«الجزارين عارفين الكلام ده».. نقيب الفلاحين: سعر كيلو اللحمة الحية لا يزيد عن 165 جنيهًا    معلق مباراة برشلونة وليفانتي في الدوري الإسباني    «جمارك القاهرة» تحبط محاولات تهريب عملات أثرية ومخدرات وزمرد وشهادات مزورة    جمهور ويجز يتوافد لحضور حفله في مهرجان العلمين الجديدة (صور)    قفزا في الترعة.. ضبط متهمين بسرقة الدراجات البخارية وتجارة المخدرات بسوهاج    بطولة وفداء.. عامل مزلقان للسكة الحديد ببني سويف ينقذ حياة شاب من الموت المحقق تحت قضبان قطار    ترامب: نفعل ما بوسعنا للإفراج عن الرهائن بغزة    اليوم الأول بدوري القسم الثاني.. تعادل كفر الزيات والسكة الحديد والإنتاج يحسمها بثنائية    السفير حسام زكي: التحركات الإسرائيلية في غزة مرفوضة وتعيدنا إلى ما قبل 2005    بالمجاميع.. مواعيد اختبارات الهيئة والقبول بمدارس التمريض في مطروح (تفاصيل)    تطور جديد في مستقبل دوناروما.. وكيله يظهر في مانشستر سيتي    رابطة الأندية تعلن تعديل مواعيد وملاعب 7 مباريات في الدوري    رضوى الشربيني تعلق على عودة حسام حبيب ل شيرين عبدالوهاب: «يا ألف خسارة»    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    الخارجية الفلسطينية: استباحة الاحتلال والمستوطنين للضفة الغربية انتهاك صارخ وتكريس لمخططات التهويد والضم    ترامب يعلن موعد قرعة كأس العالم 2026 في أمريكا    ترامب: الوضع الراهن في غزة يجب أن ينتهي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل    كندا تتراجع عن الرسوم الجمركية العقابية على السلع الأمريكية    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    موعد إجازة المولد النبوي 2025 للقطاعين الحكومي والخاص (رسميًا)    رواية مختلقة.. وزارة الداخلية تكشف حقيقة تعدي شخص على جارته    الإيجار القديم والبكالوريا والأحزاب.. وزير الشؤون النيابية يوضح مواقف الحكومة    مدرب توتنهام: لا مكان لمن لا يريد ارتداء شعارنا    خسارة سيدات الطائرة أمام صاحب الأرض ببطولة العالم بتايلاند    الوادي الجديد تطلق منصة إلكترونية للترويج السياحي والحرف اليدوية    صراع الخير والشر في عرض مدينة الأحلام بالمهرجان الختامي لشرائح ونوادي مسرح الطفل    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    إسلام عفيفى يكتب: الصفقات المرفوضة وتحالفات الضرورة    لغة لا تساوى وزنها علفًا    «التنظيم والإدارة» يعلن توقف الامتحانات بمركز تقييم القدرات.. لهذا السبب    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    بعد مداهمة وكر التسول.. حملات مكثفة لغلق فتحات الكباري بالجيزة| صور    محمود فوزي: الحكومة جادة في تطبيق قانون الإيجار القديم وحماية الفئات الضعيفة    المجاعة تهدد نصف مليون في غزة.. كيف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؟    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    حماس: تصريحات كاتس «اعتراف بجرم يرقى للتطهير العرقي»    نجاح عملية دقيقة لاستئصال ورم بالمخ وقاع الجمجمة بمستشفى العامرية العام بالإسكندرية    عميد طب القصر العيني يتابع جاهزية البنية التحتية استعدادًا لانطلاق العام الدراسي    لمرضى السكري - اعتاد على تناول زبدة الفول السوداني في هذا التوقيت    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    بالأرقام.. الأمن الاقتصادي يضبط آلاف القضايا خلال 24 ساعة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    الاقتصاد المصرى يتعافى    الداخلية تكشف تفاصيل اقتحام منزل والتعدي على أسرة بالغربية    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هلوسات علي كنعان بعيداً من دمشق
