاهدة الفيلم الأخير للكندي الشاب إكزافييه دولان، «نهاية العالم وحسب»، المأخوذ عن مسرحية بالعنوان نفسه للفرنسي جان لوك لاغارس، قد يخطر لأحدنا تعديلٌ طفيف على ما سبق ذكره، وهو أنّ التصوير السينمائي للنص المسرحي هو غالبا الأجمل، من دون أن يكون النصّ بالضرورة عظيما، أي من دون أن نصعد بمستوى الأمثلة إلى شكسبير وويلز.
للأعمال السينمائية المنقولة عن النص المسرحي، وليس عن المسرحية، أسلوب سينمائي خاص، «جانْر» خاص أهم ميزاته هي محدودية المكان والزمان، وهي شروطٌ مسرحيّة، وكذلك الاعتماد أساسا على الحوارات، كون السيناريو مأخوذ من نصّ هو أساسا مجموعة حوارات. فلا تجول الكاميرا كثيرا ولا يكون الأساس في أن تحصل الأحداث، بل في أن تُحكى. فالحدث هو الحكي هنا، هو الحوار، أو ما يمكن أن يحصل ضمن الحوار، حدثٌ يأتي في سياق الحديث، أمّا الجماليات البصريّة فتكون غالبا في مَشاهد شبه ثابتة، وهذا الفيلم غنيّ بها.
يأتي الفيلم كإنجاز جديد لدولان (27 عاما) بعد أفلامه «قتلت أمّي» و «علاقات الحب المتخيَّلة» و «لورنس في كل الأحوال» «توم في المزرعة» و «مومي»، وجميعها بديعة، وقد نالت جوائز عدّة. أما فيلمه المعروض في الصالات الفرنسية هذه الأيام فقد نال أهم ثاني جائزة في مهرجان كان الأخير، وهي «الجائزة الكبرى»، أعلى ما ناله دولان في سيرته الفيلميّة، وقد نال «مومي» جائزة «لجنة التحكيم» قبل عامين، ما قد يبدو تدرّجا إلى السعفة الذهبية في السنوات المقبلة.
الفيلم الذي مثّلت فيه مجموعة من أفضل الممثلين في فرنسا، ناتالي باي بدور الأم، فانسان كاسل بدور الأخ وماريون كوتيار بدور زوجته، ليا سيدو بدور الأخت، وغاسبار أوليول بدور لْوي العائد إلى عائلته بعد غياب 12 عاما ليخبرهم بأنّه مريض وسيموت قريبا.
الشخصية الرئيسية اسمها لْوي، كاتب، يعود إلى عائلته في بيتها الريفي، ليعلن لأفرادها موته القريب، يعود بعد انقطاع عنهم لاثني عشر عاما. من اللحظة الأولى لوصوله تتضح التعقيدات في حياتهم، العلاقات بين أفراد العائلة متوتّرة والصّراخ يعمّ البيت، بالكاد يسلّمون عليه حين يصل، علاقته جيّدة مع أخته وإن بديا غريبين عن بعضهما، فقد كانت طفلة حين غادر البيت. علاقته باردة مع أمّه وسيّئة مع أخيه ورسمية مع زوجة أخيه. هذا التوتّر بينهم وبين بعضهم من ناحية، وبينهم وبينه من ناحية ثانية صعّب عليه المهمة التي جاء من أجلها، لا قبل التحضير للغداء ولا أثناءه ولا على الطاولة ولا أثناء شرب القهوة بعدها استطاع إخبارهم باقتراب موته.
في الفيلم عالمان منفصلان، عالمه الذاتي السوداوي الكارثي المترقّب لرد فعل أهله حين يخبرهم بمرضه وموته، وعالم واقعي خارجي يسمعه ويراه في بيت أهله، يملأه التوتر والصراخ وهو ما منع لْوي من البوح بعالمه الذاتي فيفتح العالمين على بعضهما، فبقي المُشاهد طوال الفيلم على الحد الفاصل بين العالمين. لم يتصالح العالمان ولم يحك لْوي ما جاء لحكيه، يبدأ الفيلم كما ينتهي، لكل من هؤلاء، لوي من ناحية والباقي من الناحية الثانية، عالمه المنفصل عن الآخر، تماما كما كان دائما، خلال الأعوام الاثني عشر من غيابه، إلا أنّه، بحضوره، وضع العالمين على طاولة واحدة وفي غرفة واحدة، فبان أكثر تنافرُهما، ما جعله يقرّر أخيرا العودة من حيث أتى، كأنّه لم يأت.
