بالفيديو.. موعد نتيجة الثانوية العامة 2025 وبشرى سارة للطلاب    هل حسمت القائمة الوطنية من أجل مصر 100 مقعد بمجلس الشيوخ؟    «الأرصاد» تحذر: طقس اليوم شديد الحرارة على معظم الأنحاء    «حقوق القاهرة» تنظم دورة قانونية متخصصة حول الاستثمار العقاري    تحديث سعر الدولار اليوم بمستهل تعاملات السبت 19 يوليو 2025    أسعار الأسماك اليوم السبت 19 يوليو في سوق العبور للجملة    أسعار البيض اليوم السبت 19 يوليو 2025    رئيس هيئة البترول يتفقد منطقة أسيوط لمتابعة جاهزية المشروعات    أسعار حديد التسليح فى مستهل تعاملات اليوم السبت    "نتنياهو" و "الانتحار السياسي"    هيجسيث يؤكد تدمير المواقع النووية الثلاثة في إيران بضربات أمريكية    دخول الحزمة ال18 من عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا حيز التنفيذ    مجزرة إسرائيلية جديدة.. 30 شهيدا و70 مصابا من منتظرى المساعدات برفح    بيسكوف: لا معلومات لدينا حول لقاء محتمل بين بوتين وترامب وشي جين بينج    الزمالك يوضح حقيقة انقطاع فتوح عن معسكر الفريق    غيط: الإسماعيلي مهدد بخصم 9 نقاط من رصيده ثم الهبوط.. ويحتاج ل 1.8 مليون دولار    طقس مطروح اليوم السبت.. حار رطب نهارا والحرارة 30 مئوية ورياح متقطعة    متخصصة فى الذكاء الاصطناعى.. شروط التقدم لمدرسة أبدا الوطنية للتكنولوجيا    تعرف على الحالة المرورية بالطرق السريعة بالقليوبية| اليوم    هيو جاكمان يظهر في الجزء الجديد من فيلم Deadpool    مين عملها أحسن؟ حديث طريف بين حسين فهمي وياسر جلال عن شخصية "شهريار" (فيديو)    بحضور سيدة لبنان الأولى ونجوم الفن.. حفل زفاف أسطوري لنجل إيلي صعب (فيديو)    رئيس هيئة الرعاية الصحية يلتقي الرئيس الإقليمي لشركة جانسن بمصر والأردن والسودان وليبيا وأثيوبيا    نائب وزير المالية للبوابة نيوز: دمج المراجعتين الخامسة والسادسة من البرنامج المصرى مع "النقد الدولي"غير مقلق    بعد التوقف الدولي.. حسام حسن ينتظر استئناف تصفيات أفريقيا المؤهلة لكأس العالم    زينة.. عام سينمائي غير مسبوق    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 19 يوليو 2025    الكرملين : لا معلومات بشأن لقاء بين بوتين وترامب والرئيس الصيني في بكين سبتمبر المقبل    «مرض عمه يشعل معسكر الزمالك».. أحمد فتوح يظهر «متخفيًا» في حفل راغب علامة رفقة إمام عاشور (فيديو)    أول ظهور ل رزان مغربي بعد حادث سقوط السقف عليها.. ورسالة مؤثرة من مدير أعمالها    الحرف التراثية ودورها في الحفاظ على الهوية المصرية ضمن فعاليات ثقافية بسوهاج    وسام أبو علي| من هاتريك المجد إلى بوابة الخروج من الأهلي.. أبرز محطات النجم الفلسطيني    ترامب يتوقع إنهاء حرب غزة ويعلن تدمير القدرات النووية الإيرانية    عيار 21 يترقب مفاجآت.. أسعار الذهب والسبائك اليوم في الصاغة وتوقعات بارتفاعات كبيرة    رئيس حكومة لبنان: نعمل على حماية بلدنا من الانجرار لأي مغامرة جديدة    مصدر أمني يكشف حقيقة سرقة الأسوار الحديدية من أعلى «الدائري» بالجيزة    كل ما تريد معرفته عن مهرجان «كلاسيك أوبن إير» ببرلين    عميد طب جامعة أسيوط: لم نتوصل لتشخيص الحالة المرضية لوالد «أطفال دلجا»    ستوري نجوم كرة القدم.. ناصر منسي يتذكر هدفه الحاسم بالأهلي.. وظهور صفقة الزمالك الجديدة    تطورات جديدة في واقعة "بائع العسلية" بالمحلة، حجز والد الطفل لهذا السبب    مطران