نشر في صوت البلد يوم 01 - 08 - 2016

ارتبطَ الشكل الشعري العربي الجديد منذ تجارب قصيدة التفعيلة أواخر الأربعينات وصولاً إلى قصيدة النثر راهناً، بعدد من الظواهر النقدية التي تتعلق غالبيتها بقضايا المثاقفة والانفتاح على الآخر، سواء في الشكل الفني أو في خصائص أسلوبية داخل المضمون نفسه، وكان توظيف الأساطير الأوروبية، الإغريقية والرومانية تحديداً، في بواكير قصيدة التفعيلة أحد أكثر تلك القضايا تعقيداً، إذ صاحبها جدل نقدي كثير حول الجدوى الفنية، ومعيار المستوى التعبيري لتوظيف تلك الأساطير. وقد حاول جبرا إبراهيم جبرا ومنذ وقت مبكر إعادة مقاربتها من طبيعة الثقافة المشرقية من خلال تشديده على أهميتها في الشعر العربي الحديث، فأشارَ إلى من أسماهم «الشعراء التموزيين» وذلك في دراسة نشرها في مجلة شعر حزيران (يونيو) 1958، عن ديوان يوسف الخال «البئر المهجورة» وفيها رأى جبرا أن الخال نفسه إلى جانب السياب، وخليل حاوي، وأدونيس، هم المؤسسون للتوجه نحو أسطورة الخصب والانبعاث في القصيدة. واعتبر أنَّ هذا التوظيف يأتي بديلاً نوعياً لحالة الجدب والموت التي أعقبت نكبة فلسطين! حتى أنه رأى في صورة تموز في شعر الخال رمزاً للمسيح وقيامته.
علي كنعان الشاعر السوري القريب، زمناً، من شعر ذلك الجيل وثقافته يحتفي في ديوانه الجديد «غيوم الخشخاش (دار التكوين - دمشق) بهذا الميراث «الريادي» ويحشِّدُ أساطير الحب والحرب من شتى الحضارات القديمة، للتعبير عن مأزق اللحظة: «إينانا طيف أندلسي/ قيثارةُ وَجدٍ من فيحاءِ الشام/ ربَّةُ عشق إغريقي/ وجنونُ أميرٍ طرواديِّ/ آثرَ أنْ يبحرَ في لُججِ الإعصار/ يتحدَّى ربَّاتِ الإغواء/ ويعانقَ حمَّى أوليس». لكن المعضلة الفنية لدى شاعر «أسئلة للرياح» تتجلى في طبيعة الأسطورة نفسها، في هيمنة صورتها النمطية المستقرة في الذاكرة، فبدا كمن يحاول أن يظهر لنا الجانب الآخر من العملة، بينما تبقى الأسطورة هي ذاتها، ليس ثمة انحرافٌ حاد أو حاسمٌ في بنيتها أو دلالتها، مهما حاول الشاعر سحبها نحو راهن اللحظة أو حتى تاريخه الشخصي، من هنا صعوبة التخلص من الوطأة التقليدية للأساطير وانعكاسها على صفاء الشعر، ومقاربتها بحيث لا تأتي تتمَّة شكلية أو زخرفة أسلوبية أو تضمينية، والمهمة الصعبة للشاعر في تلك المقاربة تتمثَّل في قدرته على إجبارنا على نسيان تاريخ الأسطورة نفسها، أو على الأقل يدفعنا إلى تقصِّي ظلالها بإيحاء خفي في النص، لا أن يعرِّفنا بها في عبارات متتالية، مهمَّته أنه يقتلها داخل قصيدته، ليجعلها نوعاً من الأضحية، كي تحيا أسطورته الشخصية.
قصيدة التداعي المنظَّم
يقدِّم علي كنعان لديوانه بعبارة «قصائد هطلت بعيداً عن دمشق»، ويصفها ب "هواجس ورؤى وهلوسات" وعدا عمَّا تحمله الغيوم من دلالة مزدوجة، فإن الخشخاش يوحي هو الآخر إيحاء مزدوجاً، لوناً وتأثيراً، فالخشخاش السوري ذو لون أحمر، وتأثيراته الكيميائية تحرض على إطلاق بواطن اللاوعي، ليوحي بأنَّ الكتابة تتدفق تحت تأثير جرعة عالية من هذا النبات المريب، وهو ما يحيل إلى المقدَّمة عن «الهلوسات والهواجس» التي توحي بكتابة تلقائية، من منطقة اللاوعي، لكن الذهن حاضر هنا بقوَّة، والقصائد أقرب للتداعي المنظَّم بتراكيب نحوية ذهنية ومحكمة، وبلاغة مدروسة.
