أسعار الذهب اليوم السبت 19 يوليو 2025.. عيار 21 يسجل هذه القيمة    نائب وزير المالية للبوابة نيوز: دمج المراجعتين الخامسة والسادسة من البرنامج المصرى مع "النقد الدولي"غير مقلق    روسيا: اعتراض 13 مسيرة أوكرانية أُطلقت نحو موسكو    شروط التقدم لمدرسة نهضة مصر الثانوية للتكنولوجيا التطبيقية 2026    بعد التوقف الدولي.. حسام حسن ينتظر استئناف تصفيات أفريقيا المؤهلة لكأس العالم    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 19 يوليو 2025    أنغام تغني «أشكي لمين» وتوجه رسالة لمحمد منير بمهرجان العلمين    زينة.. عام سينمائي غير مسبوق    سوريا.. اتفاق بين الحكومة ووجهاء السويداء يضمن دخول قوات الأمن العام وحل الفصائل المسلحة    بكام طن الشعير؟.. أسعار الأرز «رفيع وعريض الحبة» اليوم السبت 19 -7-2025 ب أسواق الشرقية    «مرض عمه يشعل معسكر الزمالك».. أحمد فتوح يظهر «متخفيًا» في حفل راغب علامة رفقة إمام عاشور (فيديو)    زوج البلوجر هدير عبد الرازق: «ضربتها علشان بتشرب مخدرات»    إصابة 4 أشخاص في تصادم سيارتين بطريق نوي شبين القناطر بالقليوبية    حضور الخطيب وظهور الصفقات الجديدة.. 15 صورة لأبرز لقطات مران الأهلي الأول تونس    هدنة 72 ساعة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس وموعد انخفاض درجات الحرارة    أول ظهور ل رزان مغربي بعد حادث سقوط السقف عليها.. ورسالة مؤثرة من مدير أعمالها    35 عرضًًا تتنافس في الدورة ال 18 للمهرجان القومي    الحرف التراثية ودورها في الحفاظ على الهوية المصرية ضمن فعاليات ثقافية بسوهاج    استعلم عن نتيجة تنسيق رياض الأطفال ب الجيزة 2025.. الرابط الرسمي والمستندات المطلوبة    ترامب يتوقع إنهاء حرب غزة ويعلن تدمير القدرات النووية الإيرانية    «شعب لا يُشترى ولا يُزيّف».. معلق فلسطيني يدعم موقف الأهلي ضد وسام أبوعلي    تنسيق الثانوية العامة 2025 الجيزة للناجحين في الشهادة الإعدادية (رابط التقديم)    مستقبل وطن بسوهاج يطلق خطة دعم مرشحيه لمجلس الشيوخ ب9 مؤتمرات    كل ما تريد معرفته عن مهرجان «كلاسيك أوبن إير» ببرلين    مصدر أمني يكشف حقيقة سرقة الأسوار الحديدية من أعلى «الدائري» بالجيزة    رئيس حكومة لبنان: نعمل على حماية بلدنا من الانجرار لأي مغامرة جديدة    عميد طب جامعة أسيوط: لم نتوصل لتشخيص الحالة المرضية لوالد «أطفال دلجا»    مطران نقادة يلقي عظة روحية في العيد الثالث للابس الروح (فيدىو)    كيف تضمن معاشا إضافيا بعد سن التقاعد    بشكل مفاجئ، الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يحذف البيان الخاص بوسام أبو علي    "صديق رونالدو".. النصر يعلن تعيين خوسيه سيميدو رئيسا تنفيذيا لشركة الكرة    ستوري نجوم كرة القدم.. ناصر منسي يتذكر هدفه الحاسم بالأهلي.. وظهور صفقة الزمالك الجديدة    تحت شعار كامل العدد، التهامي وفتحي سلامة يفتتحان المهرجان الصيفي بالأوبرا (صور)    من المستشفى إلى المسرح، حسام حبيب يتحدى الإصابة ويغني بالعكاز في موسم جدة 2025 (فيديو)    تطورات جديدة في واقعة "بائع العسلية" بالمحلة، حجز والد الطفل لهذا السبب    الكرملين: تسوية الأزمة الأوكرانية وتطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن موضوعان مختلفان    داعية إسلامي يهاجم أحمد كريمة بسبب «الرقية الشرعية» (فيديو)    مصرع طفلة غرقًا في مصرف زراعي بقرية بني صالح في الفيوم    انتشال جثة شاب غرق في مياه الرياح التوفيقي بطوخ    انتهت.. عبده يحيى مهاجم غزل المحلة ينتقل لصفوف سموخة على سبيل الإعاراة    «زي النهارده».. وفاة اللواء عمر سليمان 19 يوليو 2012    5 أبراج على موعد مع فرص مهنية مميزة: مجتهدون يجذبون اهتمام مدرائهم وأفكارهم غير تقليدية    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية ببداية الأسبوع السبت 19 يوليو 2025    أحمد كريمة عن العلاج ب الحجامة: «كذب ودجل» (فيديو)    سعر المانجو والموز والفاكهة ب الأسواق اليوم السبت 19 يوليو 2025    تعاني من الأرق؟ هذه التمارين قد تكون مفتاح نومك الهادئ    أبرزها الزنجبيل.. 5 طرق طبيعية لعلاج الصداع النصفي    خبير اقتصادي: رسوم ترامب تهدد سلاسل الإمداد العالمية وتفاقم أزمة الديون    ب37.6 ألف ميجاوات.. الشبكة الموحدة للكهرباء تحقق أقصى ارتفاع في الأحمال هذ العام    كسر بماسورة مياه الشرب في شبرا الخيمة.. والمحافظة: عودة ضخ بشكل طبيعي    ما حكم رفع اليدين بالدعاء أثناء خطبة الجمعة؟.. الإفتاء توضح    "القومي للمرأة" يستقبل وفدًا من اتحاد "بشبابها" التابع لوزارة الشباب والرياضة    الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن جوريون بصاروخ باليستي فرط صوتي    وزير الخارجية اللبنانى لنظيره الأيرلندى: نطلب دعم بلدكم لتجديد "اليونيفيل"    5 طرق فعالة للتغلب على الكسل واستعادة نشاطك اليومي    أصيب بنفس الأعراض.. نقل والد الأشقاء الخمسة المتوفين بالمنيا إلى المستشفى    عبد السند يمامة عن استشهاده بآية قرآنية: قصدت من «وفدا» الدعاء.. وهذا سبب هجوم الإخوان ضدي    هل مساعدة الزوجة لزوجها ماليا تعتبر صدقة؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هلوسات علي كنعان بعيداً من دمشق
نشر في صوت البلد يوم 01 - 08 - 2016

ارتبطَ الشكل الشعري العربي الجديد منذ تجارب قصيدة التفعيلة أواخر الأربعينات وصولاً إلى قصيدة النثر راهناً، بعدد من الظواهر النقدية التي تتعلق غالبيتها بقضايا المثاقفة والانفتاح على الآخر، سواء في الشكل الفني أو في خصائص أسلوبية داخل المضمون نفسه، وكان توظيف الأساطير الأوروبية، الإغريقية والرومانية تحديداً، في بواكير قصيدة التفعيلة أحد أكثر تلك القضايا تعقيداً، إذ صاحبها جدل نقدي كثير حول الجدوى الفنية، ومعيار المستوى التعبيري لتوظيف تلك الأساطير. وقد حاول جبرا إبراهيم جبرا ومنذ وقت مبكر إعادة مقاربتها من طبيعة الثقافة المشرقية من خلال تشديده على أهميتها في الشعر العربي الحديث، فأشارَ إلى من أسماهم «الشعراء التموزيين» وذلك في دراسة نشرها في مجلة شعر حزيران (يونيو) 1958، عن ديوان يوسف الخال «البئر المهجورة» وفيها رأى جبرا أن الخال نفسه إلى جانب السياب، وخليل حاوي، وأدونيس، هم المؤسسون للتوجه نحو أسطورة الخصب والانبعاث في القصيدة. واعتبر أنَّ هذا التوظيف يأتي بديلاً نوعياً لحالة الجدب والموت التي أعقبت نكبة فلسطين! حتى أنه رأى في صورة تموز في شعر الخال رمزاً للمسيح وقيامته.