وإن قُدّم لْوي كالشخصية الأساسية إلا أنّه كان الأقل أداء وكلاما، كان المتلّقي لأداء وكلام الآخرين. هو الذي كان المُشاهدُ ينتظره أن يتكلّم، أن يردّ أو يقول شيئا وتحديدا ما جاء إليهم ليقوله، هو، لوي، الأقل كلاما بين الجميع.
الحوارات كانت في مواضيع عاديّة، حوار أفراد عائلة بينهم مشاكلهم ومزاحهم كذلك، على طاولة الغداء، طوال الفيلم كانت كذلك، إلا أن وتيرتها تختلف، التوتّر فيها يتصاعد تدريجيا إلى أن يقترب الفيلم من نهايته، حيث يصطدم الأخوان، لسبب تافه، مشكلة لا مبرّر لها سوى عصبيّة أخيه الكبير، وهي عصبيّة كانت ظاهرة من بداية الفيلم، حيث لم يسلّم على أخيه العائد بعد انقطاع، واستمرت في ردوده وأحاديثه مع زوجته وأمه وأخته، ثم تعنيفه لأخيه، لفظيا وجسديا، وإجباره على الرحيل، والأخير كل ما يفكّر به كان كيفية مفاتحتهم بما جاء لأجله.
يكمل إكزافييه دولان في فيلمه ما تناوله سابقا في العلاقات العائليّة، في تعقيداتها وتأثير ذلك على الفرد فيها. لكن لم يحوِ الفيلم أي حدث، من الدقائق الأولى للفيلم حيث قدّم نصٌّ افتتاحي، كما في أي مسرحية تقدّم الحكاية للجمهور، أي البرولوغ، سمعناه بصوت المخرج دولان بأسلوب «الفويس أوفر»، كخلفية لمَشاهد تصوّر عودة لْوي بالطائرة إلى أهله، من هذه الدقائق إلى نهاية الفيلم لم يحصل ما يمكن تسميته بالحدث، فكان الفيلم كلّه حوارات، وكانت جذّابة. الحدث الذي يمكن أن ينتظره أي مُشاهد هو تحديدا اللحظة التي يخبر فيها لْوي أهلَه بموته القريب، ورد فعلهم، وخاصة تفاعل رد الفعل هذا مع الصراخ وتوتّر العلاقات بينهم جميعا وبين بعضهم، وبينهم وبينه. الحدث، إن كان، سيكون هذا وحسب. لكن النَّص المسرحي والسينمائي الذي كتبه دولان نفسه، ابتعد عن المتوقَّع، وصعد في الحوارات لتكون هي الحدث، لتكون أشد تأثيرا من لحظة إخبارهم، ليكون الأساس هنا لا الموضوع، أي لا تفاعل الشخصيات مع بعضها لحظة الإخبار، بل الذات، أي المشاعر الخاصة التي تموج في ذات لْوي، عالمه الذي يعيش فيه والذي يعرف أنّه سينتهي قريبا. فيختار أن يترك أهلَه بحالهم ويعود إلى حياته أو ما تبقى منها، من دون أن يشارك خبر موته أقربَ الناس إليه.