ولعلَّ الجرعة الزائدة تتجلى لدى القارئ، وهو حيالَ شعر متخم بأسماء الأعلام والأماكن، ولو تمَّت فهرسة هذه الحشود من الأساطير وإحصاؤها لشكَّلتْ مادةً إضافية لا يستهان بها، هذا الضغط المبالغ فيه من الإحالات والترصيعات والاستطراد الواعي ينفي تلك الإشارة في المقدمة عن الهلوسات والرؤى، ويحيلها إلى كتابة ذهنية واعية لا تنقصها الصرامة وحتى التخطيط المحكم: «أقولُ لإيزيس/ أقصدُ هيلينَ/ شيرينَ/ أو بنيلوب/ ربَّما شهرزاد القصيدة/ يوجعُني كَعْبُ آخيلَ/ أحنو على جُرحِ هكتور/ تعصفُ ريحُ الحسومِ بأوصاله/ وتُجرجرُ جثمانَهُ حولَ أسوار قلبي».
في المحتوى العام للديوان ثمة موضوعان أساسيان يحكمان مناخ قصائد الديوان: الحب والحرب. وزمنياً هناك قسمان: قصائد مكتوبة قبل ما عرف بالربيع العربي 2011، والقسم الآخر بعده، وهذا التقسيم يتيح مقارنة بين الحالة النفسية لشاعر، بين قصائد تحتفي بالحب، وأخرى ترثي الأمكنة التي دمرتها الحرب، وإنْ كانت شعلةُ الحبّ أكثرَ حضوراً من نيران الحروب، فالشاعر «يأمل» منذ أولى قصائد الديوان «ترانيم لأميرة طروادة» بأن يكون الحب بديلاً تاريخياً عن الحرب: «أميرة طروادةِ الحلم/ والياسمينِ الدمشقيِّ/ فِردوس رُوحي.../ الدماءُ التي هدرتها الحروبُ/ شهودٌ على كلِّ طاغيةٍ مولعٍ باغتيالِ الفَرَحْ»
وعندما يتكشف المصير التراجيدي للمدن التاريخية إزاء الموت، فإنَّ شعر علي كنعان ينكشف هو الآخر ليغدو أكثر صراحة وأقل ترميزاً وأقنعة، معبَّراً عن بوحٍ أعزل متخفِّف إلى حد ما من أثقال الأساطير فيدوِّن الفجيعة بعريها وعرائها: «يا مزرعة الموتِ التي/ كانَ اسمُها سوريا/ مرِّي كإعصارِ الجحيم/ على عظامي وعظامِ الآخرين/ وانسفي رميمَها/ عبرَ البحار/ فكلُّ ما تبقى/ من حُلمِنا القديم/ ندوبُ أجيالٍ من الرماد».
رومانسية الحبّ العذري
الحبّ في غيوم الخشخاش أقرب إلى الرومنطيقية، شعوراً وأداءً فنياً، وإذا كان الشاعر الرومنطيقي يفكِّر من خلال الأشياء وعناصر الطبيعة ومشهدها، فإن كنعان، العاشق الثمانيني الذي لم يدركه السأم، حين يستعير الأساطير، والأسماء التراثية، والوقائع الكبرى من التاريخ، يضفي رومانسية مركبة على أجوائه الشعرية. فتتجلى الرومنطيقية صورة أخرى للحب الحائر بين العذري والصوفي، بيد أن ثمة تبايناً بين الحبّ العذري والصوفي، الأوَّل: ألم، وأمل، وربما خيبة، والثاني زهد واكتفاء وراحة، لذلك فإن شعر الحب العذري عادة ما يكون نشداناً ورسائل تدعو إلى الوصال، بينما التصوُّف يعني امتلاء بالمحبوب بلا مسافة، والتماهي مع ذلك الحبيب كأنَّ وصاله حتمي ونهائي وحقيقي، وعلي كنعان سبق أن ترجم لنا «فن الهوى» لأوفيد في عنوان إشكالي: «قيثارة حب» وأوفيد كان عاشقاً إروسياً، معبّراً عن تجربة حسية بل إنه منفاه كان بسبب قصَّة حب محرّمة وخطرة مع حفيدة الإمبراطور، وكتابه لا يخلو من إغواء وتهتك صريحين، بما لا يتناسب مع الدلالة الرومانسية التي تنطوي عليها «القيثارة» وما تحمله من مناجاة شجية.