علي كنعان الشاعر السوري القريب، زمناً، من شعر ذلك الجيل وثقافته يحتفي في ديوانه الجديد «غيوم الخشخاش (دار التكوين - دمشق) بهذا الميراث «الريادي» ويحشِّدُ أساطير الحب والحرب من شتى الحضارات القديمة، للتعبير عن مأزق اللحظة: «إينانا طيف أندلسي/ قيثارةُ وَجدٍ من فيحاءِ الشام/ ربَّةُ عشق إغريقي/ وجنونُ أميرٍ طرواديِّ/ آثرَ أنْ يبحرَ في لُججِ الإعصار/ يتحدَّى ربَّاتِ الإغواء/ ويعانقَ حمَّى أوليس». لكن المعضلة الفنية لدى شاعر «أسئلة للرياح» تتجلى في طبيعة الأسطورة نفسها، في هيمنة صورتها النمطية المستقرة في الذاكرة، فبدا كمن يحاول أن يظهر لنا الجانب الآخر من العملة، بينما تبقى الأسطورة هي ذاتها، ليس ثمة انحرافٌ حاد أو حاسمٌ في بنيتها أو دلالتها، مهما حاول الشاعر سحبها نحو راهن اللحظة أو حتى تاريخه الشخصي، من هنا صعوبة التخلص من الوطأة التقليدية للأساطير وانعكاسها على صفاء الشعر، ومقاربتها بحيث لا تأتي تتمَّة شكلية أو زخرفة أسلوبية أو تضمينية، والمهمة الصعبة للشاعر في تلك المقاربة تتمثَّل في قدرته على إجبارنا على نسيان تاريخ الأسطورة نفسها، أو على الأقل يدفعنا إلى تقصِّي ظلالها بإيحاء خفي في النص، لا أن يعرِّفنا بها في عبارات متتالية، مهمَّته أنه يقتلها داخل قصيدته، ليجعلها نوعاً من الأضحية، كي تحيا أسطورته الشخصية.
قصيدة التداعي المنظَّم
يقدِّم علي كنعان لديوانه بعبارة «قصائد هطلت بعيداً عن دمشق»، ويصفها ب "هواجس ورؤى وهلوسات" وعدا عمَّا تحمله الغيوم من دلالة مزدوجة، فإن الخشخاش يوحي هو الآخر إيحاء مزدوجاً، لوناً وتأثيراً، فالخشخاش السوري ذو لون أحمر، وتأثيراته الكيميائية تحرض على إطلاق بواطن اللاوعي، ليوحي بأنَّ الكتابة تتدفق تحت تأثير جرعة عالية من هذا النبات المريب، وهو ما يحيل إلى المقدَّمة عن «الهلوسات والهواجس» التي توحي بكتابة تلقائية، من منطقة اللاوعي، لكن الذهن حاضر هنا بقوَّة، والقصائد أقرب للتداعي المنظَّم بتراكيب نحوية ذهنية ومحكمة، وبلاغة مدروسة.
ولعلَّ الجرعة الزائدة تتجلى لدى القارئ، وهو حيالَ شعر متخم بأسماء الأعلام والأماكن، ولو تمَّت فهرسة هذه الحشود من الأساطير وإحصاؤها لشكَّلتْ مادةً إضافية لا يستهان بها، هذا الضغط المبالغ فيه من الإحالات والترصيعات والاستطراد الواعي ينفي تلك الإشارة في المقدمة عن الهلوسات والرؤى، ويحيلها إلى كتابة ذهنية واعية لا تنقصها الصرامة وحتى التخطيط المحكم: «أقولُ لإيزيس/ أقصدُ هيلينَ/ شيرينَ/ أو بنيلوب/ ربَّما شهرزاد القصيدة/ يوجعُني كَعْبُ آخيلَ/ أحنو على جُرحِ هكتور/ تعصفُ ريحُ الحسومِ بأوصاله/ وتُجرجرُ جثمانَهُ حولَ أسوار قلبي».