ولأنّ الحديث عن نصّ مسرحي، أو تصوير سينمائي لهذا النَّص، فبعض ما يتميز به المسرح سيحضر هنا، إضافة إلى ما ذُكر أعلاه من شروط مكانية وزمانية والحوارات، هنالك التصاعد الحتمي في التوتّر الكامن في الحوارات، وهنالك أساسا الملامح، الاعتماد على التعابير الوجهيّة كمرافق أساسي لحوار، أو للصمت. والصّمت هنا كان فعلا جزءا من الحوار، والصّور المقرّبة الكثيرة في الفيلم، على الملامح وعلى اليدين وغيرها، وتصويرها كلّها ضمن جماليات الإضاءة والظلال والألوان، أضافت توتّرا على التوتّر، وضغطا على الضغط بين الشخصيات، ضغط يحكمه الحوار كما يحكمه المكان المغلق الذي تتصارخ فيه الشخصيات. والصمت ذاته تفاعلَ مرارا مع الموسيقى، الضجة في الفيلم، تفاعل وانقطاع لواحد واستمرار لآخر، الضجة والموسيقى والحوار والصمت، تعامل معها دولان بمنطق المونتاج، كم يتعامل أي سينمائي أوتور، أي مؤلّف، مع الصّورة.
الحديث عن الفيلم لا ينتهي، هو من أفضل ما أنتجته السينما الفرنسية مؤخرا وهو الأفضل في مسيرة دولان الفيلميّة، وهو فيلم فرنسي/كندي، لكنّه الفيلم الفرنسي تماما الأوّل بالنسبة لدولان، اللهجة فرنسية في وقت كانت اللهجة في أفلامه السابقة كيبيكيهة/كنديّة، الممثلون جميعا فرنسيون، والنَّص المسرحي فرنسي، والاحتفاء به كذلك فرنسي.
إن أكمل إكزافييه دولان على المنوال ذاته ستأتي أعوام يسهل فيها القول بأنّه السينمائي الأفضل من بين الأحياء، الرّهافة في أفلامه ستساعده على ذلك، وكذلك إصراره على أن يكون مؤلّفا لها، يكتبها ويخرجها ويمثّل فيها ويجاور بين الأفكار والجماليات وينال جوائز في المهرجانات التي يتواجد فيها.
قد يخطر لأحدنا عند مشاهدة فيلم ك «أوتيلّو» للأمريكي أورسون ويلز، المأخوذ عن مسرحيّة شكسبير المعروفة، بأنّ النَّص المسرحي العظيم إنّما كُتب أساسا للسينما وليس للمسرح، ليكون فيلما لا ليؤدى على الخشبة، إنّه بنسخته السينمائية بلغ مستوى جماليا في نقل الحكاية يصعب أن تصل إليه المسرحية.
لكن بمشاهدة الفيلم الأخير للكندي الشاب إكزافييه دولان، «نهاية العالم وحسب»، المأخوذ عن مسرحية بالعنوان نفسه للفرنسي جان لوك لاغارس، قد يخطر لأحدنا تعديلٌ طفيف على ما سبق ذكره، وهو أنّ التصوير السينمائي للنص المسرحي هو غالبا الأجمل، من دون أن يكون النصّ بالضرورة عظيما، أي من دون أن نصعد بمستوى الأمثلة إلى شكسبير وويلز.
للأعمال السينمائية المنقولة عن النص المسرحي، وليس عن المسرحية، أسلوب سينمائي خاص، «جانْر» خاص أهم ميزاته هي محدودية المكان والزمان، وهي شروطٌ مسرحيّة، وكذلك الاعتماد أساسا على الحوارات، كون السيناريو مأخوذ من نصّ هو أساسا مجموعة حوارات. فلا تجول الكاميرا كثيرا ولا يكون الأساس في أن تحصل الأحداث، بل في أن تُحكى. فالحدث هو الحكي هنا، هو الحوار، أو ما يمكن أن يحصل ضمن الحوار، حدثٌ يأتي في سياق الحديث، أمّا الجماليات البصريّة فتكون غالبا في مَشاهد شبه ثابتة، وهذا الفيلم غنيّ بها.
يأتي الفيلم كإنجاز جديد لدولان (27 عاما) بعد أفلامه «قتلت أمّي» و «علاقات الحب المتخيَّلة» و «لورنس في كل الأحوال» «توم في المزرعة» و «مومي»، وجميعها بديعة، وقد نالت جوائز عدّة. أما فيلمه المعروض في الصالات الفرنسية هذه الأيام فقد نال أهم ثاني جائزة في مهرجان كان الأخير، وهي «الجائزة الكبرى»، أعلى ما ناله دولان في سيرته الفيلميّة، وقد نال «مومي» جائزة «لجنة التحكيم» قبل عامين، ما قد يبدو تدرّجا إلى السعفة الذهبية في السنوات المقبلة.
