قفزة تاريخية.. مصر تقترب من الاكتفاء الذاتي للقمح والأرز    الاتحاد الأوروبي يواصل دعم أوكرانيا ويوافق على تجميد أصول روسيا لأجل غير مسمى    محكمة بوليفية تقرر حبس الرئيس السابق لويس آرسي احتياطيًا 5 أشهر بتهمة اختلاس أموال عامة    تدريب واقتراب وعطش.. هكذا استعدت منى زكي ل«الست»    بين مصر ودبي والسعودية.. خريطة حفلات رأس السنة    بدأ العد التنازلي.. دور العرض تستقبل أفلام رأس السنة    د.هبة مصطفى: مصر تمتلك قدرات كبيرة لدعم أبحاث الأمراض المُعدية| حوار    مصرع شخص وإصابة 7 آخرين فى حادث تصادم بزراعى البحيرة    تقرير أممي: التوسع الاستيطاني بالضفة الغربية يبلغ أعلى مستوى له منذ عام 2017 على الأقل    ترامب يثمن دور رئيس الوزراء الماليزى فى السلام بين كمبوديا وتايلاند    زعيمة المعارضة الفنزويلية تؤيد زيادة الضغط على مادورو حتى "يدرك أنه يجب عليه الرحيل"    ياسمين عبد العزيز: كان نفسي أبقى مخرجة إعلانات.. وصلاة الفجر مصدر تفاؤلي    بعد الخروج أمام الإمارات، مدرب منتخب الجزائر يعلن نهايته مع "الخضر"    محمد فخرى: كولر كان إنسانا وليس مدربا فقط.. واستحق نهاية أفضل فى الأهلى    وول ستريت جورنال: قوات خاصة أمريكية داهمت سفينة وهي في طريقها من الصين إلى إيران    اليوم.. محاكمة المتهمين في قضية خلية تهريب العملة    ياسمين عبد العزيز: ما بحبش مسلسل "ضرب نار"    سلوى بكر ل العاشرة: أسعى دائما للبحث في جذور الهوية المصرية المتفردة    أكرم القصاص: الشتاء والقصف يضاعفان معاناة غزة.. وإسرائيل تناور لتفادي الضغوط    هشام نصر: سنرسل خطابا لرئيس الجمهورية لشرح أبعاد أرض أكتوبر    إصابة 3 أشخاص إثر تصادم دراجة نارية بالرصيف عند مدخل بلقاس في الدقهلية    قرار هام بشأن العثور على جثة عامل بأكتوبر    بسبب تسريب غاز.. قرار جديد في مصرع أسرة ببولاق الدكرور    ننشر نتيجة إنتخابات نادي محافظة الفيوم.. صور    محمود عباس يُطلع وزير خارجية إيطاليا على التطورات بغزة والضفة    كأس العرب - مجرشي: لا توجد مباراة سهلة في البطولة.. وعلينا القتال أمام الأردن    أحمد حسن: بيراميدز لم يترك حمدي دعما للمنتخبات الوطنية.. وهذا ردي على "الجهابذة"    الأهلي يتراجع عن صفقة النعيمات بعد إصابته بالرباط الصليبي    الأهلي يتأهل لنصف نهائي بطولة أفريقيا لكرة السلة سيدات    فرانشيسكا ألبانيزي: تكلفة إعمار غزة تتحملها إسرائيل وداعموها    ياسمين عبد العزيز: أرفض القهر ولا أحب المرأة الضعيفة    محافظ الدقهلية يهنئ الفائزين في المسابقة العالمية للقرآن الكريم من أبناء المحافظة    تعيين الأستاذ الدكتور محمد غازي الدسوقي مديرًا للمركز القومي للبحوث التربوية والتنمية    إشادة شعبية بافتتاح غرفة عمليات الرمد بمجمع الأقصر الطبي    روشتة ذهبية .. قصة شتاء 2025 ولماذا يعاني الجميع من نزلات البرد؟    