نقادة يلقي عظة روحية في العيد الثالث للابس الروح (فيدىو)    تحت شعار كامل العدد، التهامي وفتحي سلامة يفتتحان المهرجان الصيفي بالأوبرا (صور)    بشكل مفاجئ، الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يحذف البيان الخاص بوسام أبو علي    "صديق رونالدو".. النصر يعلن تعيين خوسيه سيميدو رئيسا تنفيذيا لشركة الكرة    مصرع طفلة غرقًا في مصرف زراعي بقرية بني صالح في الفيوم    داعية إسلامي يهاجم أحمد كريمة بسبب «الرقية الشرعية» (فيديو)    انتشال جثة شاب غرق في مياه الرياح التوفيقي بطوخ    أحمد كريمة عن العلاج ب الحجامة: «كذب ودجل» (فيديو)    «زي النهارده».. وفاة اللواء عمر سليمان 19 يوليو 2012    5 أبراج على موعد مع فرص مهنية مميزة: مجتهدون يجذبون اهتمام مدرائهم وأفكارهم غير تقليدية    تعاني من الأرق؟ هذه التمارين قد تكون مفتاح نومك الهادئ    أبرزها الزنجبيل.. 5 طرق طبيعية لعلاج الصداع النصفي    اليوم.. الاستماع لمرافعة النيابة في قضية «مجموعات العمل النوعي»    ما حكم رفع اليدين بالدعاء أثناء خطبة الجمعة؟.. الإفتاء توضح    "القومي للمرأة" يستقبل وفدًا من اتحاد "بشبابها" التابع لوزارة الشباب والرياضة    5 طرق فعالة للتغلب على الكسل واستعادة نشاطك اليومي    عبد السند يمامة عن استشهاده بآية قرآنية: قصدت من «وفدا» الدعاء.. وهذا سبب هجوم الإخوان ضدي    هل مساعدة الزوجة لزوجها ماليا تعتبر صدقة؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طه حسين .. جدل الحداثة والتقليد
نشر في صوت البلد يوم 17 - 07 - 2016

على رغم تأكيد عميد الأدب العربي طه حسين أنه «رجل شديد الأثرة، أحبّ أن أكون واضحا لمعاصريَّ ولمن يجيئون على أثري وضوحاً تاماً في جميع ما اختلفَ على نفسي من أطوار» - كما قال في مقدمة كتابه «تجديد ذكرى أبي العلاء» - فإنه ما من شخصية فكرية حديثة أو معاصرة أثارت، قدراً كبيراً من الجدل والالتباس على نحو ما أثارت شخصية طه حسين في أطواره كلها منذ أن كان صبياً يتلقّى تعليمه الأول في كُتَّاب القرية، ومروراً بتمرده على التعليم الديني التقليدي - الأزهري، وليس انتهاء بطبيعة كتاباته - وفي مقدمها كتابه «في الشعر الجاهلي، 1926» - وما أثارته من جدل عام لا يزال ممتداً إلى اليوم.
وإلى اليوم لا يزال بعض من الأكاديميين المختصّين ب «الأدب العربي» يردّدون المقولات - الاتهامات القديمة ذاتها في ما يتعلق بالكتاب - القضية «في الشعر الجاهلي» فيتهمون طه حسين بالسطو على كلام مرغليوث، أو محمد بن سلام الجمحي أو رينيه ديكارت ومنهجه الشكِّي... إلخ. لكن بموازاة ذلك، تطورت نظرة البعض الآخر - في ما يتعلق برؤية طه حسين لانتحال الشعر الجاهلي - ابتداء من القول أنه كان يستلهم آراءه من تراث نقدي واسع النطاق اسمه «التراث الوضعي» في نقد الشعر الجاهلي، ومروراً بتكوين صورة أدق عن هذا التراث وعن اطلاع طه حسين عليه وتأثره به، وتأكيد أنّ التراث المعني إنما هو تراث «النقد التاريخي» بصفة عامة، إذ لا يقتصر على الشعر الجاهلي، فضلاً عن أن علاقة طه حسين بهذا التراث قد بدأت مبكراً جداً في حياته منذ أن كان طالباً في الجامعة المصرية، وبلغت ذروتها أثناء دراسته في جامعة السوربون عندما تتلمذ على يد شارل سينوبوس، أحد الذين وضعوا قواعد «المنهج الوضعي في دراسة التاريخ» اعتماداً على روافد نقدية عدة، من بينها الرافد الريناني الذي يجسد في طبيعته التيار الفيلولوجي.
