عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. أسعار الذهب اليوم السبت 23 أغسطس 2025 بالصاغة    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    أبطال فيلم "وتر واحد" يشاركون ويجز تألقه على مسرح العلمين    من جلسات التدليك لمنتجعه الخاص، جيسلين ماكسويل تكشف تفاصيل مثيرة عن علاقتها بإبستين وترامب    مباراة النصر ضد الأهلي مباشر في السوبر السعودي 2025.. الموعد والقنوات والتردد    «الشمس هتغيب قبل المغرب».. كسوف الشمس الكلي يظهر في سماء 9 دول بهذا التوقيت    «عايز أشكره».. آسر ياسين يصعد على المسرح خلال حفل ويجز بمهرجان العلمين.. ما القصة؟    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    تفاصيل قطع المياه لمدة 6 ساعات في المنطقة المحصورة بين الهرم وفيصل بالجيزة    أهم الأخبار الفنية على مدار الساعة.. حسام حبيب ينفى عودته لشيرين.. 3 أفلام جديدة تقتحم شاشات السينما المصرية تباعا حتى أكتوبر.. إيرادات فيلم درويش تتجاوز ال20 مليون جنيه خلال 9 أيام عرض بالسينمات    "حضورك راقي" 11 صورة لزوجة محمد عواد والجمهور يعلق    رئيس أركان الجيش الهندي يزور الجزائر الأسبوع المقبل    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    بهدف رويز.. باريس سان جيرمان ينجو من فخ أنجيه في الدوري الفرنسي    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    العملاق مدحت صالح يبدأ حفله بمهرجان القلعة بأغنية "زى ما هى حبها"    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    المستشار القانوني للزمالك يتحدث عن.. التظلم على سحب أرض أكتوبر.. وأنباء التحقيق مع إدارة النادي    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    مراسل من دير البلح: المنطقة باتت مستباحة بالكامل تحت نيران الاحتلال    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    أول تعليق من النني بعد فوز الجزيرة على الشارقة بالدوري الإماراتي    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طه حسين .. جدل الحداثة والتقليد
نشر في صوت البلد يوم 17 - 07 - 2016

على رغم تأكيد عميد الأدب العربي طه حسين أنه «رجل شديد الأثرة، أحبّ أن أكون واضحا لمعاصريَّ ولمن يجيئون على أثري وضوحاً تاماً في جميع ما اختلفَ على نفسي من أطوار» - كما قال في مقدمة كتابه «تجديد ذكرى أبي العلاء» - فإنه ما من شخصية فكرية حديثة أو معاصرة أثارت، قدراً كبيراً من الجدل والالتباس على نحو ما أثارت شخصية طه حسين في أطواره كلها منذ أن كان صبياً يتلقّى تعليمه الأول في كُتَّاب القرية، ومروراً بتمرده على التعليم الديني التقليدي - الأزهري، وليس انتهاء بطبيعة كتاباته - وفي مقدمها كتابه «في الشعر الجاهلي، 1926» - وما أثارته من جدل عام لا يزال ممتداً إلى اليوم.
وإلى اليوم لا يزال بعض من الأكاديميين المختصّين ب «الأدب العربي» يردّدون المقولات - الاتهامات القديمة ذاتها في ما يتعلق بالكتاب - القضية «في الشعر الجاهلي» فيتهمون طه حسين بالسطو على كلام مرغليوث، أو محمد بن سلام الجمحي أو رينيه ديكارت ومنهجه الشكِّي... إلخ. لكن بموازاة ذلك، تطورت نظرة البعض الآخر - في ما يتعلق برؤية طه حسين لانتحال الشعر الجاهلي - ابتداء من القول أنه كان يستلهم آراءه من تراث نقدي واسع النطاق اسمه «التراث الوضعي» في نقد الشعر الجاهلي، ومروراً بتكوين صورة أدق عن هذا التراث وعن اطلاع طه حسين عليه وتأثره به، وتأكيد أنّ التراث المعني إنما هو تراث «النقد التاريخي» بصفة عامة، إذ لا يقتصر على الشعر الجاهلي، فضلاً عن أن علاقة طه حسين بهذا التراث قد بدأت مبكراً جداً في حياته منذ أن كان طالباً في الجامعة المصرية، وبلغت ذروتها أثناء دراسته في جامعة السوربون عندما تتلمذ على يد شارل سينوبوس، أحد الذين وضعوا قواعد «المنهج الوضعي في دراسة التاريخ» اعتماداً على روافد نقدية عدة، من بينها الرافد الريناني الذي يجسد في طبيعته التيار الفيلولوجي.