عمرو أديب ينتقد إخفاق منتخب مصر: مفيش جدية لإصلاح المنظومة الرياضية.. ولما نتنيل في إفريقيا هيمشوا حسام حسن    صحه قنا تعلن موعد انطلاق الحملة التنشيطية لتنظيم الأسرة ضمن مبادرة بداية    سعر جرام الذهب، عيار 21 وصل لهذا المستوى    بعد واقعة تحرش فرد الأمن بأطفال، مدرسة بالتجمع تبدأ التفاوض مع شركة حراسات خاصة    الإسعافات الأولية لنقص السكر في الدم    مفتي الجمهورية يشهد افتتاح مسجدي الهادي البديع والواحد الأحد بمدينة بشاير الخير بمحافظة الإسكندرية    الأرصاد تعلن انحسار تأثير المنخفض الجوي وارتفاع طفيف في الحرارة وأمطار على هذه المناطق    غلق مزلقان مغاغة في المنيا غدا لهذا السبب    لجنة المحافظات بالقومي للمرأة تناقش مبادرات دعم تحقيق التمكين الاقتصادي والاجتماعي    مواقيت الصلاه اليوم الجمعه 12ديسمبر 2025 فى المنيا    محافظ أسوان يأمر بإحالة مدير فرع الشركة المصرية للنيابة العامة للتحقيق لعدم توافر السلع بالمجمع    انطلاقة قوية للمرحلة الثانية لبرنامج اختراق سوق العمل بجامعة سوهاج |صور    اسعار الفاكهه اليوم الجمعه 12ديسمبر 2025 فى المنيا    سويلم: العنصر البشري هو محور الاهتمام في تطوير المنظومة المائية    ضبط المتهمين بتقييد مسن فى الشرقية بعد فيديو أثار غضب رواد التواصل    ناشيونال جيوجرافيك: الدعاية للمتحف الكبير زادت الحجوزات السياحية لعام 2026    هشام طلعت مصطفى يرصد 10 ملايين جنيه دعمًا لبرنامج دولة التلاوة    نقيب العلاج الطبيعى: إلغاء عمل 31 دخيلا بمستشفيات جامعة عين شمس قريبا    بتوجيهات الرئيس.. قافلة حماية اجتماعية كبرى من صندوق تحيا مصر لدعم 20 ألف أسرة في بشاير الخير ب226 طن مواد غذائية    في الجمعة المباركة.. تعرف على الأدعية المستحبة وساعات الاستجابة    تحالف جديد تقوده واشنطن لمواجهة الصين يضم إسرائيل و4 آخرين    عاجل- الحكومة توضح حقيقة بيع المطارات المصرية: الدولة تؤكد الملكية الكاملة وتوضح أهداف برنامج الطروحات    كيف أصلي الجمعة إذا فاتتني الجماعة؟.. دار الإفتاء تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيلم " البقرة " البداية الحقيقية للموجة الجديدة للسينما الإيرانية
نشر في صوت البلد يوم 11 - 08 - 2016

لم تبدأ السينما في إيران مع وصول آية الله الخميني وحزبه الإسلامي المتشدد (أي أنصاره) إلى السلطة ثم انفرادهم بها، فقد كانت السينما الإيرانية مزدهرة أيام الشاه. ولا يصلح القول إن المخرج عباس كياروستامي هو أبو السينما الإيرانية الحديثة وإلا لأغفلنا الفرسان الحقيقيين الذين كانوا روادا في تطوير الفيلم الإيراني ومنحه طابعا حداثيا مع تعبيره عن الثقافة الإيرانية الحقيقية بطريقة يمكن للمشاهدين الإيرانيين أن يفهموها ويستوعبوها.