ضمن هذا السياق يأتي كتاب الدكتور عبدالرشيد محمودي بعنوان: «طه حسين بين السياج والمرايا» في طبعته الثانية (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015)، والذي يضم بين دفتيه مجموعة من الأبحاث والمقالات المتعلقة بطه حسين، والتي تتابعت وتيرتها لنحو خمسة وأربعين عاماً (منذ عام 1973 حتى الآن). ولا شك في أن عدداً كبيراً من مقالات الكاتب تنصرف إلى معالجة «قضية الشعر الجاهلي»، حيث خصص لها الكاتب الباب الثاني من كتابه (ص 90 - 140)، فضلاً عن أنها تكشف عن هذا التوتر الحي النابض في شخصية طه حسين، بل بالأحرى ذلك الصراع المحتدم الذي كان يدور في نفسه ما بين اتجاهين كبيرين يجذبانه بعنف: تيارا التقليد والحداثة.
وكان الكاتب أبان عن ذلك الجانب بصورة خاصة في كتاب له صدر عام 2002 بعنوان: «طه حسين من الأزهر إلى السوربون»، لكنه أضاف إلى كتابه هذا «طه حسين بين السياج والمرايا» في طبعته الثانية ثلاث مقالات جديدة هي: «طه حسين من وجهة نظر فلسفية»، و «النزعة الإنسانية عند طه حسين»، و «طه حسين وتوماس هاردي».
وبالعودة إلى قضية الشعر الجاهلي، يؤكد الكاتب في مقالة مطولة بعنوان: «مسار طه حسين من الدهشة إلى الشك»، أن الرجوع إلى ديكارت لم يكن إلا خطوة واحدة، وخطوة أولى. وقد ابتدأ الكتاب مقالته بالرجوع إلى مقالة أخرى للدكتور جلال أمين نشرت في مجلة الهلال بعنوان: «بمن تأثر طه حسين؟»، وافق فيها محمودي في ما يتعلق بمصادر طه حسين في الشعر الجاهلي، خاصة الفكرة التي مؤدّاها أن ما يُسمّى بالشعر الجاهلي قد وُضع معظمه بعد ظهور الإسلام!
وفي الأحوال كلها، ينتهي الكاتب - من خلال تتبعه مسار طه حسين وتطور نظرته لقضية الشعر الجاهلي - إلى إثبات بعض النتائج المهمة، وفي مقدمها: أن طه حسين قد توصل إلى نظريته تلك بمعزل عن آراء المستشرق الإنكليزي مرغليوث؛ كما عبّر عنها في مقالته «نشأة الشعر الجاهلي» (حزيران - يونيو 1952). وأن البذور الأولى لشكوك طه حسين، في ما يتعلق بصحة الشعر الجاهلي، إنما تعود إلى حقبة مبكرة جداً في حياته الأدبية (1908 - 1914)، وإلى سنة 1911 على وجه التحديد. وأن المصدر الأول لتلك الشكوك كان عبارة عن المحاضرات التي ألقاها المستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نالينو على طلاب الجامعة المصرية - ومن بينهم طه حسين – خلال العام الدراسي 1910-1911، وهي المحاضرات التي نُشرت في ما بعد تحت عنوان: «تاريخ الآداب العربية». وأن تأثير منهج الشك الديكارتي في قضية الشعر الجاهلي حقيقي بالفعل، لكنه جاء متأخراً ومحدوداً.
من جهة أخرى، كان مصطفى صادق الرافعي أشار في كتابه «تاريخ آداب العرب» الذي نشر الجزء الأول منه عام 1911، ونقده طه حسين في العام التالي، إلى أن المصدر الأول لشكوك طه حسين المبكرة في الشعر الجاهلي هو آراء محمد بن سلام الجمحي، لكن الكاتب يرد على ذلك الاتهام بمقالة لطه حسين صدرت في الجريدة بتاريخ 17 أيار (مايو) 1911 بعنوان: «الآداب العربية في الجامعة»، تؤكد علم طه حسين بآراء ابن سلام، وأنه لم يستمد معرفته بها من كتاب الرافعي لأن الكتاب لم يكن قد صدر بعد، ما يعني أن علم طه حسين بالشكوك التي تحيط بالتراث الجاهلي أقدم بكثير مما يتخيله البعض، وأنه كان على علم بآراء ابن سلام الجمحي، إذ يقول في سياق رده على صاحب الرافعي ما نصّه: «هوِّن عليك أيها الكاتب، فلستَ وحدك الذي تنفرد بعلم الآداب. فقد قرأنا مثلك ودرسنا على أساتذة لم تدرس عليهم وعرفنا أن محمد بن سلام ينكر هذه الأخبار والأشعار ويراها من وضع ابن إسحاق، صاحب المغازي».