الفيلم الذي مثّلت فيه مجموعة من أفضل الممثلين في فرنسا، ناتالي باي بدور الأم، فانسان كاسل بدور الأخ وماريون كوتيار بدور زوجته، ليا سيدو بدور الأخت، وغاسبار أوليول بدور لْوي العائد إلى عائلته بعد غياب 12 عاما ليخبرهم بأنّه مريض وسيموت قريبا.
الشخصية الرئيسية اسمها لْوي، كاتب، يعود إلى عائلته في بيتها الريفي، ليعلن لأفرادها موته القريب، يعود بعد انقطاع عنهم لاثني عشر عاما. من اللحظة الأولى لوصوله تتضح التعقيدات في حياتهم، العلاقات بين أفراد العائلة متوتّرة والصّراخ يعمّ البيت، بالكاد يسلّمون عليه حين يصل، علاقته جيّدة مع أخته وإن بديا غريبين عن بعضهما، فقد كانت طفلة حين غادر البيت. علاقته باردة مع أمّه وسيّئة مع أخيه ورسمية مع زوجة أخيه. هذا التوتّر بينهم وبين بعضهم من ناحية، وبينهم وبينه من ناحية ثانية صعّب عليه المهمة التي جاء من أجلها، لا قبل التحضير للغداء ولا أثناءه ولا على الطاولة ولا أثناء شرب القهوة بعدها استطاع إخبارهم باقتراب موته.
في الفيلم عالمان منفصلان، عالمه الذاتي السوداوي الكارثي المترقّب لرد فعل أهله حين يخبرهم بمرضه وموته، وعالم واقعي خارجي يسمعه ويراه في بيت أهله، يملأه التوتر والصراخ وهو ما منع لْوي من البوح بعالمه الذاتي فيفتح العالمين على بعضهما، فبقي المُشاهد طوال الفيلم على الحد الفاصل بين العالمين. لم يتصالح العالمان ولم يحك لْوي ما جاء لحكيه، يبدأ الفيلم كما ينتهي، لكل من هؤلاء، لوي من ناحية والباقي من الناحية الثانية، عالمه المنفصل عن الآخر، تماما كما كان دائما، خلال الأعوام الاثني عشر من غيابه، إلا أنّه، بحضوره، وضع العالمين على طاولة واحدة وفي غرفة واحدة، فبان أكثر تنافرُهما، ما جعله يقرّر أخيرا العودة من حيث أتى، كأنّه لم يأت.
وإن قُدّم لْوي كالشخصية الأساسية إلا أنّه كان الأقل أداء وكلاما، كان المتلّقي لأداء وكلام الآخرين. هو الذي كان المُشاهدُ ينتظره أن يتكلّم، أن يردّ أو يقول شيئا وتحديدا ما جاء إليهم ليقوله، هو، لوي، الأقل كلاما بين الجميع.
الحوارات كانت في مواضيع عاديّة، حوار أفراد عائلة بينهم مشاكلهم ومزاحهم كذلك، على طاولة الغداء، طوال الفيلم كانت كذلك، إلا أن وتيرتها تختلف، التوتّر فيها يتصاعد تدريجيا إلى أن يقترب الفيلم من نهايته، حيث يصطدم الأخوان، لسبب تافه، مشكلة لا مبرّر لها سوى عصبيّة أخيه الكبير، وهي عصبيّة كانت ظاهرة من بداية الفيلم، حيث لم يسلّم على أخيه العائد بعد انقطاع، واستمرت في ردوده وأحاديثه مع زوجته وأمه وأخته، ثم تعنيفه لأخيه، لفظيا وجسديا، وإجباره على الرحيل، والأخير كل ما يفكّر به كان كيفية مفاتحتهم بما جاء لأجله.