تحت ظلال هذه الحيرة بين العذري والصوفي، تبدو امرأة صاحب «أطياف من لياليها» أسطورية مفخَّمة: هيلين، أنانا، فينوس، شهرزاد، عشتروت، لونا... إلخ. والأخيرة تتردَّدُ كثيراً في قصائد كنعان، بما يمكننا من وصفها بالرمز المركزي للمرأة التي تدور في فلكها بقية النساء كوصيفات، ولونا في الأساطير الرومانية ربَّة القمر: إنها المُنادى لا الملموس، امرأة ليلية، بمعنى أنها مقترنة بالظهور في الليل بما يحمله من شحنة رومانسية، وليست امرأة النهار، ولهذا فغالبية قصائد «غيوم الخشخاش» هي ابتهالات ومناجاة عن بُعد، وحتى عندما تحضر «لونا» في مناسبة صباحية نادرة فلكي تعيدَ الشيخ إلى ماضيه الشخصي وطفولته: «تباركُ لونا صباحي/ بفيضِ عذوبتِها الآسرة/ وتمزجُ لي قهوتي برحيقِ اللبان/ أرتدُّ طفلاً شقيَّاً يغاوي صباها/ لعلَّ فراشات لونا تحنُّ عليهِ»
بهذا المعنى فهي تجمع بين الرمز والواقع، بين الشخصي والأسطوري، إنها تشبه «عائشة» عبدالوهاب البياتي وهو يتحدث عن «بستان لونا» ليتداعى للذاكرة «بستان عائشة» وكلتاهما، كناية عن تجليات متعددة لنساء في صورة امرأة، وبالعكس، وتجسدان تحولات المرأة العابرة للأزمنة.
«غيوم الخشخاش» مشهد لبرهة حرجة في هدأة من العمر بين أمل العاشق وألم المهاجر، بين سحر الأسطورة وسموّها وإسفاف السياسة وألاعيبها، يستجمعُ فيها الشاعر، على ساحل طويل، موجات متعددة تلتمع عليها ظلال من نساء ومدن وأحلام، عله يستعيد بها تلك العاصفة التي لم تكتمل.
ارتبطَ الشكل الشعري العربي الجديد منذ تجارب قصيدة التفعيلة أواخر الأربعينات وصولاً إلى قصيدة النثر راهناً، بعدد من الظواهر النقدية التي تتعلق غالبيتها بقضايا المثاقفة والانفتاح على الآخر، سواء في الشكل الفني أو في خصائص أسلوبية داخل المضمون نفسه، وكان توظيف الأساطير الأوروبية، الإغريقية والرومانية تحديداً، في بواكير قصيدة التفعيلة أحد أكثر تلك القضايا تعقيداً، إذ صاحبها جدل نقدي كثير حول الجدوى الفنية، ومعيار المستوى التعبيري لتوظيف تلك الأساطير. وقد حاول جبرا إبراهيم جبرا ومنذ وقت مبكر إعادة مقاربتها من طبيعة الثقافة المشرقية من خلال تشديده على أهميتها في الشعر العربي الحديث، فأشارَ إلى من أسماهم «الشعراء التموزيين» وذلك في دراسة نشرها في مجلة شعر حزيران (يونيو) 1958، عن ديوان يوسف الخال «البئر المهجورة» وفيها رأى جبرا أن الخال نفسه إلى جانب السياب، وخليل حاوي، وأدونيس، هم المؤسسون للتوجه نحو أسطورة الخصب والانبعاث في القصيدة. واعتبر أنَّ هذا التوظيف يأتي بديلاً نوعياً لحالة الجدب والموت التي أعقبت نكبة فلسطين! حتى أنه رأى في صورة تموز في شعر الخال رمزاً للمسيح وقيامته.
