أسعار السمك في أسوان اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025    أسعار الأعلاف في أسوان اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025    زيلينسكي يصل إلى الولايات المتحدة استعدادا لمحادثات مع ترامب    الدفاع العراقية: 6 طائرات جديدة فرنسية الصنع ستصل قريبا لتعزيز القوة الجوية    رئيس الحكومة العراقية: لم يعد هناك أي مبرر لوجود قوات أجنبية في بلادنا    طقس أسوان اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025    محمد معيط: العجز في الموازنة 1.5 تريليون جنيه.. وأنا مضطر علشان البلد تفضل ماشية استلف هذا المبلغ    نيللي كريم وداليا مصطفى تسيطران على جوجل: شائعات ونجاحات تُشعل الجدل    أبرزهم أحمد حاتم وحسين فهمي.. نجوم الفن في العرض الخاص لفيلم الملحد    أمطار ورياح قوية... «الأرصاد» تدعو المواطنين للحذر في هذه المحافظات    حزب "المصريين": بيان الخارجية الرافض للاعتراف بما يسمى "أرض الصومال" جرس إنذار لمحاولات العبث بجغرافيا المنطقة    بحضور وزير الثقافة.. أداء متميز من أوركسترا براعم الكونسرفتوار خلال مشاركتها في مهرجان «كريسماس بالعربي»    لجنة بالشيوخ تفتح اليوم ملف مشكلات الإسكان الاجتماعي والمتوسط    عمر فاروق الفيشاوي عن أنفعال شقيقه أثناء العزاء: تطفل بسبب التريندات والكل عاوز اللقطة    فيديو جراف| تسعة أفلام صنعت «فيلسوف السينما».. وداعًا «داود عبد السيد»    محمد معيط: أسعار السلع كانت تتغير في اليوم 3 مرات في اليوم.. ومارس المقبل المواطن سيشعر بالتحسن    أسبوع حافل بالإنجازات| السياحة والآثار تواصل تعزيز الحضور المصري عالميًا    انتخابات النواب| محافظ أسيوط: انتهاء اليوم الأول من جولة الإعادة بالدائرة الثالثة    «الداخلية» تكشف مفاجأة مدوية بشأن الادعاء باختطاف «أفريقي»    ما بين طموح الفرعون ورغبة العميد، موقف محمد صلاح من مباراة منتخب مصر أمام أنجولا    واتكينز بعدما سجل ثنائية في تشيلسي: لم ألعب بأفضل شكل    أمم إفريقيا - لوكمان: تونس لا تستحق ركلة الجزاء.. ومساهماتي بفضل الفريق    يوفنتوس يقترب خطوة من قمة الدوري الإيطالي بثنائية ضد بيزا    أحمد سامى: كان هيجيلى القلب لو استمريت فى تدريب الاتحاد    لافروف: نظام زيلينسكي لا يبدي أي استعداد لمفاوضات بناءة    هل فرط جمال عبد الناصر في السودان؟.. عبد الحليم قنديل يُجيب    2025 عام السقوط الكبير.. كيف تفككت "إمبراطورية الظل" للإخوان المسلمين؟    حادثان متتاليان بالجيزة والصحراوي.. مصرع شخص وإصابة 7 آخرين وتعطّل مؤقت للحركة المرورية    لافروف: أوروبا تستعد بشكل علني للحرب مع روسيا    نوفوستي تفيد بتأخير أكثر من 270 رحلة جوية في مطاري فنوكوفو وشيريميتيفو بموسكو    ناقد رياضي: الروح القتالية سر فوز مصر على جنوب أفريقيا    داليا عبد الرحيم تهنيء الزميل روبير الفارس لحصوله علي جائزة التفوق الصحفي فرع الصحافة الثقافية    مها الصغير تتصدر التريند بعد حكم حبسها شهرًا وتغريمها 10 آلاف جنيهًا    آسر ياسين ودينا الشربيني على موعد مع مفاجآت رمضان في "اتنين غيرنا"    «زاهي حواس» يحسم الجدل حول وجود «وادي الملوك الثاني»    بعد القلب، اكتشاف مذهل لتأثير القهوة والشاي على الجهاز التنفسي    المحامي ياسر حسن يكشف تطورات جديدة في قضية سرقة نوال الدجوي    عمرو أديب يتحدث عن حياته الشخصية بعد انفصاله عن لميس ويسأل خبيرة تاروت: أنا معمولي سحر ولا لأ (فيديو)    حمو بيكا خارج محبسه.. أول صور بعد الإفراج عنه ونهاية أزمة السلاح الأبيض    كيف يؤثر التمر على الهضم والسكر ؟    