ضمن هذا السياق يأتي كتاب الدكتور عبدالرشيد محمودي بعنوان: «طه حسين بين السياج والمرايا» في طبعته الثانية (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015)، والذي يضم بين دفتيه مجموعة من الأبحاث والمقالات المتعلقة بطه حسين، والتي تتابعت وتيرتها لنحو خمسة وأربعين عاماً (منذ عام 1973 حتى الآن). ولا شك في أن عدداً كبيراً من مقالات الكاتب تنصرف إلى معالجة «قضية الشعر الجاهلي»، حيث خصص لها الكاتب الباب الثاني من كتابه (ص 90 - 140)، فضلاً عن أنها تكشف عن هذا التوتر الحي النابض في شخصية طه حسين، بل بالأحرى ذلك الصراع المحتدم الذي كان يدور في نفسه ما بين اتجاهين كبيرين يجذبانه بعنف: تيارا التقليد والحداثة.
وكان الكاتب أبان عن ذلك الجانب بصورة خاصة في كتاب له صدر عام 2002 بعنوان: «طه حسين من الأزهر إلى السوربون»، لكنه أضاف إلى كتابه هذا «طه حسين بين السياج والمرايا» في طبعته الثانية ثلاث مقالات جديدة هي: «طه حسين من وجهة نظر فلسفية»، و «النزعة الإنسانية عند طه حسين»، و «طه حسين وتوماس هاردي».
وبالعودة إلى قضية الشعر الجاهلي، يؤكد الكاتب في مقالة مطولة بعنوان: «مسار طه حسين من الدهشة إلى الشك»، أن الرجوع إلى ديكارت لم يكن إلا خطوة واحدة، وخطوة أولى. وقد ابتدأ الكتاب مقالته بالرجوع إلى مقالة أخرى للدكتور جلال أمين نشرت في مجلة الهلال بعنوان: «بمن تأثر طه حسين؟»، وافق فيها محمودي في ما يتعلق بمصادر طه حسين في الشعر الجاهلي، خاصة الفكرة التي مؤدّاها أن ما يُسمّى بالشعر الجاهلي قد وُضع معظمه بعد ظهور الإسلام!
وفي الأحوال كلها، ينتهي الكاتب - من خلال تتبعه مسار طه حسين وتطور نظرته لقضية الشعر الجاهلي - إلى إثبات بعض النتائج المهمة، وفي مقدمها: أن طه حسين قد توصل إلى نظريته تلك بمعزل عن آراء المستشرق الإنكليزي مرغليوث؛ كما عبّر عنها في مقالته «نشأة الشعر الجاهلي» (حزيران - يونيو 1952). وأن البذور الأولى لشكوك طه حسين، في ما يتعلق بصحة الشعر الجاهلي، إنما تعود إلى حقبة مبكرة جداً في حياته الأدبية (1908 - 1914)، وإلى سنة 1911 على وجه التحديد. وأن المصدر الأول لتلك الشكوك كان عبارة عن المحاضرات التي ألقاها المستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نالينو على طلاب الجامعة المصرية - ومن بينهم طه حسين – خلال العام الدراسي 1910-1911، وهي المحاضرات التي نُشرت في ما بعد تحت عنوان: «تاريخ الآداب العربية». وأن تأثير منهج الشك الديكارتي في قضية الشعر الجاهلي حقيقي بالفعل، لكنه جاء متأخراً ومحدوداً.
من جهة أخرى، كان مصطفى صادق الرافعي أشار في كتابه «تاريخ آداب العرب» الذي نشر الجزء الأول منه عام 1911، ونقده طه حسين في العام التالي، إلى أن المصدر الأول لشكوك طه حسين المبكرة في الشعر الجاهلي هو آراء محمد بن سلام الجمحي، لكن الكاتب يرد على ذلك الاتهام بمقالة لطه حسين صدرت في الجريدة بتاريخ 17 أيار (مايو) 1911 بعنوان: «الآداب العربية في الجامعة»، تؤكد علم طه حسين بآراء ابن سلام، وأنه لم يستمد معرفته بها من كتاب الرافعي لأن الكتاب لم يكن قد صدر بعد، ما يعني أن علم طه حسين بالشكوك التي تحيط بالتراث الجاهلي أقدم بكثير مما يتخيله البعض، وأنه كان على علم بآراء ابن سلام الجمحي، إذ يقول في سياق رده على صاحب الرافعي ما نصّه: «هوِّن عليك أيها الكاتب، فلستَ وحدك الذي تنفرد بعلم الآداب. فقد قرأنا مثلك ودرسنا على أساتذة لم تدرس عليهم وعرفنا أن محمد بن سلام ينكر هذه الأخبار والأشعار ويراها من وضع ابن إسحاق، صاحب المغازي».