يكمل إكزافييه دولان في فيلمه ما تناوله سابقا في العلاقات العائليّة، في تعقيداتها وتأثير ذلك على الفرد فيها. لكن لم يحوِ الفيلم أي حدث، من الدقائق الأولى للفيلم حيث قدّم نصٌّ افتتاحي، كما في أي مسرحية تقدّم الحكاية للجمهور، أي البرولوغ، سمعناه بصوت المخرج دولان بأسلوب «الفويس أوفر»، كخلفية لمَشاهد تصوّر عودة لْوي بالطائرة إلى أهله، من هذه الدقائق إلى نهاية الفيلم لم يحصل ما يمكن تسميته بالحدث، فكان الفيلم كلّه حوارات، وكانت جذّابة. الحدث الذي يمكن أن ينتظره أي مُشاهد هو تحديدا اللحظة التي يخبر فيها لْوي أهلَه بموته القريب، ورد فعلهم، وخاصة تفاعل رد الفعل هذا مع الصراخ وتوتّر العلاقات بينهم جميعا وبين بعضهم، وبينهم وبينه. الحدث، إن كان، سيكون هذا وحسب. لكن النَّص المسرحي والسينمائي الذي كتبه دولان نفسه، ابتعد عن المتوقَّع، وصعد في الحوارات لتكون هي الحدث، لتكون أشد تأثيرا من لحظة إخبارهم، ليكون الأساس هنا لا الموضوع، أي لا تفاعل الشخصيات مع بعضها لحظة الإخبار، بل الذات، أي المشاعر الخاصة التي تموج في ذات لْوي، عالمه الذي يعيش فيه والذي يعرف أنّه سينتهي قريبا. فيختار أن يترك أهلَه بحالهم ويعود إلى حياته أو ما تبقى منها، من دون أن يشارك خبر موته أقربَ الناس إليه.
ولأنّ الحديث عن نصّ مسرحي، أو تصوير سينمائي لهذا النَّص، فبعض ما يتميز به المسرح سيحضر هنا، إضافة إلى ما ذُكر أعلاه من شروط مكانية وزمانية والحوارات، هنالك التصاعد الحتمي في التوتّر الكامن في الحوارات، وهنالك أساسا الملامح، الاعتماد على التعابير الوجهيّة كمرافق أساسي لحوار، أو للصمت. والصّمت هنا كان فعلا جزءا من الحوار، والصّور المقرّبة الكثيرة في الفيلم، على الملامح وعلى اليدين وغيرها، وتصويرها كلّها ضمن جماليات الإضاءة والظلال والألوان، أضافت توتّرا على التوتّر، وضغطا على الضغط بين الشخصيات، ضغط يحكمه الحوار كما يحكمه المكان المغلق الذي تتصارخ فيه الشخصيات. والصمت ذاته تفاعلَ مرارا مع الموسيقى، الضجة في الفيلم، تفاعل وانقطاع لواحد واستمرار لآخر، الضجة والموسيقى والحوار والصمت، تعامل معها دولان بمنطق المونتاج، كم يتعامل أي سينمائي أوتور، أي مؤلّف، مع الصّورة.
الحديث عن الفيلم لا ينتهي، هو من أفضل ما أنتجته السينما الفرنسية مؤخرا وهو الأفضل في مسيرة دولان الفيلميّة، وهو فيلم فرنسي/كندي، لكنّه الفيلم الفرنسي تماما الأوّل بالنسبة لدولان، اللهجة فرنسية في وقت كانت اللهجة في أفلامه السابقة كيبيكيهة/كنديّة، الممثلون جميعا فرنسيون، والنَّص المسرحي فرنسي، والاحتفاء به كذلك فرنسي.
إن أكمل إكزافييه دولان على المنوال ذاته ستأتي أعوام يسهل فيها القول بأنّه السينمائي الأفضل من بين الأحياء، الرّهافة في أفلامه ستساعده على ذلك، وكذلك إصراره على أن يكون مؤلّفا لها، يكتبها ويخرجها ويمثّل فيها ويجاور بين الأفكار والجماليات وينال جوائز في المهرجانات التي يتواجد فيها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.