وزير الصحة يكرم مسئولة الملف الصحي ب"فيتو" خلال احتفالية يوم الوفاء بأبطال الصحة    رابطة تجار السيارات عن إغلاق معارض بمدينة نصر: رئيس الحي خد دور البطولة وشمّع المرخص وغير المرخص    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهم في واقعة أطفال اللبيني    أخبار × 24 ساعة.. التموين: تخفيض زمن أداء الخدمة بالمكاتب بعد التحول الرقمى    محافظ قنا يوقف تنفيذ قرار إزالة ويُحيل المتورطين للنيابة الإدارية    الإفتاء توضح حكم التعويض عند الخطأ الطبي    القوات الروسية ترفع العلم الروسي فوق دميتروف في دونيتسك الشعبية    سيف زاهر: هناك عقوبات مالية كبيرة على لاعبى الأهلى عقب توديع كأس مصر    طه إسماعيل: هناك لاعبون انتهت صلاحيتهم فى الأهلى وعفا عليهم الزمن    المكسرات.. كنز غذائي لصحة أفضل    أخبار مصر اليوم: انتظام التصويت باليوم الأول لجولة الإعادة دون مخالفات مؤثرة، تطوير 1255 مشروعًا خلال 10 سنوات، الذهب مرشح لتجاوز 5 آلاف دولار للأوقية في 2026    محافظ الجيزة يتابع أعمال غلق لجان انتخابات مجلس النواب في اليوم الأول لجولة الإعادة    آية عبدالرحمن: كلية القرآن الكريم بطنطا محراب علم ونور    كواليس الاجتماعات السرية قبل النكسة.. قنديل: عبد الناصر حدد موعد الضربة وعامر رد بهو كان نبي؟    هل يجوز المسح على الخُفِّ خشية برد الشتاء؟ وما كيفية ذلك ومدته؟.. الإفتاء تجيب    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المطلوب " انابة " بحكم " المنتهى " !?    المستشفيات الجامعية تقدم خدمات طبية ل 32 مليون مواطن خلال 2025    أخبار × 24 ساعة.. موعد استطلاع هلال شعبان 1447 هجريا وأول أيامه فلكيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لينا هويان الحسن تبكي بعويل "ذئبة"
نشر في صوت البلد يوم 05 - 05 - 2016

ليست الصحراء في روايات لينا هويان الحسن فضاءً جغرافياً تلتقي فيه الشخصيات لتنطلق نحو أقدارها ومساراتها المتشعبة، بل إنها تيمة متجددة تلتقطها بعينها الأنثوية لتُسجّل تفاصيل الحياة البدوية «الخفية» عن كل من لا ينتمي إليها. ولا يأتي فعل الانتماء هنا عبثاً، لأنّ الصحراء المتدثرة برمالٍ وكثبانٍ ومساحات قاحلة تظلّ محصنة، فلا تتراءى بوجهها الحقيقي الساحر إلّا أمام أبنائها.
من السحر والتنجيم إلى الحبّ والثأر فالمغامرة والترحال، كتبت الحسن عن باديتها في روايات عدة، منها «سلطانات الرمل»، «بنات نعش»، «ألماس ونساء»، «البحث عن الصقر غنّام» (للفتيان)، حتى ليظنّ القارئ أنّ الكاتبة «البدوية» ستدير ظهرها إلى بيئتها الصحراوية بعدما استهلكت موضوعاتها المختلفة. إلّا أنّها أثبتت العكس في رواية جديدة تستحضر فيها عالم الصحراء، بدءاً من العنوان الرئيس «الذئاب لا تنسى» (دار الآداب).