إن مؤسسي السينما الإيرانية الحديثة (أو الموجة الجديدة) هم داريوش مهرجوي ومسعود كيميائي وهازير داريوش وناصر تقواي وسهراب شهيد سالاس وبارفيز كيميائي وبهرام بيزاي. هؤلاء المخرجون كانوا يعملون في زمن الشاه، وكانوا يصنعون أفلاما دخلت تاريخ السينما في إيران والعالم مثل “البقرة” (1969) لداريوش مهرجوي، و”داش أكول” و”الحصان” و”رحلة الحجر” لمسعود كيميائي الذي مازال يعمل في إيران حتى اليوم وهو في الخامسة والسبعين من عمره، كما لا يزال مهرجوي يعمل وهو في السادسة والسبعين، وقد أخرج أحدث أفلامه عام 2012. وهناك أيضا هازير داريوش الذي يرى نقاد السينما الإيرانية أن فيلمه “جلد الثعبان” (1966) الذي اقتبسه عن رواية “عشيق الليدي تشاترلي”، كان البداية الحقيقية لحركة السينما الإيرانية الجديدة. وقد انتحر هذا المخرج، الذي أسس أول مهرجان سينمائي دولي في إيران (1966)، في العاصمة الفرنسية باريس عام 1995 بعد أن ظل فترة يعاني من الاكتئاب بسبب عجزه عن مواصلة إبداعه السينمائي في بلده بعد أن أصبحت دولة محتلة من قبل اليمين الديني الرجعي الذي أعادها فكريا إلى العصور الوسطى.
قدم بهرام بيضائي (77 عاما) واحدا من أجمل وأفضل أفلام السينما الإيرانية وهو فيلم “الغريب والضباب” ((1976، وفيه يربط على نحو شاعري رقيق بين الأسطورة والتراث والدين، ويعتمد أساسا على تقاليد ما يعرف ب”مسرح التعزية” الفارسي. وقد أخرج بيضائي 14 فيلما كان أحدثها عام 2009. أي أنه استمر في العمل مثل غيره من جيل المؤسسين بعد تغيّر النظام.
لكن أحدا في الغرب لم يهتم به، فقد طغت “ظاهرة كياروستامي” على الجميع، بعد أن وجد نقاد الغرب أن الأفلام التي يخرجها كياروستامي أقرب إليهم بسبب اشتقاقها من مدرسة “الواقعية الجديدة”، وبالتالي تمّ الإعلاء من شأن كل ما يصنعه كياروستامي حتى لو فشل في الوصول إلى المتفرج الإيراني في الداخل، لأنه كان يغازل عشاق ذلك النوع من السينما “الذهنية” في الغرب، خاصة وأن النقاد الغربيين خاضعون للدوران في فلك “لمركزية الأوروبية الثقافية”، أي يقيسون قيمة كل ما يأتيهم من “الشرق”، طبقا لاقترابه من “المركز″ في أوروبا أو ابتعاده عنه، ومحاولة العثور على أصداء لما يأتيهم من السينمائيين غير الأوروبيين، مما يتردد في سينماهم وأدبهم وموسيقاهم. ولعل هذا كان سببا رئيسيا في الإعلاء بدرجة مبالغ فيها في الكثير من أفلام كياروستامي (وتلاميذه)، والتقليل من قيمة أعمال أخرى قد تكون أكثر أهمية، إلى حد تجاهلها تجاهلا تاما.
بداية الموجة الجديدة
كانت باكورة حركة الموجة الإيرانية الجديدة فيلم “البقرة” (1969) لداريوش مهرجوي (مواليد 1939) الذي تخرج من قسم السينما في جامعة كاليفورنيا عام 1964. ورغم تأثر الفيلم بتقاليد الواقعية الإيطالية الجديدة، بطابعه التسجيلي الذي يرصد تفاصيل الحياة اليومية في قرية إيرانية تعاني من التخلف والفقر وسيطرة الخرافات والشعور بالخطر من سكان قرية أخرى مجاورة، إلا أنه كان يستخدم الواقع المحيط لرواية قصة ذات أبعاد رمزية، لها علاقة بالتراث الشعبي الشفوي الإيراني.