في عام 1912، قدِم المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون إلى القاهرة ليحاضر في الجامعة المصرية الناشئة حول «تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية». وفي العام التالي أعدّ ماسينيون تقريراً لاحظ فيه أن طلابه ينقسمون إلى فئتين: الأولى من خريجي المدارس الحكومية الذين اطلعوا على الأفكار العصرية، لكنهم لم يتعلموا المناهج الأوروبية إلا بطريقة سطحية، فضلاً عن أنهم تلقوا هذا الإعداد الفكري باللغة الإنكليزية من دون أن تُتاح لهم أدنى فرصة للتفكير بلغتهم الأصلية. والفئة الثانية من خريجي جامعة الأزهر ممن يجهلون الأفكار والمناهج الأوروبية تماماً، لكنهم يتمتعون بميزة كبرى، ألا وهي أنهم تعلموا التفكير بلغتهم الأصلية.
وكان ماسينيون يبدي ميلاً إلى الفئة الثانية عن الأولى، وبالفعل استطاع ممثلو هذه الفئة وفي مقدمهم الشيخ الأكبر مصطفى عبدالرازق (1885 – 1947)، وطه حسين، ومحمد يوسف موسى (1899 – 1963) وغيرهم أن يجمعوا ما بين ثقافة الأزهر والتعليم الديني التقليدي من جهة، وثقافة الغرب العصرية بمناهجها العلمية المختلفة من جهة أخرى، وأن يخرجوا لنا من هذين العنصرين مزيجاً رائقاً يجمع ما بين الأصالة والمعاصرة من دون أن يطغى أحد العنصرين على حساب الآخر.
واسترعى طه حسين انتباه لويس ماسينيون فكتب يقول عنه ذات مرة: «وكان من دواعي ارتياحي أنني وجدت بين تلاميذنا عقلاً في المرتبة الأولى، ضريراً ذا بصيرة نفّاذة، هو الشيخ طه حسين». كما كان اقتناع ماسينيون بمحمد يوسف موسى سبباً في اختياره خبيراً في لجنة الميتافيزيقا - الفلسفة في المجمع اللغوي بالقاهرة وهو لا يزال طالباً يدرس بفرنسا! وبعد عودته عرض عليه طه حسين أن يعمل في الجامعة المصرية، فأجابه بأنه لا يرضى عن الأزهر بديلاً! فقال له طه حسين: لن يُقدِّرك الأزهر! فقال: لا أريد غير الأزهر. وبالفعل صدقت نبوءة طه حسين، إذ سرعان ما اشتد الخلاف بين محمد يوسف موسى وشيوخ الأزهر التقليديين، وانتهى الأمر بقبوله ترشيح بعض أساتذة كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، لشغل وظيفة أستاذ مساعد للشريعة في كلية الحقوق بعد أن أصابه اليأس والإحباط من إصلاح الأزهر: جامعاً وجامعة!
على رغم تأكيد عميد الأدب العربي طه حسين أنه «رجل شديد الأثرة، أحبّ أن أكون واضحا لمعاصريَّ ولمن يجيئون على أثري وضوحاً تاماً في جميع ما اختلفَ على نفسي من أطوار» - كما قال في مقدمة كتابه «تجديد ذكرى أبي العلاء» - فإنه ما من شخصية فكرية حديثة أو معاصرة أثارت، قدراً كبيراً من الجدل والالتباس على نحو ما أثارت شخصية طه حسين في أطواره كلها منذ أن كان صبياً يتلقّى تعليمه الأول في كُتَّاب القرية، ومروراً بتمرده على التعليم الديني التقليدي - الأزهري، وليس انتهاء بطبيعة كتاباته - وفي مقدمها كتابه «في الشعر الجاهلي، 1926» - وما أثارته من جدل عام لا يزال ممتداً إلى اليوم.