يسير الخطّ الدرامي في رواية الحسن بين «المدينة» و«البادية»، عبر رحلة إلى قريةٍ على تخوم بادية حماه، حيث مدفن الشقيق المقتول، ياسر. وبموازاة هذه الحركة المكانية، تشهد الرواية حركة في الزمان بين واقعٍ راهن (الحرب السورية) وزمنٍ ماضٍ (طفولة في البادية الرحبة). وليس جديداً على الكاتبة، وريثة الحياة البدوية المتقلبة، أن تتحرّك في المكان، وهي التي أُهديت في عيد ميلادها درباً شقّها لها عمها باسمها، بدلاً من أن تكون هديتها لعبة أو علبة شوكولاته، على غرار سائر بنات المدن في سنّها. وليس مستغرباً أن تتمسّك بماضٍ محفوظ في ذاكرة البدوي لعلّها تحقّق عودة مشتهاة إلى «الجذور»، في ظلّ حياة من السفر والترحال الدائمين. «هنالك بشر مفطورون على النسيان وتسطيح الأشياء والأحداث والأماكن، بينما أنا فُطرتُ على التذكّر، على اجترار الحزن». (ص160)
الغائب
تُمسك الكاتبة بطرف السرد عبر تداعي ذاكرتها في سياق محادثة داخلية تتوجّه فيها إلى ذاتها مرّة، وإلى ياسر مرّات أخرى. تنطلق الراوية في رحلة ب«البولمان»، على طريق دمشق- حمص، برفقة شقيقيها، وائل ومرام. لكنّ الغائب بينهم ظلّ هو الأقوى حضوراً على امتداد الرحلتين، الزمنية والمكانية. فكان ياسر هو الموجود في ذكريات الكاتبة وفي أحلام شقيقتها وفي دموع أمها وصمت والدها وعزلة زوجته وأسئلة أطفاله...
«ياسر مات»، من هذه الجملة الخبرية المقتصدة تنطلق أحداث الرواية. فالفاجعة لا تحتمل كلاماً وتفسيرات. إمّا ذهول أو صراخ. لكنّ الكاتبة اختارت الاحتمال الثاني: «صرخت وصرخت وصرخت» (ص19) حتى أعادها صراخها إلى عواء ذئبة سمعته في طفولتها، إثر فقدانها وليدها، فظلّ صدى صوتها يسكن أذنيها طوال ثلاثين عاماً. «الذئبة تعوي وتُعلن أنها موجودة، وحزنها موجود، ولا تنسى ولا تصفح... تعوي كبطلة خرافية مرسوم قدرها سلفاً، مكبّلة بمصير مكتوب سلفاً» (ص54). تتجدّد صورة «الذئبة» في أنين أمّها المفجوعة و «عويلها»، وفي «عواءات» مديدة وصاخبة كنحيب الأسر السورية المحزونة: «كلّ السوريين يبكون. لا استثناءات. البكاء قدرنا» (ص24).
ولأنّ الحياة في الصحراء جعلتها تُدرك أنّ «الدروب» التي تُشق في الذاكرة لن تُمحى، فإننا نلتمس تماهياً بين «الكاتبة» وبين «الذئبة». فالذئاب ليست وحدها من لا ينسى، بل إنّ ذاكرة السكّان الرحّل هي دائماً ذاكرة متينة وعميقة، ربما تعويضاً عن غياب التجذّر في المكان. هكذا تغدو «الذئبة»، بحزنها وعويلها، معادلاً «وحشياً» للإنسان المتألم، وإن كانت «الذئاب» أكثر آدمية أحياناً من الإنسان: «الذئاب لا تنسى. أيضاً لا تخون بعضها. الخيانة ميزتنا نحن البشر. الخيانات لنا» (ص13).