تدور قصة الفيلم حول “حسن”، وهو قروي فقير يمتلك بقرة وحيدة هي التي ظلت على قيد الحياة، بعد أن نفقت كل أبقار القرية، وقد أصبحت أيضا حاملا، وأصبح سكان القرية يعتمدون عليها في الحصول على الحليب، كما ينتظرون أن يصبح مولودها إيذانا بعودة الخير إلى القرية مجددا. حسن يعشق بقرته ويدللها ويعتني بها كما يهتم المرء بطفله الوحيد، يمزح معها، يدللها، يناجيها، يقلدها في الضحك والعبوس، ويشاركها أحيانا، قضم الحشائش، يصحبها إلى السباحة والاستحمام في مياه النهر، ويراقبها وهي تتناول طعامها، يكاد يطير من السعادة.
يظهر ثلاثة رجال يقفون في صمت أعلى ربوة جبلية مرتفعة قريبة، يحدقون من بعيد، يرتدون ملابس موحدة، لا نرى وجوههم في لقطات قريبة قط، ويبدو أنهم ينتوون شرا بهذه القرية المسالمة التي أصبح محور الحياة فيها “بقرة حسن”.
وعندما يغيب حسن ذات يوم عن القرية، تعثر زوجته على البقرة ميتة وقد سال الدم من فمها فملأ الحظيرة. ترى من الذي قد قتل البقرة؟ وما الذي حدث بالضبط؟ هل هم “البولوريون”، أي الأعداء من سكان القرية الأخرى المجاورة؟ هل ماتت البقرة قضاء وقدرا؟ لا أحد يمكنه الإجابة عن هذا السؤال. لكن الجميع يخشون أن يُصدم حسن بالنبأ فيتفقون على إخفاء الأمر عنه، ويقومون بدفن البقرة في البئر القديمة، ويعتقلون شابا يعاني من التخلف الذهني، يقيدون حركته حتى لا يبوح بالسرّ لحسن، ويتفقون على أن يقولوا لحسن إن بقرته هربت. وعندما يعود حسن، يراقبه الجميع من بعيد، من داخل البيوت، ومن وراء الستر، ومن الكوات الصغيرة أعلى المنازل البدائية المشيّدة من الطين، يتفاداه الرجال، وتشيح عنه النساء، خشية أن تفلت من أحدهم إشارة تكشف السر. وعندما يعلمونه بهروب البقرة يرفض تصديق الأمر، ويصرّ على أن بقرته لا يمكن أن تهرب. إنه مؤمن بها وبولائها إيمانا عميقا.
بقرة حسن
يحتجب حسن، ويقيم داخل الحظيرة، يتصرّف مثل البقرة، يمضغ القش مثلها في فمه، يتقمّصها تماما، ويردّد لأصدقائه الذين يتطلعون في ذهول إلى ما بلغه من تدهور بعد امتناعه عن تناول الطعام والشراب، أن البقرة لم تهرب بل هي موجودة وأنه هو بقرة حسن، وأن حسن نفسه هناك فوق السطح، يراقب حتى لا يهجم البلوريون بغتة ليسرقوا البقرة. وعندما تفشل كل محاولاتهم لإقناع حسن بالكفّ عن هذيانه، يقررون نقله إلى مستشفى المدينة، فيقيدونه كما لو كان حيوانا، ويجرونه بالقوة وهو يقاوم، ثم ينهال عليه أخلص أصدقائه ضربا بالسوط، ويسوقه، تماما كما تساق الأبقار، وحينما يصل الغضب بحسن إلى ذروته، يحرر نفسه بقوة من قيوده، وينطلق ليسقط من فوق الجبل ويلقى مصيره.
يموت حسن، ويظلّ اللغز قائما. هل البقرة حقيقة أم مجاز، وما معنى أن تفقد القرية البقرة الوحيدة الحلوب التي تجود عليهم بالخير؟ لقد فشل كل عجائز القرية في إنقاذ حسن من حالته عن طريق التعاويذ، ولكن القرية رغم اجتماع أهلها على ضرورة القيام بشيء من أجل إنقاذ حسن، إلا أنهم تعاملوا مع الموقف بقدر من السلبية، فأخذوا يتخبّطون يمينا ويسارا، بل بدوا في وقت ما وكأنهم يصدّقون أن “حسن” لم يعد نفسه بل أصبح بالفعل “بقرة حسن”. ورغم المأساة التي وقعت أمام عيونهم، ما زال أهل القرية قادرين على الاحتفال بعروس جديدة تقوم النساء بتزيينها وإعدادها لليلة العرس.