في المحتوى العام للديوان ثمة موضوعان أساسيان يحكمان مناخ قصائد الديوان: الحب والحرب. وزمنياً هناك قسمان: قصائد مكتوبة قبل ما عرف بالربيع العربي 2011، والقسم الآخر بعده، وهذا التقسيم يتيح مقارنة بين الحالة النفسية لشاعر، بين قصائد تحتفي بالحب، وأخرى ترثي الأمكنة التي دمرتها الحرب، وإنْ كانت شعلةُ الحبّ أكثرَ حضوراً من نيران الحروب، فالشاعر «يأمل» منذ أولى قصائد الديوان «ترانيم لأميرة طروادة» بأن يكون الحب بديلاً تاريخياً عن الحرب: «أميرة طروادةِ الحلم/ والياسمينِ الدمشقيِّ/ فِردوس رُوحي.../ الدماءُ التي هدرتها الحروبُ/ شهودٌ على كلِّ طاغيةٍ مولعٍ باغتيالِ الفَرَحْ»
وعندما يتكشف المصير التراجيدي للمدن التاريخية إزاء الموت، فإنَّ شعر علي كنعان ينكشف هو الآخر ليغدو أكثر صراحة وأقل ترميزاً وأقنعة، معبَّراً عن بوحٍ أعزل متخفِّف إلى حد ما من أثقال الأساطير فيدوِّن الفجيعة بعريها وعرائها: «يا مزرعة الموتِ التي/ كانَ اسمُها سوريا/ مرِّي كإعصارِ الجحيم/ على عظامي وعظامِ الآخرين/ وانسفي رميمَها/ عبرَ البحار/ فكلُّ ما تبقى/ من حُلمِنا القديم/ ندوبُ أجيالٍ من الرماد».
رومانسية الحبّ العذري
الحبّ في غيوم الخشخاش أقرب إلى الرومنطيقية، شعوراً وأداءً فنياً، وإذا كان الشاعر الرومنطيقي يفكِّر من خلال الأشياء وعناصر الطبيعة ومشهدها، فإن كنعان، العاشق الثمانيني الذي لم يدركه السأم، حين يستعير الأساطير، والأسماء التراثية، والوقائع الكبرى من التاريخ، يضفي رومانسية مركبة على أجوائه الشعرية. فتتجلى الرومنطيقية صورة أخرى للحب الحائر بين العذري والصوفي، بيد أن ثمة تبايناً بين الحبّ العذري والصوفي، الأوَّل: ألم، وأمل، وربما خيبة، والثاني زهد واكتفاء وراحة، لذلك فإن شعر الحب العذري عادة ما يكون نشداناً ورسائل تدعو إلى الوصال، بينما التصوُّف يعني امتلاء بالمحبوب بلا مسافة، والتماهي مع ذلك الحبيب كأنَّ وصاله حتمي ونهائي وحقيقي، وعلي كنعان سبق أن ترجم لنا «فن الهوى» لأوفيد في عنوان إشكالي: «قيثارة حب» وأوفيد كان عاشقاً إروسياً، معبّراً عن تجربة حسية بل إنه منفاه كان بسبب قصَّة حب محرّمة وخطرة مع حفيدة الإمبراطور، وكتابه لا يخلو من إغواء وتهتك صريحين، بما لا يتناسب مع الدلالة الرومانسية التي تنطوي عليها «القيثارة» وما تحمله من مناجاة شجية.