وعلى رغم أنّ «الذئبة» (البطلة) تُشكّل في مكانٍ ما قرين الكاتبة، ب «وعيها» المنفرد المستقلّ (على طريقة فرويد) وب «لاوعيها» الجماعي أيضاً (على طريقة يونغ)، فإنّها تستذكر أيضاً كائنات البادية الأخرى ممن عايشتها وراقبتها وتبعتها، هي وشقيقها ياسر، في طفولتهما. فتعترف بأنّ البدو «تعلموا تكنيكاتهم اليومية من الحيوانات التي حولهم». من الأسود والنمور ضرورة الهجوم بدلاً من البقاء في موقع الدفاع، ومن الثعلب استخدام الخدع والحيل لبلوغ الهدف، ومن الغزالة سرعة التنقّل وعدم الالتفات إلى الوراء، ومن الصقور فنّ الصمت والهدوء...
قد تكون لينا هويان الحسن قرأت كتاب «نساء يركضن مع الذئاب» للأميركية- المكسيكية كلاريسا بانكولا بترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة، وربما لا، إلّا أننا في كلتا الحالتين نلتمس فكرة مشتركة تقضي باستخراج قوتنا الأنثوية الحقيقية عبر العودة إلى طبيعتنا الأصلية وإطلاق طاقاتنا المبدعة التي طمستها مظاهر «التمدّن». ويتجلّى ذلك في نصٍ تقول فيه الكاتبة الأميركية: «المرأة والذئبة ترتبطان بعلاقة قرابة، كلتاهما فضوليتان تتمتعان بقدر عظيم من الإخلاص والتفاني والإدراك الداخلي والمشاعر العميقة تجاه صغارهما. وكذلك تتوافر لهما خبرة التكيف مع الظروف المتغيرة والشجاعة الفائقة والثبات بقوة على الموقف».
رحلة الأحزان
يتقصّى القارئ رحلة الأشقاء لينا ومرام ووائل وهم يشقّون دربهم بين قوافل «المحزونين». الخوف يتملّك الركّاب، مع أنّ جميعهم اتخذوا الاحتياطات اللازمة. ارتدت الكاتبة حجاباً وعباءة مع نظارتين، درءاً لمخاطر قد يتسبّب بها سفورها عند نقاط التفتيش التابعة لمسلحين متطرفين. تشعر فوق رعبها وحزنها بأنها مكبلة في ملابس لم تعتد أن ترتديها. تراقب العالم الكابوسي من خلف نظارتيها السوداوين. الموت يرتسم على الطرقات وفي وجوه الناس وملابسهم. لذا فإنها تهرب من حاضرها المحاصر بالخوف والفقد إلى ماضٍ سعيد قضته برفقة شقيقها ياسر، المشاكس، الوسيم، الضحوك، عاشق الصيد والتقليد وسماع الأساطير.
وفي عودتها إلى زمن الطفولة، تلجأ هويان إلى المخزون التراثي في صوره الموروثة، فتُقدّم المرأة نموذجاً للأصالة الإنسانية وحالةً تحوي داخلها كل قوى الطبيعة والحدس. فتحكي عن «فريال» المبدعة في سرد الحكايات والقصص، وعن «ونسة» الأيزيدية الجميلة التي قُتلت بعدما تزوجت من خارج بيئتها، وعن خاتون عمشة التي سمعت عنها أخباراً كثيرة، هي التي أُلقي بجثتها في الآبار الرومانية القديمة. فالموت لم يكتب نهاية تلك النسوة اللواتي تمرّدن بلا خوف من سلطة «العشيرة» وذكورها.