وجود “حسن” مرتبط بوجود البقرة، وعندما تغيب البقرة، يحلّ حسن في بقرته الغائبة، ويصبح هو البقرة، يتلبسه سلوكها وشخصيتها، رافضا أن يواجه الحقيقة، فالبقرة رمز الحياة والاستمرارية عن طريق الإنجاب، وإذا أقر بموتها فإنه يقر بموته أيضا.
بلاغة الأسلوب
كان أسلوب الإخراج شديد التميز، في استخدام التصوير البديع (بالأبيض والأسود)، في توزيع الكتل والظلال بطريقة موحية، واستخراج كل ما يمكن من دلالات بصرية ورمزية من المكان.. ومن حيث الطابع الواقعي اعتمد المخرج على التصوير المباشر في المواقع الطبيعية، وأشرك أهل القرية الحقيقيين في التمثيل، بعد أن خلط معهم الممثلين المحترفين، وأدار التصوير بحيث جعل الطبيعة الصامتة كأنها شاهد على الحدث، مع استخدام الزوايا المرتفعة، ولقطات “الكلوز أب” القريبة للوجوه، وتصوير العلاقة البديعة بين الإنسان والحيوان، مع بعض الإضافات التي ترتبط بالأسطورة الراسخة في الأدب الفارسي، وتحميل الموضوع أبعادا ميتافيزيقية رمزية.
ولعل من أكثر عوامل نجاح الفيلم وتميزه، ذلك الأداء التمثيلي الرفيع من جانب الممثل عزت الله انتظامي في دور حسن، وهو الممثل الذي سيصبح قاسما مشتركا في كثير من أفلام مهرجوي التالية، قبل أن يغادر إيران بعد وصول الخميني إلى السلطة، ليقضي سنوات في باريس ثم يعود للعمل في إيران تحت القيود الرقابية الجديدة المشددة. والطريف أن فيلمه هذا واجه اعتراضات رسمية كثيرة في زمن الشاه، فقد اتهمه الرقيب بتقديم صورة سلبية عن الحياة في الريف.
وبعد تغير النظام ظل أيضا ممنوعا من العرض إلى أن شاهده الخميني وأبدى إعجابه به، لاعتقاده أنه كان يوجه نقدا شديدا لنظام الشاه في إهماله الريف، كما أنه غالبا، كان يرى أن البقرة هي رمز لحالة إيران نفسها في زمن الشاه، وهو تفسير آخر للفيلم.
حافظ نظام الخميني على استمرارية السينما في إيران ولكن في ظلّ قيود رقابية مشددة جديدة تتعلق بالملابس وظهور الممثلات واستبعاد معظم أنواع الأفلام (الموسيقية والعاطفية والبوليسية.. الخ) بدعوى الالتزام بالشريعة، لكن موجة أخرى من الأفلام النقدية التي تستخدم الرمز والإشارة وتكثر من إبراز الأطفال بديلا عن النساء، ظهرت، وظلت العلاقة بين السينمائيين والسلطة علاقة شدّ وجذب، ولقي الكثيرون العنت والاضطهاد، وفضّلوا العمل خارج البلاد، أو الصمت في الداخل.
....
ناقد سينمائي من مصر
لم تبدأ السينما في إيران مع وصول آية الله الخميني وحزبه الإسلامي المتشدد (أي أنصاره) إلى السلطة ثم انفرادهم بها، فقد كانت السينما الإيرانية مزدهرة أيام الشاه. ولا يصلح القول إن المخرج عباس كياروستامي هو أبو السينما الإيرانية الحديثة وإلا لأغفلنا الفرسان الحقيقيين الذين كانوا روادا في تطوير الفيلم الإيراني ومنحه طابعا حداثيا مع تعبيره عن الثقافة الإيرانية الحقيقية بطريقة يمكن للمشاهدين الإيرانيين أن يفهموها ويستوعبوها.