علي كنعان الشاعر السوري القريب، زمناً، من شعر ذلك الجيل وثقافته يحتفي في ديوانه الجديد «غيوم الخشخاش (دار التكوين - دمشق) بهذا الميراث «الريادي» ويحشِّدُ أساطير الحب والحرب من شتى الحضارات القديمة، للتعبير عن مأزق اللحظة: «إينانا طيف أندلسي/ قيثارةُ وَجدٍ من فيحاءِ الشام/ ربَّةُ عشق إغريقي/ وجنونُ أميرٍ طرواديِّ/ آثرَ أنْ يبحرَ في لُججِ الإعصار/ يتحدَّى ربَّاتِ الإغواء/ ويعانقَ حمَّى أوليس». لكن المعضلة الفنية لدى شاعر «أسئلة للرياح» تتجلى في طبيعة الأسطورة نفسها، في هيمنة صورتها النمطية المستقرة في الذاكرة، فبدا كمن يحاول أن يظهر لنا الجانب الآخر من العملة، بينما تبقى الأسطورة هي ذاتها، ليس ثمة انحرافٌ حاد أو حاسمٌ في بنيتها أو دلالتها، مهما حاول الشاعر سحبها نحو راهن اللحظة أو حتى تاريخه الشخصي، من هنا صعوبة التخلص من الوطأة التقليدية للأساطير وانعكاسها على صفاء الشعر، ومقاربتها بحيث لا تأتي تتمَّة شكلية أو زخرفة أسلوبية أو تضمينية، والمهمة الصعبة للشاعر في تلك المقاربة تتمثَّل في قدرته على إجبارنا على نسيان تاريخ الأسطورة نفسها، أو على الأقل يدفعنا إلى تقصِّي ظلالها بإيحاء خفي في النص، لا أن يعرِّفنا بها في عبارات متتالية، مهمَّته أنه يقتلها داخل قصيدته، ليجعلها نوعاً من الأضحية، كي تحيا أسطورته الشخصية.
قصيدة التداعي المنظَّم
يقدِّم علي كنعان لديوانه بعبارة «قصائد هطلت بعيداً عن دمشق»، ويصفها ب "هواجس ورؤى وهلوسات" وعدا عمَّا تحمله الغيوم من دلالة مزدوجة، فإن الخشخاش يوحي هو الآخر إيحاء مزدوجاً، لوناً وتأثيراً، فالخشخاش السوري ذو لون أحمر، وتأثيراته الكيميائية تحرض على إطلاق بواطن اللاوعي، ليوحي بأنَّ الكتابة تتدفق تحت تأثير جرعة عالية من هذا النبات المريب، وهو ما يحيل إلى المقدَّمة عن «الهلوسات والهواجس» التي توحي بكتابة تلقائية، من منطقة اللاوعي، لكن الذهن حاضر هنا بقوَّة، والقصائد أقرب للتداعي المنظَّم بتراكيب نحوية ذهنية ومحكمة، وبلاغة مدروسة.
ولعلَّ الجرعة الزائدة تتجلى لدى القارئ، وهو حيالَ شعر متخم بأسماء الأعلام والأماكن، ولو تمَّت فهرسة هذه الحشود من الأساطير وإحصاؤها لشكَّلتْ مادةً إضافية لا يستهان بها، هذا الضغط المبالغ فيه من الإحالات والترصيعات والاستطراد الواعي ينفي تلك الإشارة في المقدمة عن الهلوسات والرؤى، ويحيلها إلى كتابة ذهنية واعية لا تنقصها الصرامة وحتى التخطيط المحكم: «أقولُ لإيزيس/ أقصدُ هيلينَ/ شيرينَ/ أو بنيلوب/ ربَّما شهرزاد القصيدة/ يوجعُني كَعْبُ آخيلَ/ أحنو على جُرحِ هكتور/ تعصفُ ريحُ الحسومِ بأوصاله/ وتُجرجرُ جثمانَهُ حولَ أسوار قلبي».
في المحتوى العام للديوان ثمة موضوعان أساسيان يحكمان مناخ قصائد الديوان: الحب والحرب. وزمنياً هناك قسمان: قصائد مكتوبة قبل ما عرف بالربيع العربي 2011، والقسم الآخر بعده، وهذا التقسيم يتيح مقارنة بين الحالة النفسية لشاعر، بين قصائد تحتفي بالحب، وأخرى ترثي الأمكنة التي دمرتها الحرب، وإنْ كانت شعلةُ الحبّ أكثرَ حضوراً من نيران الحروب، فالشاعر «يأمل» منذ أولى قصائد الديوان «ترانيم لأميرة طروادة» بأن يكون الحب بديلاً تاريخياً عن الحرب: «أميرة طروادةِ الحلم/ والياسمينِ الدمشقيِّ/ فِردوس رُوحي.../ الدماءُ التي هدرتها الحروبُ/ شهودٌ على كلِّ طاغيةٍ مولعٍ باغتيالِ الفَرَحْ»
وعندما يتكشف المصير التراجيدي للمدن التاريخية إزاء الموت، فإنَّ شعر علي كنعان ينكشف هو الآخر ليغدو أكثر صراحة وأقل ترميزاً وأقنعة، معبَّراً عن بوحٍ أعزل متخفِّف إلى حد ما من أثقال الأساطير فيدوِّن الفجيعة بعريها وعرائها: «يا مزرعة الموتِ التي/ كانَ اسمُها سوريا/ مرِّي كإعصارِ الجحيم/ على عظامي وعظامِ الآخرين/ وانسفي رميمَها/ عبرَ البحار/ فكلُّ ما تبقى/ من حُلمِنا القديم/ ندوبُ أجيالٍ من الرماد».