«الذئاب لا تنسى» تموج بين الرواية وسيرة الذات والمكان، تكتبها لينا بمستويين من اللغة، تقريرية - توثيقية مرة (عن نساء البادية مثلاً) وشعرية مؤثرة مرات (عن ياسر). إذن تتداخل ذكريات الراوية عن شقيقها المقتول «ظُلماً»، بذكرياتها عن البادية، كأنما تاريخ عائلتها لا ينفصل عن تاريخ باديتها، تماماً كما أنّ مأساتها «الشخصية» لا تنفصل عن مأساة وطنها، سورية.
ياسر، شقيق الكاتبة، من ضحايا المحرقة السورية الكبيرة. قُتل بذنب أنّه موظف دولة. وما حزن عائلته عليه سوى قصة «منسوخة» من آلاف القصص المحزنة في سورية. لكنّ شقيقته اختارت أن توثقها، لا لكي تُدين قاتلاً (كلّهم مجرمون آثمون) أو تحتفل به شهيداً (الجميع قتلى بالمجان)، إنما رغبةً منها في التحرّر من قهرها، من حزنها الأبدي.
تختتم هويان روايتها في بيروت حيث ترتشف قهوتها وتكتب بينما ينهمر المطر غزيراً. تختار «الورقة» درباً جديداً تشقها لتسير فيها بلا خوف وريبة. تتخذها أرضاً جديدة تقتل فيها «وحوش التذكّر» لعلها تشفى من حزنها الدفين. تكتب روايتها عن ياسر بينما يتردّد في أذنها صوت خالها وهو ينادي صقره «غنّام». وأيّ روحٍ تحتمل ذاكرة متخمة بالحزن والفقد. فقدان الأخ والوطن والأمن والسلام؟
ليست الصحراء في روايات لينا هويان الحسن فضاءً جغرافياً تلتقي فيه الشخصيات لتنطلق نحو أقدارها ومساراتها المتشعبة، بل إنها تيمة متجددة تلتقطها بعينها الأنثوية لتُسجّل تفاصيل الحياة البدوية «الخفية» عن كل من لا ينتمي إليها. ولا يأتي فعل الانتماء هنا عبثاً، لأنّ الصحراء المتدثرة برمالٍ وكثبانٍ ومساحات قاحلة تظلّ محصنة، فلا تتراءى بوجهها الحقيقي الساحر إلّا أمام أبنائها.
من السحر والتنجيم إلى الحبّ والثأر فالمغامرة والترحال، كتبت الحسن عن باديتها في روايات عدة، منها «سلطانات الرمل»، «بنات نعش»، «ألماس ونساء»، «البحث عن الصقر غنّام» (للفتيان)، حتى ليظنّ القارئ أنّ الكاتبة «البدوية» ستدير ظهرها إلى بيئتها الصحراوية بعدما استهلكت موضوعاتها المختلفة. إلّا أنّها أثبتت العكس في رواية جديدة تستحضر فيها عالم الصحراء، بدءاً من العنوان الرئيس «الذئاب لا تنسى» (دار الآداب).
يسير الخطّ الدرامي في رواية الحسن بين «المدينة» و«البادية»، عبر رحلة إلى قريةٍ على تخوم بادية حماه، حيث مدفن الشقيق المقتول، ياسر. وبموازاة هذه الحركة المكانية، تشهد الرواية حركة في الزمان بين واقعٍ راهن (الحرب السورية) وزمنٍ ماضٍ (طفولة في البادية الرحبة). وليس جديداً على الكاتبة، وريثة الحياة البدوية المتقلبة، أن تتحرّك في المكان، وهي التي أُهديت في عيد ميلادها درباً شقّها لها عمها باسمها، بدلاً من أن تكون هديتها لعبة أو علبة شوكولاته، على غرار سائر بنات المدن في سنّها. وليس مستغرباً أن تتمسّك بماضٍ محفوظ في ذاكرة البدوي لعلّها تحقّق عودة مشتهاة إلى «الجذور»، في ظلّ حياة من السفر والترحال الدائمين. «هنالك بشر مفطورون على النسيان وتسطيح الأشياء والأحداث والأماكن، بينما أنا فُطرتُ على التذكّر، على اجترار الحزن». (ص160)
الغائب
تُمسك الكاتبة بطرف السرد عبر تداعي ذاكرتها في سياق محادثة داخلية تتوجّه فيها إلى ذاتها مرّة، وإلى ياسر مرّات أخرى. تنطلق الراوية في رحلة ب«البولمان»، على طريق دمشق- حمص، برفقة شقيقيها، وائل ومرام. لكنّ الغائب بينهم ظلّ هو الأقوى حضوراً على امتداد الرحلتين، الزمنية والمكانية. فكان ياسر هو الموجود في ذكريات الكاتبة وفي أحلام شقيقتها وفي دموع أمها وصمت والدها وعزلة زوجته وأسئلة أطفاله...