إن مؤسسي السينما الإيرانية الحديثة (أو الموجة الجديدة) هم داريوش مهرجوي ومسعود كيميائي وهازير داريوش وناصر تقواي وسهراب شهيد سالاس وبارفيز كيميائي وبهرام بيزاي. هؤلاء المخرجون كانوا يعملون في زمن الشاه، وكانوا يصنعون أفلاما دخلت تاريخ السينما في إيران والعالم مثل “البقرة” (1969) لداريوش مهرجوي، و”داش أكول” و”الحصان” و”رحلة الحجر” لمسعود كيميائي الذي مازال يعمل في إيران حتى اليوم وهو في الخامسة والسبعين من عمره، كما لا يزال مهرجوي يعمل وهو في السادسة والسبعين، وقد أخرج أحدث أفلامه عام 2012. وهناك أيضا هازير داريوش الذي يرى نقاد السينما الإيرانية أن فيلمه “جلد الثعبان” (1966) الذي اقتبسه عن رواية “عشيق الليدي تشاترلي”، كان البداية الحقيقية لحركة السينما الإيرانية الجديدة. وقد انتحر هذا المخرج، الذي أسس أول مهرجان سينمائي دولي في إيران (1966)، في العاصمة الفرنسية باريس عام 1995 بعد أن ظل فترة يعاني من الاكتئاب بسبب عجزه عن مواصلة إبداعه السينمائي في بلده بعد أن أصبحت دولة محتلة من قبل اليمين الديني الرجعي الذي أعادها فكريا إلى العصور الوسطى.
قدم بهرام بيضائي (77 عاما) واحدا من أجمل وأفضل أفلام السينما الإيرانية وهو فيلم “الغريب والضباب” ((1976، وفيه يربط على نحو شاعري رقيق بين الأسطورة والتراث والدين، ويعتمد أساسا على تقاليد ما يعرف ب”مسرح التعزية” الفارسي. وقد أخرج بيضائي 14 فيلما كان أحدثها عام 2009. أي أنه استمر في العمل مثل غيره من جيل المؤسسين بعد تغيّر النظام.
لكن أحدا في الغرب لم يهتم به، فقد طغت “ظاهرة كياروستامي” على الجميع، بعد أن وجد نقاد الغرب أن الأفلام التي يخرجها كياروستامي أقرب إليهم بسبب اشتقاقها من مدرسة “الواقعية الجديدة”، وبالتالي تمّ الإعلاء من شأن كل ما يصنعه كياروستامي حتى لو فشل في الوصول إلى المتفرج الإيراني في الداخل، لأنه كان يغازل عشاق ذلك النوع من السينما “الذهنية” في الغرب، خاصة وأن النقاد الغربيين خاضعون للدوران في فلك “لمركزية الأوروبية الثقافية”، أي يقيسون قيمة كل ما يأتيهم من “الشرق”، طبقا لاقترابه من “المركز″ في أوروبا أو ابتعاده عنه، ومحاولة العثور على أصداء لما يأتيهم من السينمائيين غير الأوروبيين، مما يتردد في سينماهم وأدبهم وموسيقاهم. ولعل هذا كان سببا رئيسيا في الإعلاء بدرجة مبالغ فيها في الكثير من أفلام كياروستامي (وتلاميذه)، والتقليل من قيمة أعمال أخرى قد تكون أكثر أهمية، إلى حد تجاهلها تجاهلا تاما.
بداية الموجة الجديدة
كانت باكورة حركة الموجة الإيرانية الجديدة فيلم “البقرة” (1969) لداريوش مهرجوي (مواليد 1939) الذي تخرج من قسم السينما في جامعة كاليفورنيا عام 1964. ورغم تأثر الفيلم بتقاليد الواقعية الإيطالية الجديدة، بطابعه التسجيلي الذي يرصد تفاصيل الحياة اليومية في قرية إيرانية تعاني من التخلف والفقر وسيطرة الخرافات والشعور بالخطر من سكان قرية أخرى مجاورة، إلا أنه كان يستخدم الواقع المحيط لرواية قصة ذات أبعاد رمزية، لها علاقة بالتراث الشعبي الشفوي الإيراني.