تحت ظلال هذه الحيرة بين العذري والصوفي، تبدو امرأة صاحب «أطياف من لياليها» أسطورية مفخَّمة: هيلين، أنانا، فينوس، شهرزاد، عشتروت، لونا... إلخ. والأخيرة تتردَّدُ كثيراً في قصائد كنعان، بما يمكننا من وصفها بالرمز المركزي للمرأة التي تدور في فلكها بقية النساء كوصيفات، ولونا في الأساطير الرومانية ربَّة القمر: إنها المُنادى لا الملموس، امرأة ليلية، بمعنى أنها مقترنة بالظهور في الليل بما يحمله من شحنة رومانسية، وليست امرأة النهار، ولهذا فغالبية قصائد «غيوم الخشخاش» هي ابتهالات ومناجاة عن بُعد، وحتى عندما تحضر «لونا» في مناسبة صباحية نادرة فلكي تعيدَ الشيخ إلى ماضيه الشخصي وطفولته: «تباركُ لونا صباحي/ بفيضِ عذوبتِها الآسرة/ وتمزجُ لي قهوتي برحيقِ اللبان/ أرتدُّ طفلاً شقيَّاً يغاوي صباها/ لعلَّ فراشات لونا تحنُّ عليهِ»
بهذا المعنى فهي تجمع بين الرمز والواقع، بين الشخصي والأسطوري، إنها تشبه «عائشة» عبدالوهاب البياتي وهو يتحدث عن «بستان لونا» ليتداعى للذاكرة «بستان عائشة» وكلتاهما، كناية عن تجليات متعددة لنساء في صورة امرأة، وبالعكس، وتجسدان تحولات المرأة العابرة للأزمنة.
«غيوم الخشخاش» مشهد لبرهة حرجة في هدأة من العمر بين أمل العاشق وألم المهاجر، بين سحر الأسطورة وسموّها وإسفاف السياسة وألاعيبها، يستجمعُ فيها الشاعر، على ساحل طويل، موجات متعددة تلتمع عليها ظلال من نساء ومدن وأحلام، عله يستعيد بها تلك العاصفة التي لم تكتمل.
ارتبطَ الشكل الشعري العربي الجديد منذ تجارب قصيدة التفعيلة أواخر الأربعينات وصولاً إلى قصيدة النثر راهناً، بعدد من الظواهر النقدية التي تتعلق غالبيتها بقضايا المثاقفة والانفتاح على الآخر، سواء في الشكل الفني أو في خصائص أسلوبية داخل المضمون نفسه، وكان توظيف الأساطير الأوروبية، الإغريقية والرومانية تحديداً، في بواكير قصيدة التفعيلة أحد أكثر تلك القضايا تعقيداً، إذ صاحبها جدل نقدي كثير حول الجدوى الفنية، ومعيار المستوى التعبيري لتوظيف تلك الأساطير. وقد حاول جبرا إبراهيم جبرا ومنذ وقت مبكر إعادة مقاربتها من طبيعة الثقافة المشرقية من خلال تشديده على أهميتها في الشعر العربي الحديث، فأشارَ إلى من أسماهم «الشعراء التموزيين» وذلك في دراسة نشرها في مجلة شعر حزيران (يونيو) 1958، عن ديوان يوسف الخال «البئر المهجورة» وفيها رأى جبرا أن الخال نفسه إلى جانب السياب، وخليل حاوي، وأدونيس، هم المؤسسون للتوجه نحو أسطورة الخصب والانبعاث في القصيدة. واعتبر أنَّ هذا التوظيف يأتي بديلاً نوعياً لحالة الجدب والموت التي أعقبت نكبة فلسطين! حتى أنه رأى في صورة تموز في شعر الخال رمزاً للمسيح وقيامته.
علي كنعان الشاعر السوري القريب، زمناً، من شعر ذلك الجيل وثقافته يحتفي في ديوانه الجديد «غيوم الخشخاش (دار التكوين - دمشق) بهذا الميراث «الريادي» ويحشِّدُ أساطير الحب والحرب من شتى الحضارات القديمة، للتعبير عن مأزق اللحظة: «إينانا طيف أندلسي/ قيثارةُ وَجدٍ من فيحاءِ الشام/ ربَّةُ عشق إغريقي/ وجنونُ أميرٍ طرواديِّ/ آثرَ أنْ يبحرَ في لُججِ الإعصار/ يتحدَّى ربَّاتِ الإغواء/ ويعانقَ حمَّى أوليس». لكن المعضلة الفنية لدى شاعر «أسئلة للرياح» تتجلى في طبيعة الأسطورة نفسها، في هيمنة صورتها النمطية المستقرة في الذاكرة، فبدا كمن يحاول أن يظهر لنا الجانب الآخر من العملة، بينما تبقى الأسطورة هي ذاتها، ليس ثمة انحرافٌ حاد أو حاسمٌ في بنيتها أو دلالتها، مهما حاول الشاعر سحبها نحو راهن اللحظة أو حتى تاريخه الشخصي، من هنا صعوبة التخلص من الوطأة التقليدية للأساطير وانعكاسها على صفاء الشعر، ومقاربتها بحيث لا تأتي تتمَّة شكلية أو زخرفة أسلوبية أو تضمينية، والمهمة الصعبة للشاعر في تلك المقاربة تتمثَّل في قدرته على إجبارنا على نسيان تاريخ الأسطورة نفسها، أو على الأقل يدفعنا إلى تقصِّي ظلالها بإيحاء خفي في النص، لا أن يعرِّفنا بها في عبارات متتالية، مهمَّته أنه يقتلها داخل قصيدته، ليجعلها نوعاً من الأضحية، كي تحيا أسطورته الشخصية.