في عام 1912، قدِم المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون إلى القاهرة ليحاضر في الجامعة المصرية الناشئة حول «تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية». وفي العام التالي أعدّ ماسينيون تقريراً لاحظ فيه أن طلابه ينقسمون إلى فئتين: الأولى من خريجي المدارس الحكومية الذين اطلعوا على الأفكار العصرية، لكنهم لم يتعلموا المناهج الأوروبية إلا بطريقة سطحية، فضلاً عن أنهم تلقوا هذا الإعداد الفكري باللغة الإنكليزية من دون أن تُتاح لهم أدنى فرصة للتفكير بلغتهم الأصلية. والفئة الثانية من خريجي جامعة الأزهر ممن يجهلون الأفكار والمناهج الأوروبية تماماً، لكنهم يتمتعون بميزة كبرى، ألا وهي أنهم تعلموا التفكير بلغتهم الأصلية.
وكان ماسينيون يبدي ميلاً إلى الفئة الثانية عن الأولى، وبالفعل استطاع ممثلو هذه الفئة وفي مقدمهم الشيخ الأكبر مصطفى عبدالرازق (1885 – 1947)، وطه حسين، ومحمد يوسف موسى (1899 – 1963) وغيرهم أن يجمعوا ما بين ثقافة الأزهر والتعليم الديني التقليدي من جهة، وثقافة الغرب العصرية بمناهجها العلمية المختلفة من جهة أخرى، وأن يخرجوا لنا من هذين العنصرين مزيجاً رائقاً يجمع ما بين الأصالة والمعاصرة من دون أن يطغى أحد العنصرين على حساب الآخر.
واسترعى طه حسين انتباه لويس ماسينيون فكتب يقول عنه ذات مرة: «وكان من دواعي ارتياحي أنني وجدت بين تلاميذنا عقلاً في المرتبة الأولى، ضريراً ذا بصيرة نفّاذة، هو الشيخ طه حسين». كما كان اقتناع ماسينيون بمحمد يوسف موسى سبباً في اختياره خبيراً في لجنة الميتافيزيقا - الفلسفة في المجمع اللغوي بالقاهرة وهو لا يزال طالباً يدرس بفرنسا! وبعد عودته عرض عليه طه حسين أن يعمل في الجامعة المصرية، فأجابه بأنه لا يرضى عن الأزهر بديلاً! فقال له طه حسين: لن يُقدِّرك الأزهر! فقال: لا أريد غير الأزهر. وبالفعل صدقت نبوءة طه حسين، إذ سرعان ما اشتد الخلاف بين محمد يوسف موسى وشيوخ الأزهر التقليديين، وانتهى الأمر بقبوله ترشيح بعض أساتذة كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، لشغل وظيفة أستاذ مساعد للشريعة في كلية الحقوق بعد أن أصابه اليأس والإحباط من إصلاح الأزهر: جامعاً وجامعة!
على رغم تأكيد عميد الأدب العربي طه حسين أنه «رجل شديد الأثرة، أحبّ أن أكون واضحا لمعاصريَّ ولمن يجيئون على أثري وضوحاً تاماً في جميع ما اختلفَ على نفسي من أطوار» - كما قال في مقدمة كتابه «تجديد ذكرى أبي العلاء» - فإنه ما من شخصية فكرية حديثة أو معاصرة أثارت، قدراً كبيراً من الجدل والالتباس على نحو ما أثارت شخصية طه حسين في أطواره كلها منذ أن كان صبياً يتلقّى تعليمه الأول في كُتَّاب القرية، ومروراً بتمرده على التعليم الديني التقليدي - الأزهري، وليس انتهاء بطبيعة كتاباته - وفي مقدمها كتابه «في الشعر الجاهلي، 1926» - وما أثارته من جدل عام لا يزال ممتداً إلى اليوم.