تدور قصة الفيلم حول “حسن”، وهو قروي فقير يمتلك بقرة وحيدة هي التي ظلت على قيد الحياة، بعد أن نفقت كل أبقار القرية، وقد أصبحت أيضا حاملا، وأصبح سكان القرية يعتمدون عليها في الحصول على الحليب، كما ينتظرون أن يصبح مولودها إيذانا بعودة الخير إلى القرية مجددا. حسن يعشق بقرته ويدللها ويعتني بها كما يهتم المرء بطفله الوحيد، يمزح معها، يدللها، يناجيها، يقلدها في الضحك والعبوس، ويشاركها أحيانا، قضم الحشائش، يصحبها إلى السباحة والاستحمام في مياه النهر، ويراقبها وهي تتناول طعامها، يكاد يطير من السعادة.
يظهر ثلاثة رجال يقفون في صمت أعلى ربوة جبلية مرتفعة قريبة، يحدقون من بعيد، يرتدون ملابس موحدة، لا نرى وجوههم في لقطات قريبة قط، ويبدو أنهم ينتوون شرا بهذه القرية المسالمة التي أصبح محور الحياة فيها “بقرة حسن”.
وعندما يغيب حسن ذات يوم عن القرية، تعثر زوجته على البقرة ميتة وقد سال الدم من فمها فملأ الحظيرة. ترى من الذي قد قتل البقرة؟ وما الذي حدث بالضبط؟ هل هم “البولوريون”، أي الأعداء من سكان القرية الأخرى المجاورة؟ هل ماتت البقرة قضاء وقدرا؟ لا أحد يمكنه الإجابة عن هذا السؤال. لكن الجميع يخشون أن يُصدم حسن بالنبأ فيتفقون على إخفاء الأمر عنه، ويقومون بدفن البقرة في البئر القديمة، ويعتقلون شابا يعاني من التخلف الذهني، يقيدون حركته حتى لا يبوح بالسرّ لحسن، ويتفقون على أن يقولوا لحسن إن بقرته هربت. وعندما يعود حسن، يراقبه الجميع من بعيد، من داخل البيوت، ومن وراء الستر، ومن الكوات الصغيرة أعلى المنازل البدائية المشيّدة من الطين، يتفاداه الرجال، وتشيح عنه النساء، خشية أن تفلت من أحدهم إشارة تكشف السر. وعندما يعلمونه بهروب البقرة يرفض تصديق الأمر، ويصرّ على أن بقرته لا يمكن أن تهرب. إنه مؤمن بها وبولائها إيمانا عميقا.
بقرة حسن
يحتجب حسن، ويقيم داخل الحظيرة، يتصرّف مثل البقرة، يمضغ القش مثلها في فمه، يتقمّصها تماما، ويردّد لأصدقائه الذين يتطلعون في ذهول إلى ما بلغه من تدهور بعد امتناعه عن تناول الطعام والشراب، أن البقرة لم تهرب بل هي موجودة وأنه هو بقرة حسن، وأن حسن نفسه هناك فوق السطح، يراقب حتى لا يهجم البلوريون بغتة ليسرقوا البقرة. وعندما تفشل كل محاولاتهم لإقناع حسن بالكفّ عن هذيانه، يقررون نقله إلى مستشفى المدينة، فيقيدونه كما لو كان حيوانا، ويجرونه بالقوة وهو يقاوم، ثم ينهال عليه أخلص أصدقائه ضربا بالسوط، ويسوقه، تماما كما تساق الأبقار، وحينما يصل الغضب بحسن إلى ذروته، يحرر نفسه بقوة من قيوده، وينطلق ليسقط من فوق الجبل ويلقى مصيره.