قصيدة التداعي المنظَّم
يقدِّم علي كنعان لديوانه بعبارة «قصائد هطلت بعيداً عن دمشق»، ويصفها ب "هواجس ورؤى وهلوسات" وعدا عمَّا تحمله الغيوم من دلالة مزدوجة، فإن الخشخاش يوحي هو الآخر إيحاء مزدوجاً، لوناً وتأثيراً، فالخشخاش السوري ذو لون أحمر، وتأثيراته الكيميائية تحرض على إطلاق بواطن اللاوعي، ليوحي بأنَّ الكتابة تتدفق تحت تأثير جرعة عالية من هذا النبات المريب، وهو ما يحيل إلى المقدَّمة عن «الهلوسات والهواجس» التي توحي بكتابة تلقائية، من منطقة اللاوعي، لكن الذهن حاضر هنا بقوَّة، والقصائد أقرب للتداعي المنظَّم بتراكيب نحوية ذهنية ومحكمة، وبلاغة مدروسة.
ولعلَّ الجرعة الزائدة تتجلى لدى القارئ، وهو حيالَ شعر متخم بأسماء الأعلام والأماكن، ولو تمَّت فهرسة هذه الحشود من الأساطير وإحصاؤها لشكَّلتْ مادةً إضافية لا يستهان بها، هذا الضغط المبالغ فيه من الإحالات والترصيعات والاستطراد الواعي ينفي تلك الإشارة في المقدمة عن الهلوسات والرؤى، ويحيلها إلى كتابة ذهنية واعية لا تنقصها الصرامة وحتى التخطيط المحكم: «أقولُ لإيزيس/ أقصدُ هيلينَ/ شيرينَ/ أو بنيلوب/ ربَّما شهرزاد القصيدة/ يوجعُني كَعْبُ آخيلَ/ أحنو على جُرحِ هكتور/ تعصفُ ريحُ الحسومِ بأوصاله/ وتُجرجرُ جثمانَهُ حولَ أسوار قلبي».
في المحتوى العام للديوان ثمة موضوعان أساسيان يحكمان مناخ قصائد الديوان: الحب والحرب. وزمنياً هناك قسمان: قصائد مكتوبة قبل ما عرف بالربيع العربي 2011، والقسم الآخر بعده، وهذا التقسيم يتيح مقارنة بين الحالة النفسية لشاعر، بين قصائد تحتفي بالحب، وأخرى ترثي الأمكنة التي دمرتها الحرب، وإنْ كانت شعلةُ الحبّ أكثرَ حضوراً من نيران الحروب، فالشاعر «يأمل» منذ أولى قصائد الديوان «ترانيم لأميرة طروادة» بأن يكون الحب بديلاً تاريخياً عن الحرب: «أميرة طروادةِ الحلم/ والياسمينِ الدمشقيِّ/ فِردوس رُوحي.../ الدماءُ التي هدرتها الحروبُ/ شهودٌ على كلِّ طاغيةٍ مولعٍ باغتيالِ الفَرَحْ»
وعندما يتكشف المصير التراجيدي للمدن التاريخية إزاء الموت، فإنَّ شعر علي كنعان ينكشف هو الآخر ليغدو أكثر صراحة وأقل ترميزاً وأقنعة، معبَّراً عن بوحٍ أعزل متخفِّف إلى حد ما من أثقال الأساطير فيدوِّن الفجيعة بعريها وعرائها: «يا مزرعة الموتِ التي/ كانَ اسمُها سوريا/ مرِّي كإعصارِ الجحيم/ على عظامي وعظامِ الآخرين/ وانسفي رميمَها/ عبرَ البحار/ فكلُّ ما تبقى/ من حُلمِنا القديم/ ندوبُ أجيالٍ من الرماد».