رومانسية الحبّ العذري
الحبّ في غيوم الخشخاش أقرب إلى الرومنطيقية، شعوراً وأداءً فنياً، وإذا كان الشاعر الرومنطيقي يفكِّر من خلال الأشياء وعناصر الطبيعة ومشهدها، فإن كنعان، العاشق الثمانيني الذي لم يدركه السأم، حين يستعير الأساطير، والأسماء التراثية، والوقائع الكبرى من التاريخ، يضفي رومانسية مركبة على أجوائه الشعرية. فتتجلى الرومنطيقية صورة أخرى للحب الحائر بين العذري والصوفي، بيد أن ثمة تبايناً بين الحبّ العذري والصوفي، الأوَّل: ألم، وأمل، وربما خيبة، والثاني زهد واكتفاء وراحة، لذلك فإن شعر الحب العذري عادة ما يكون نشداناً ورسائل تدعو إلى الوصال، بينما التصوُّف يعني امتلاء بالمحبوب بلا مسافة، والتماهي مع ذلك الحبيب كأنَّ وصاله حتمي ونهائي وحقيقي، وعلي كنعان سبق أن ترجم لنا «فن الهوى» لأوفيد في عنوان إشكالي: «قيثارة حب» وأوفيد كان عاشقاً إروسياً، معبّراً عن تجربة حسية بل إنه منفاه كان بسبب قصَّة حب محرّمة وخطرة مع حفيدة الإمبراطور، وكتابه لا يخلو من إغواء وتهتك صريحين، بما لا يتناسب مع الدلالة الرومانسية التي تنطوي عليها «القيثارة» وما تحمله من مناجاة شجية.
تحت ظلال هذه الحيرة بين العذري والصوفي، تبدو امرأة صاحب «أطياف من لياليها» أسطورية مفخَّمة: هيلين، أنانا، فينوس، شهرزاد، عشتروت، لونا... إلخ. والأخيرة تتردَّدُ كثيراً في قصائد كنعان، بما يمكننا من وصفها بالرمز المركزي للمرأة التي تدور في فلكها بقية النساء كوصيفات، ولونا في الأساطير الرومانية ربَّة القمر: إنها المُنادى لا الملموس، امرأة ليلية، بمعنى أنها مقترنة بالظهور في الليل بما يحمله من شحنة رومانسية، وليست امرأة النهار، ولهذا فغالبية قصائد «غيوم الخشخاش» هي ابتهالات ومناجاة عن بُعد، وحتى عندما تحضر «لونا» في مناسبة صباحية نادرة فلكي تعيدَ الشيخ إلى ماضيه الشخصي وطفولته: «تباركُ لونا صباحي/ بفيضِ عذوبتِها الآسرة/ وتمزجُ لي قهوتي برحيقِ اللبان/ أرتدُّ طفلاً شقيَّاً يغاوي صباها/ لعلَّ فراشات لونا تحنُّ عليهِ»
بهذا المعنى فهي تجمع بين الرمز والواقع، بين الشخصي والأسطوري، إنها تشبه «عائشة» عبدالوهاب البياتي وهو يتحدث عن «بستان لونا» ليتداعى للذاكرة «بستان عائشة» وكلتاهما، كناية عن تجليات متعددة لنساء في صورة امرأة، وبالعكس، وتجسدان تحولات المرأة العابرة للأزمنة.
«غيوم الخشخاش» مشهد لبرهة حرجة في هدأة من العمر بين أمل العاشق وألم المهاجر، بين سحر الأسطورة وسموّها وإسفاف السياسة وألاعيبها، يستجمعُ فيها الشاعر، على ساحل طويل، موجات متعددة تلتمع عليها ظلال من نساء ومدن وأحلام، عله يستعيد بها تلك العاصفة التي لم تكتمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.