يموت حسن، ويظلّ اللغز قائما. هل البقرة حقيقة أم مجاز، وما معنى أن تفقد القرية البقرة الوحيدة الحلوب التي تجود عليهم بالخير؟ لقد فشل كل عجائز القرية في إنقاذ حسن من حالته عن طريق التعاويذ، ولكن القرية رغم اجتماع أهلها على ضرورة القيام بشيء من أجل إنقاذ حسن، إلا أنهم تعاملوا مع الموقف بقدر من السلبية، فأخذوا يتخبّطون يمينا ويسارا، بل بدوا في وقت ما وكأنهم يصدّقون أن “حسن” لم يعد نفسه بل أصبح بالفعل “بقرة حسن”. ورغم المأساة التي وقعت أمام عيونهم، ما زال أهل القرية قادرين على الاحتفال بعروس جديدة تقوم النساء بتزيينها وإعدادها لليلة العرس.
وجود “حسن” مرتبط بوجود البقرة، وعندما تغيب البقرة، يحلّ حسن في بقرته الغائبة، ويصبح هو البقرة، يتلبسه سلوكها وشخصيتها، رافضا أن يواجه الحقيقة، فالبقرة رمز الحياة والاستمرارية عن طريق الإنجاب، وإذا أقر بموتها فإنه يقر بموته أيضا.
بلاغة الأسلوب
كان أسلوب الإخراج شديد التميز، في استخدام التصوير البديع (بالأبيض والأسود)، في توزيع الكتل والظلال بطريقة موحية، واستخراج كل ما يمكن من دلالات بصرية ورمزية من المكان.. ومن حيث الطابع الواقعي اعتمد المخرج على التصوير المباشر في المواقع الطبيعية، وأشرك أهل القرية الحقيقيين في التمثيل، بعد أن خلط معهم الممثلين المحترفين، وأدار التصوير بحيث جعل الطبيعة الصامتة كأنها شاهد على الحدث، مع استخدام الزوايا المرتفعة، ولقطات “الكلوز أب” القريبة للوجوه، وتصوير العلاقة البديعة بين الإنسان والحيوان، مع بعض الإضافات التي ترتبط بالأسطورة الراسخة في الأدب الفارسي، وتحميل الموضوع أبعادا ميتافيزيقية رمزية.
ولعل من أكثر عوامل نجاح الفيلم وتميزه، ذلك الأداء التمثيلي الرفيع من جانب الممثل عزت الله انتظامي في دور حسن، وهو الممثل الذي سيصبح قاسما مشتركا في كثير من أفلام مهرجوي التالية، قبل أن يغادر إيران بعد وصول الخميني إلى السلطة، ليقضي سنوات في باريس ثم يعود للعمل في إيران تحت القيود الرقابية الجديدة المشددة. والطريف أن فيلمه هذا واجه اعتراضات رسمية كثيرة في زمن الشاه، فقد اتهمه الرقيب بتقديم صورة سلبية عن الحياة في الريف.
وبعد تغير النظام ظل أيضا ممنوعا من العرض إلى أن شاهده الخميني وأبدى إعجابه به، لاعتقاده أنه كان يوجه نقدا شديدا لنظام الشاه في إهماله الريف، كما أنه غالبا، كان يرى أن البقرة هي رمز لحالة إيران نفسها في زمن الشاه، وهو تفسير آخر للفيلم.
حافظ نظام الخميني على استمرارية السينما في إيران ولكن في ظلّ قيود رقابية مشددة جديدة تتعلق بالملابس وظهور الممثلات واستبعاد معظم أنواع الأفلام (الموسيقية والعاطفية والبوليسية.. الخ) بدعوى الالتزام بالشريعة، لكن موجة أخرى من الأفلام النقدية التي تستخدم الرمز والإشارة وتكثر من إبراز الأطفال بديلا عن النساء، ظهرت، وظلت العلاقة بين السينمائيين والسلطة علاقة شدّ وجذب، ولقي الكثيرون العنت والاضطهاد، وفضّلوا العمل خارج البلاد، أو الصمت في الداخل.
....
ناقد سينمائي من مصر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.