«ياسر مات»، من هذه الجملة الخبرية المقتصدة تنطلق أحداث الرواية. فالفاجعة لا تحتمل كلاماً وتفسيرات. إمّا ذهول أو صراخ. لكنّ الكاتبة اختارت الاحتمال الثاني: «صرخت وصرخت وصرخت» (ص19) حتى أعادها صراخها إلى عواء ذئبة سمعته في طفولتها، إثر فقدانها وليدها، فظلّ صدى صوتها يسكن أذنيها طوال ثلاثين عاماً. «الذئبة تعوي وتُعلن أنها موجودة، وحزنها موجود، ولا تنسى ولا تصفح... تعوي كبطلة خرافية مرسوم قدرها سلفاً، مكبّلة بمصير مكتوب سلفاً» (ص54). تتجدّد صورة «الذئبة» في أنين أمّها المفجوعة و «عويلها»، وفي «عواءات» مديدة وصاخبة كنحيب الأسر السورية المحزونة: «كلّ السوريين يبكون. لا استثناءات. البكاء قدرنا» (ص24).
ولأنّ الحياة في الصحراء جعلتها تُدرك أنّ «الدروب» التي تُشق في الذاكرة لن تُمحى، فإننا نلتمس تماهياً بين «الكاتبة» وبين «الذئبة». فالذئاب ليست وحدها من لا ينسى، بل إنّ ذاكرة السكّان الرحّل هي دائماً ذاكرة متينة وعميقة، ربما تعويضاً عن غياب التجذّر في المكان. هكذا تغدو «الذئبة»، بحزنها وعويلها، معادلاً «وحشياً» للإنسان المتألم، وإن كانت «الذئاب» أكثر آدمية أحياناً من الإنسان: «الذئاب لا تنسى. أيضاً لا تخون بعضها. الخيانة ميزتنا نحن البشر. الخيانات لنا» (ص13).
وعلى رغم أنّ «الذئبة» (البطلة) تُشكّل في مكانٍ ما قرين الكاتبة، ب «وعيها» المنفرد المستقلّ (على طريقة فرويد) وب «لاوعيها» الجماعي أيضاً (على طريقة يونغ)، فإنّها تستذكر أيضاً كائنات البادية الأخرى ممن عايشتها وراقبتها وتبعتها، هي وشقيقها ياسر، في طفولتهما. فتعترف بأنّ البدو «تعلموا تكنيكاتهم اليومية من الحيوانات التي حولهم». من الأسود والنمور ضرورة الهجوم بدلاً من البقاء في موقع الدفاع، ومن الثعلب استخدام الخدع والحيل لبلوغ الهدف، ومن الغزالة سرعة التنقّل وعدم الالتفات إلى الوراء، ومن الصقور فنّ الصمت والهدوء...
قد تكون لينا هويان الحسن قرأت كتاب «نساء يركضن مع الذئاب» للأميركية- المكسيكية كلاريسا بانكولا بترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة، وربما لا، إلّا أننا في كلتا الحالتين نلتمس فكرة مشتركة تقضي باستخراج قوتنا الأنثوية الحقيقية عبر العودة إلى طبيعتنا الأصلية وإطلاق طاقاتنا المبدعة التي طمستها مظاهر «التمدّن». ويتجلّى ذلك في نصٍ تقول فيه الكاتبة الأميركية: «المرأة والذئبة ترتبطان بعلاقة قرابة، كلتاهما فضوليتان تتمتعان بقدر عظيم من الإخلاص والتفاني والإدراك الداخلي والمشاعر العميقة تجاه صغارهما. وكذلك تتوافر لهما خبرة التكيف مع الظروف المتغيرة والشجاعة الفائقة والثبات بقوة على الموقف».