وإلى اليوم لا يزال بعض من الأكاديميين المختصّين ب «الأدب العربي» يردّدون المقولات - الاتهامات القديمة ذاتها في ما يتعلق بالكتاب - القضية «في الشعر الجاهلي» فيتهمون طه حسين بالسطو على كلام مرغليوث، أو محمد بن سلام الجمحي أو رينيه ديكارت ومنهجه الشكِّي... إلخ. لكن بموازاة ذلك، تطورت نظرة البعض الآخر - في ما يتعلق برؤية طه حسين لانتحال الشعر الجاهلي - ابتداء من القول أنه كان يستلهم آراءه من تراث نقدي واسع النطاق اسمه «التراث الوضعي» في نقد الشعر الجاهلي، ومروراً بتكوين صورة أدق عن هذا التراث وعن اطلاع طه حسين عليه وتأثره به، وتأكيد أنّ التراث المعني إنما هو تراث «النقد التاريخي» بصفة عامة، إذ لا يقتصر على الشعر الجاهلي، فضلاً عن أن علاقة طه حسين بهذا التراث قد بدأت مبكراً جداً في حياته منذ أن كان طالباً في الجامعة المصرية، وبلغت ذروتها أثناء دراسته في جامعة السوربون عندما تتلمذ على يد شارل سينوبوس، أحد الذين وضعوا قواعد «المنهج الوضعي في دراسة التاريخ» اعتماداً على روافد نقدية عدة، من بينها الرافد الريناني الذي يجسد في طبيعته التيار الفيلولوجي.
ضمن هذا السياق يأتي كتاب الدكتور عبدالرشيد محمودي بعنوان: «طه حسين بين السياج والمرايا» في طبعته الثانية (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015)، والذي يضم بين دفتيه مجموعة من الأبحاث والمقالات المتعلقة بطه حسين، والتي تتابعت وتيرتها لنحو خمسة وأربعين عاماً (منذ عام 1973 حتى الآن). ولا شك في أن عدداً كبيراً من مقالات الكاتب تنصرف إلى معالجة «قضية الشعر الجاهلي»، حيث خصص لها الكاتب الباب الثاني من كتابه (ص 90 - 140)، فضلاً عن أنها تكشف عن هذا التوتر الحي النابض في شخصية طه حسين، بل بالأحرى ذلك الصراع المحتدم الذي كان يدور في نفسه ما بين اتجاهين كبيرين يجذبانه بعنف: تيارا التقليد والحداثة.
وكان الكاتب أبان عن ذلك الجانب بصورة خاصة في كتاب له صدر عام 2002 بعنوان: «طه حسين من الأزهر إلى السوربون»، لكنه أضاف إلى كتابه هذا «طه حسين بين السياج والمرايا» في طبعته الثانية ثلاث مقالات جديدة هي: «طه حسين من وجهة نظر فلسفية»، و «النزعة الإنسانية عند طه حسين»، و «طه حسين وتوماس هاردي».
وبالعودة إلى قضية الشعر الجاهلي، يؤكد الكاتب في مقالة مطولة بعنوان: «مسار طه حسين من الدهشة إلى الشك»، أن الرجوع إلى ديكارت لم يكن إلا خطوة واحدة، وخطوة أولى. وقد ابتدأ الكتاب مقالته بالرجوع إلى مقالة أخرى للدكتور جلال أمين نشرت في مجلة الهلال بعنوان: «بمن تأثر طه حسين؟»، وافق فيها محمودي في ما يتعلق بمصادر طه حسين في الشعر الجاهلي، خاصة الفكرة التي مؤدّاها أن ما يُسمّى بالشعر الجاهلي قد وُضع معظمه بعد ظهور الإسلام!
وفي الأحوال كلها، ينتهي الكاتب - من خلال تتبعه مسار طه حسين وتطور نظرته لقضية الشعر الجاهلي - إلى إثبات بعض النتائج المهمة، وفي مقدمها: أن طه حسين قد توصل إلى نظريته تلك بمعزل عن آراء المستشرق الإنكليزي مرغليوث؛ كما عبّر عنها في مقالته «نشأة الشعر الجاهلي» (حزيران - يونيو 1952). وأن البذور الأولى لشكوك طه حسين، في ما يتعلق بصحة الشعر الجاهلي، إنما تعود إلى حقبة مبكرة جداً في حياته الأدبية (1908 - 1914)، وإلى سنة 1911 على وجه التحديد. وأن المصدر الأول لتلك الشكوك كان عبارة عن المحاضرات التي ألقاها المستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نالينو على طلاب الجامعة المصرية - ومن بينهم طه حسين – خلال العام الدراسي 1910-1911، وهي المحاضرات التي نُشرت في ما بعد تحت عنوان: «تاريخ الآداب العربية». وأن تأثير منهج الشك الديكارتي في قضية الشعر الجاهلي حقيقي بالفعل، لكنه جاء متأخراً ومحدوداً.