وإلى اليوم لا يزال بعض من الأكاديميين المختصّين ب «الأدب العربي» يردّدون المقولات - الاتهامات القديمة ذاتها في ما يتعلق بالكتاب - القضية «في الشعر الجاهلي» فيتهمون طه حسين بالسطو على كلام مرغليوث، أو محمد بن سلام الجمحي أو رينيه ديكارت ومنهجه الشكِّي... إلخ. لكن بموازاة ذلك، تطورت نظرة البعض الآخر - في ما يتعلق برؤية طه حسين لانتحال الشعر الجاهلي - ابتداء من القول أنه كان يستلهم آراءه من تراث نقدي واسع النطاق اسمه «التراث الوضعي» في نقد الشعر الجاهلي، ومروراً بتكوين صورة أدق عن هذا التراث وعن اطلاع طه حسين عليه وتأثره به، وتأكيد أنّ التراث المعني إنما هو تراث «النقد التاريخي» بصفة عامة، إذ لا يقتصر على الشعر الجاهلي، فضلاً عن أن علاقة طه حسين بهذا التراث قد بدأت مبكراً جداً في حياته منذ أن كان طالباً في الجامعة المصرية، وبلغت ذروتها أثناء دراسته في جامعة السوربون عندما تتلمذ على يد شارل سينوبوس، أحد الذين وضعوا قواعد «المنهج الوضعي في دراسة التاريخ» اعتماداً على روافد نقدية عدة، من بينها الرافد الريناني الذي يجسد في طبيعته التيار الفيلولوجي.
ضمن هذا السياق يأتي كتاب الدكتور عبدالرشيد محمودي بعنوان: «طه حسين بين السياج والمرايا» في طبعته الثانية (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015)، والذي يضم بين دفتيه مجموعة من الأبحاث والمقالات المتعلقة بطه حسين، والتي تتابعت وتيرتها لنحو خمسة وأربعين عاماً (منذ عام 1973 حتى الآن). ولا شك في أن عدداً كبيراً من مقالات الكاتب تنصرف إلى معالجة «قضية الشعر الجاهلي»، حيث خصص لها الكاتب الباب الثاني من كتابه (ص 90 - 140)، فضلاً عن أنها تكشف عن هذا التوتر الحي النابض في شخصية طه حسين، بل بالأحرى ذلك الصراع المحتدم الذي كان يدور في نفسه ما بين اتجاهين كبيرين يجذبانه بعنف: تيارا التقليد والحداثة.
وكان الكاتب أبان عن ذلك الجانب بصورة خاصة في كتاب له صدر عام 2002 بعنوان: «طه حسين من الأزهر إلى السوربون»، لكنه أضاف إلى كتابه هذا «طه حسين بين السياج والمرايا» في طبعته الثانية ثلاث مقالات جديدة هي: «طه حسين من وجهة نظر فلسفية»، و «النزعة الإنسانية عند طه حسين»، و «طه حسين وتوماس هاردي».
وبالعودة إلى قضية الشعر الجاهلي، يؤكد الكاتب في مقالة مطولة بعنوان: «مسار طه حسين من الدهشة إلى الشك»، أن الرجوع إلى ديكارت لم يكن إلا خطوة واحدة، وخطوة أولى. وقد ابتدأ الكتاب مقالته بالرجوع إلى مقالة أخرى للدكتور جلال أمين نشرت في مجلة الهلال بعنوان: «بمن تأثر طه حسين؟»، وافق فيها محمودي في ما يتعلق بمصادر طه حسين في الشعر الجاهلي، خاصة الفكرة التي مؤدّاها أن ما يُسمّى بالشعر الجاهلي قد وُضع معظمه بعد ظهور الإسلام!
وفي الأحوال كلها، ينتهي الكاتب - من خلال تتبعه مسار طه حسين وتطور نظرته لقضية الشعر الجاهلي - إلى إثبات بعض النتائج المهمة، وفي مقدمها: أن طه حسين قد توصل إلى نظريته تلك بمعزل عن آراء المستشرق الإنكليزي مرغليوث؛ كما عبّر عنها في مقالته «نشأة الشعر الجاهلي» (حزيران - يونيو 1952). وأن البذور الأولى لشكوك طه حسين، في ما يتعلق بصحة الشعر الجاهلي، إنما تعود إلى حقبة مبكرة جداً في حياته الأدبية (1908 - 1914)، وإلى سنة 1911 على وجه التحديد. وأن المصدر الأول لتلك الشكوك كان عبارة عن المحاضرات التي ألقاها المستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نالينو على طلاب الجامعة المصرية - ومن بينهم طه حسين – خلال العام الدراسي 1910-1911، وهي المحاضرات التي نُشرت في ما بعد تحت عنوان: «تاريخ الآداب العربية». وأن تأثير منهج الشك الديكارتي في قضية الشعر الجاهلي حقيقي بالفعل، لكنه جاء متأخراً ومحدوداً.