رحلة الأحزان
يتقصّى القارئ رحلة الأشقاء لينا ومرام ووائل وهم يشقّون دربهم بين قوافل «المحزونين». الخوف يتملّك الركّاب، مع أنّ جميعهم اتخذوا الاحتياطات اللازمة. ارتدت الكاتبة حجاباً وعباءة مع نظارتين، درءاً لمخاطر قد يتسبّب بها سفورها عند نقاط التفتيش التابعة لمسلحين متطرفين. تشعر فوق رعبها وحزنها بأنها مكبلة في ملابس لم تعتد أن ترتديها. تراقب العالم الكابوسي من خلف نظارتيها السوداوين. الموت يرتسم على الطرقات وفي وجوه الناس وملابسهم. لذا فإنها تهرب من حاضرها المحاصر بالخوف والفقد إلى ماضٍ سعيد قضته برفقة شقيقها ياسر، المشاكس، الوسيم، الضحوك، عاشق الصيد والتقليد وسماع الأساطير.
وفي عودتها إلى زمن الطفولة، تلجأ هويان إلى المخزون التراثي في صوره الموروثة، فتُقدّم المرأة نموذجاً للأصالة الإنسانية وحالةً تحوي داخلها كل قوى الطبيعة والحدس. فتحكي عن «فريال» المبدعة في سرد الحكايات والقصص، وعن «ونسة» الأيزيدية الجميلة التي قُتلت بعدما تزوجت من خارج بيئتها، وعن خاتون عمشة التي سمعت عنها أخباراً كثيرة، هي التي أُلقي بجثتها في الآبار الرومانية القديمة. فالموت لم يكتب نهاية تلك النسوة اللواتي تمرّدن بلا خوف من سلطة «العشيرة» وذكورها.
«الذئاب لا تنسى» تموج بين الرواية وسيرة الذات والمكان، تكتبها لينا بمستويين من اللغة، تقريرية - توثيقية مرة (عن نساء البادية مثلاً) وشعرية مؤثرة مرات (عن ياسر). إذن تتداخل ذكريات الراوية عن شقيقها المقتول «ظُلماً»، بذكرياتها عن البادية، كأنما تاريخ عائلتها لا ينفصل عن تاريخ باديتها، تماماً كما أنّ مأساتها «الشخصية» لا تنفصل عن مأساة وطنها، سورية.
ياسر، شقيق الكاتبة، من ضحايا المحرقة السورية الكبيرة. قُتل بذنب أنّه موظف دولة. وما حزن عائلته عليه سوى قصة «منسوخة» من آلاف القصص المحزنة في سورية. لكنّ شقيقته اختارت أن توثقها، لا لكي تُدين قاتلاً (كلّهم مجرمون آثمون) أو تحتفل به شهيداً (الجميع قتلى بالمجان)، إنما رغبةً منها في التحرّر من قهرها، من حزنها الأبدي.
تختتم هويان روايتها في بيروت حيث ترتشف قهوتها وتكتب بينما ينهمر المطر غزيراً. تختار «الورقة» درباً جديداً تشقها لتسير فيها بلا خوف وريبة. تتخذها أرضاً جديدة تقتل فيها «وحوش التذكّر» لعلها تشفى من حزنها الدفين. تكتب روايتها عن ياسر بينما يتردّد في أذنها صوت خالها وهو ينادي صقره «غنّام». وأيّ روحٍ تحتمل ذاكرة متخمة بالحزن والفقد. فقدان الأخ والوطن والأمن والسلام؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.