رومانسية الحبّ العذري
الحبّ في غيوم الخشخاش أقرب إلى الرومنطيقية، شعوراً وأداءً فنياً، وإذا كان الشاعر الرومنطيقي يفكِّر من خلال الأشياء وعناصر الطبيعة ومشهدها، فإن كنعان، العاشق الثمانيني الذي لم يدركه السأم، حين يستعير الأساطير، والأسماء التراثية، والوقائع الكبرى من التاريخ، يضفي رومانسية مركبة على أجوائه الشعرية. فتتجلى الرومنطيقية صورة أخرى للحب الحائر بين العذري والصوفي، بيد أن ثمة تبايناً بين الحبّ العذري والصوفي، الأوَّل: ألم، وأمل، وربما خيبة، والثاني زهد واكتفاء وراحة، لذلك فإن شعر الحب العذري عادة ما يكون نشداناً ورسائل تدعو إلى الوصال، بينما التصوُّف يعني امتلاء بالمحبوب بلا مسافة، والتماهي مع ذلك الحبيب كأنَّ وصاله حتمي ونهائي وحقيقي، وعلي كنعان سبق أن ترجم لنا «فن الهوى» لأوفيد في عنوان إشكالي: «قيثارة حب» وأوفيد كان عاشقاً إروسياً، معبّراً عن تجربة حسية بل إنه منفاه كان بسبب قصَّة حب محرّمة وخطرة مع حفيدة الإمبراطور، وكتابه لا يخلو من إغواء وتهتك صريحين، بما لا يتناسب مع الدلالة الرومانسية التي تنطوي عليها «القيثارة» وما تحمله من مناجاة شجية.
تحت ظلال هذه الحيرة بين العذري والصوفي، تبدو امرأة صاحب «أطياف من لياليها» أسطورية مفخَّمة: هيلين، أنانا، فينوس، شهرزاد، عشتروت، لونا... إلخ. والأخيرة تتردَّدُ كثيراً في قصائد كنعان، بما يمكننا من وصفها بالرمز المركزي للمرأة التي تدور في فلكها بقية النساء كوصيفات، ولونا في الأساطير الرومانية ربَّة القمر: إنها المُنادى لا الملموس، امرأة ليلية، بمعنى أنها مقترنة بالظهور في الليل بما يحمله من شحنة رومانسية، وليست امرأة النهار، ولهذا فغالبية قصائد «غيوم الخشخاش» هي ابتهالات ومناجاة عن بُعد، وحتى عندما تحضر «لونا» في مناسبة صباحية نادرة فلكي تعيدَ الشيخ إلى ماضيه الشخصي وطفولته: «تباركُ لونا صباحي/ بفيضِ عذوبتِها الآسرة/ وتمزجُ لي قهوتي برحيقِ اللبان/ أرتدُّ طفلاً شقيَّاً يغاوي صباها/ لعلَّ فراشات لونا تحنُّ عليهِ»
بهذا المعنى فهي تجمع بين الرمز والواقع، بين الشخصي والأسطوري، إنها تشبه «عائشة» عبدالوهاب البياتي وهو يتحدث عن «بستان لونا» ليتداعى للذاكرة «بستان عائشة» وكلتاهما، كناية عن تجليات متعددة لنساء في صورة امرأة، وبالعكس، وتجسدان تحولات المرأة العابرة للأزمنة.
«غيوم الخشخاش» مشهد لبرهة حرجة في هدأة من العمر بين أمل العاشق وألم المهاجر، بين سحر الأسطورة وسموّها وإسفاف السياسة وألاعيبها، يستجمعُ فيها الشاعر، على ساحل طويل، موجات متعددة تلتمع عليها ظلال من نساء ومدن وأحلام، عله يستعيد بها تلك العاصفة التي لم تكتمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.