من جهة أخرى، كان مصطفى صادق الرافعي أشار في كتابه «تاريخ آداب العرب» الذي نشر الجزء الأول منه عام 1911، ونقده طه حسين في العام التالي، إلى أن المصدر الأول لشكوك طه حسين المبكرة في الشعر الجاهلي هو آراء محمد بن سلام الجمحي، لكن الكاتب يرد على ذلك الاتهام بمقالة لطه حسين صدرت في الجريدة بتاريخ 17 أيار (مايو) 1911 بعنوان: «الآداب العربية في الجامعة»، تؤكد علم طه حسين بآراء ابن سلام، وأنه لم يستمد معرفته بها من كتاب الرافعي لأن الكتاب لم يكن قد صدر بعد، ما يعني أن علم طه حسين بالشكوك التي تحيط بالتراث الجاهلي أقدم بكثير مما يتخيله البعض، وأنه كان على علم بآراء ابن سلام الجمحي، إذ يقول في سياق رده على صاحب الرافعي ما نصّه: «هوِّن عليك أيها الكاتب، فلستَ وحدك الذي تنفرد بعلم الآداب. فقد قرأنا مثلك ودرسنا على أساتذة لم تدرس عليهم وعرفنا أن محمد بن سلام ينكر هذه الأخبار والأشعار ويراها من وضع ابن إسحاق، صاحب المغازي».
في عام 1912، قدِم المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون إلى القاهرة ليحاضر في الجامعة المصرية الناشئة حول «تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية». وفي العام التالي أعدّ ماسينيون تقريراً لاحظ فيه أن طلابه ينقسمون إلى فئتين: الأولى من خريجي المدارس الحكومية الذين اطلعوا على الأفكار العصرية، لكنهم لم يتعلموا المناهج الأوروبية إلا بطريقة سطحية، فضلاً عن أنهم تلقوا هذا الإعداد الفكري باللغة الإنكليزية من دون أن تُتاح لهم أدنى فرصة للتفكير بلغتهم الأصلية. والفئة الثانية من خريجي جامعة الأزهر ممن يجهلون الأفكار والمناهج الأوروبية تماماً، لكنهم يتمتعون بميزة كبرى، ألا وهي أنهم تعلموا التفكير بلغتهم الأصلية.
وكان ماسينيون يبدي ميلاً إلى الفئة الثانية عن الأولى، وبالفعل استطاع ممثلو هذه الفئة وفي مقدمهم الشيخ الأكبر مصطفى عبدالرازق (1885 – 1947)، وطه حسين، ومحمد يوسف موسى (1899 – 1963) وغيرهم أن يجمعوا ما بين ثقافة الأزهر والتعليم الديني التقليدي من جهة، وثقافة الغرب العصرية بمناهجها العلمية المختلفة من جهة أخرى، وأن يخرجوا لنا من هذين العنصرين مزيجاً رائقاً يجمع ما بين الأصالة والمعاصرة من دون أن يطغى أحد العنصرين على حساب الآخر.
واسترعى طه حسين انتباه لويس ماسينيون فكتب يقول عنه ذات مرة: «وكان من دواعي ارتياحي أنني وجدت بين تلاميذنا عقلاً في المرتبة الأولى، ضريراً ذا بصيرة نفّاذة، هو الشيخ طه حسين». كما كان اقتناع ماسينيون بمحمد يوسف موسى سبباً في اختياره خبيراً في لجنة الميتافيزيقا - الفلسفة في المجمع اللغوي بالقاهرة وهو لا يزال طالباً يدرس بفرنسا! وبعد عودته عرض عليه طه حسين أن يعمل في الجامعة المصرية، فأجابه بأنه لا يرضى عن الأزهر بديلاً! فقال له طه حسين: لن يُقدِّرك الأزهر! فقال: لا أريد غير الأزهر. وبالفعل صدقت نبوءة طه حسين، إذ سرعان ما اشتد الخلاف بين محمد يوسف موسى وشيوخ الأزهر التقليديين، وانتهى الأمر بقبوله ترشيح بعض أساتذة كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، لشغل وظيفة أستاذ مساعد للشريعة في كلية الحقوق بعد أن أصابه اليأس والإحباط من إصلاح الأزهر: جامعاً وجامعة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.