من جهة أخرى، كان مصطفى صادق الرافعي أشار في كتابه «تاريخ آداب العرب» الذي نشر الجزء الأول منه عام 1911، ونقده طه حسين في العام التالي، إلى أن المصدر الأول لشكوك طه حسين المبكرة في الشعر الجاهلي هو آراء محمد بن سلام الجمحي، لكن الكاتب يرد على ذلك الاتهام بمقالة لطه حسين صدرت في الجريدة بتاريخ 17 أيار (مايو) 1911 بعنوان: «الآداب العربية في الجامعة»، تؤكد علم طه حسين بآراء ابن سلام، وأنه لم يستمد معرفته بها من كتاب الرافعي لأن الكتاب لم يكن قد صدر بعد، ما يعني أن علم طه حسين بالشكوك التي تحيط بالتراث الجاهلي أقدم بكثير مما يتخيله البعض، وأنه كان على علم بآراء ابن سلام الجمحي، إذ يقول في سياق رده على صاحب الرافعي ما نصّه: «هوِّن عليك أيها الكاتب، فلستَ وحدك الذي تنفرد بعلم الآداب. فقد قرأنا مثلك ودرسنا على أساتذة لم تدرس عليهم وعرفنا أن محمد بن سلام ينكر هذه الأخبار والأشعار ويراها من وضع ابن إسحاق، صاحب المغازي».
في عام 1912، قدِم المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون إلى القاهرة ليحاضر في الجامعة المصرية الناشئة حول «تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية». وفي العام التالي أعدّ ماسينيون تقريراً لاحظ فيه أن طلابه ينقسمون إلى فئتين: الأولى من خريجي المدارس الحكومية الذين اطلعوا على الأفكار العصرية، لكنهم لم يتعلموا المناهج الأوروبية إلا بطريقة سطحية، فضلاً عن أنهم تلقوا هذا الإعداد الفكري باللغة الإنكليزية من دون أن تُتاح لهم أدنى فرصة للتفكير بلغتهم الأصلية. والفئة الثانية من خريجي جامعة الأزهر ممن يجهلون الأفكار والمناهج الأوروبية تماماً، لكنهم يتمتعون بميزة كبرى، ألا وهي أنهم تعلموا التفكير بلغتهم الأصلية.
وكان ماسينيون يبدي ميلاً إلى الفئة الثانية عن الأولى، وبالفعل استطاع ممثلو هذه الفئة وفي مقدمهم الشيخ الأكبر مصطفى عبدالرازق (1885 – 1947)، وطه حسين، ومحمد يوسف موسى (1899 – 1963) وغيرهم أن يجمعوا ما بين ثقافة الأزهر والتعليم الديني التقليدي من جهة، وثقافة الغرب العصرية بمناهجها العلمية المختلفة من جهة أخرى، وأن يخرجوا لنا من هذين العنصرين مزيجاً رائقاً يجمع ما بين الأصالة والمعاصرة من دون أن يطغى أحد العنصرين على حساب الآخر.
واسترعى طه حسين انتباه لويس ماسينيون فكتب يقول عنه ذات مرة: «وكان من دواعي ارتياحي أنني وجدت بين تلاميذنا عقلاً في المرتبة الأولى، ضريراً ذا بصيرة نفّاذة، هو الشيخ طه حسين». كما كان اقتناع ماسينيون بمحمد يوسف موسى سبباً في اختياره خبيراً في لجنة الميتافيزيقا - الفلسفة في المجمع اللغوي بالقاهرة وهو لا يزال طالباً يدرس بفرنسا! وبعد عودته عرض عليه طه حسين أن يعمل في الجامعة المصرية، فأجابه بأنه لا يرضى عن الأزهر بديلاً! فقال له طه حسين: لن يُقدِّرك الأزهر! فقال: لا أريد غير الأزهر. وبالفعل صدقت نبوءة طه حسين، إذ سرعان ما اشتد الخلاف بين محمد يوسف موسى وشيوخ الأزهر التقليديين، وانتهى الأمر بقبوله ترشيح بعض أساتذة كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، لشغل وظيفة أستاذ مساعد للشريعة في كلية الحقوق بعد أن أصابه اليأس والإحباط من إصلاح الأزهر: جامعاً وجامعة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.