مستقبل وطن" يختتم اجتماعات لجنة ترشيحات النواب استعدادًا لخوض انتخابات 2025    ميناء الإسكندرية يستقبل السفينة السياحية AROYA في رحلتها الرابعة خلال شهرين    حجز وحدات سکن مصر وجنة وديارنا بالأسبقية إلكترونيًا.. التفاصيل الكاملة    إيران تدرس إرسال وفد إلى فيينا لاستئناف المحادثات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية    السيسي لرئيس وزراء اليونان: ملتزمون بحماية المقدسات الدينية على أراضينا ومنها دير سانت كاترين    النائب محمد أبو النصر: رفض إسرائيل مبادرة وقف إطلاق النار يكشف نواياها الخبيثة    التعادل السلبي يحسم الشوط الأول من مباراة سيراميكا وإنبي    5 آلاف دولار و800 ألف جنيه.. مسروقات شقة أحمد شيبة في الإسكندرية    من مواجهة الشائعات إلى ضبط الجناة.. الداخلية تعيد رسم خريطة الأمن في 24 ساعة    وزير الصحة يتفقد مستشفى الشروق ويوجه بدعم الكوادر الطبية وتطوير الخدمات    صلاح: التتويج بالبطولات الأهم.. وسنقاتل لتكراره هذا الموسم    وكيل تعليم الغربية: خطة لنشر الوعي بنظام البكالوريا المصرية ومقارنته بالثانوية العامة    الأوقاف تعقد 681 ندوة بعنوان "حفظ الجوارح عن المعاصى والمخالفات"    خالد الجندى يوضح الفرق بين التبديل والتزوير فى القرآن الكريم.. فيديو    بيع مؤسسي يضغط سوق المال.. والصفقات تنقذ السيولة    البرديسي: السياسة الإسرائيلية تتعمد المماطلة في الرد على مقترح هدنة غزة    الاحتفال بعروسة وحصان.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 فلكيًا وحكم الاحتفال به    مهرجان الجونة يفتح ستار دورته الثامنة بإعلان 12 فيلمًا دوليًا    مدحت العدل ينعى يحيى عزمي: "واحد من حراس الفن الحقيقي"    طب قصر العيني يطلق برنامجًا صيفيًا لتدريب 1200 طالب بالسنوات الإكلينيكية    "أريد تحقيق البطولات".. وسام أبو علي يكشف سبب انتقاله ل كولومبوس الأمريكي    وزيرة التنمية المحلية و4 محافظين يشهدون توقيع بروتوكولات للتنمية الاقتصادية    محافظ الإسماعيلية يوجه التضامن بإعداد تقرير عن احتياجات دار الرحمة والحضانة الإيوائية (صور)    بعد وفاة طفل بسبب تناول الإندومي.. "البوابة نيوز" ترصد الأضرار الصحية للأطعمة السريعة.. و"طبيبة" تؤكد عدم صلاحيته كوجبة أساسية    الداخلية: حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن الوادي الجديد    النائب علاء عابد: المقترح «المصري–القطري» يتضمن بنود إنسانية    كنوز| 101 شمعة لفيلسوف الأدب الأشهر فى شارع صاحبة الجلالة    الرئيس السيسي وماكرون يؤكدان ضرورة التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم في غزة    خلال اتصال هاتفى تلقاه من ماكرون.. الرئيس السيسى يؤكد موقف مصر الثابت والرافض لأية محاولات لتهجير الشعب الفلسطينى أو المساس بحقوقه المشروعة.. ويرحب مجددًا بقرار فرنسا عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية    حملة موسعة على منشآت الرعاية الأولية في المنوفية    إزالة 19 حالة تعد على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة في المنيا    تحرير 7 محاضر لمحلات جزارة ودواجن بمدينة مرسى مطروح    ما حكم إخبار بما في الخاطب من عيوب؟    رئيس جامعة القاهرة: تطوير وصيانة المدن الجامعية أولوية قصوى للطلاب    عمر طاهر على شاشة التليفزيون المصري قريبا    "كلنا بندعيلك من قلوبنا".. ريهام عبدالحكيم توجه رسالة دعم لأنغام    بعد نجاح «قرار شخصي».. حمزة نمرة يستعد لطرح ألبوم ثاني في 2025    تفاصيل جراحة مروان حمدي مهاجم الإسماعيلي وموعد عودته للمشاركة    حالة الطقس في الإمارات.. تقلبات جوية وسحب ركامية وأمطار رعدية    ضبط المتهمين بالتنقيب عن الآثار داخل عقار بالخليفة    كيف يكون بر الوالدين بعد وفاتهما؟.. الإفتاء تجيب    بيع 11 محلًا تجاريًا ومخبز بلدي في مزاد علني بمدينة بدر    "خطر على الصحة".. العثور على كم كبير من الحشرات داخل مطعم بدمنهور    «سي إن إن» تبرز جهود مصر الإغاثية التى تبذلها لدعم الأشقاء في غزة    انطلاق مهرجان يعقوب الشاروني لمسرح الطفل    الليلة.. إيهاب توفيق يلتقي جمهوره في حفل غنائي بمهرجان القلعة    «عمر الساعي يكافئ الكوكي».. هل يعيد نجم المصري قصة «البديل الذهبي»؟    الزمالك: منفحتون على التفاوض وحل أزمة أرض النادي في 6 أكتوبر    وزير الدفاع يلتقي مقاتلي المنطقة الشمالية.. ويطالب بالاستعداد القتالي الدائم والتدريب الجاد    محافظ القاهرة يقرر النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بالثانوي العام    توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين اقتصادية قناة السويس وحكومة طوكيو في مجال الهيدروجين الأخضر    صباحك أوروبي.. صلاح يتوج بجائزة لاعب العام.. استبعاد فينيسيوس.. ورغبة إيزاك    رئيس الوزراء: أدعو الطلاب اليابانيين للدراسة في مصر    فانتازي يلا كورة.. انخفاض سعر عمر مرموش    رعاية القلوب    انطلاق القطار السادس للعودة الطوعية للسودانيين من محطة مصر (صور)    ترامب: رئيس البنك المركزي يضر بقطاع الإسكان وعليه خفض أسعار الفائدة    مصدر أمني ينفي تداول مكالمة إباحية لشخص يدعي أنه مساعد وزير الداخلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدينة رجاء نعمة الفاضلة لا تخلو من الأشرار
نشر في صوت البلد يوم 14 - 03 - 2016

تحاول الكاتبة رجاء نعمة في روايتها «شيطان في نيو قرطاج» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) أن تبني مدينة فاضلة بمقاييس جديدة، تقوم أعمدتها الأساس على حجارة الأساطير. فتُعيد روائياً سطوة الماضي الأسطوري وتصوّرات المستقبل البعيد، وما لذلك من تأثير عميق في تأسيس الدول والمجتمعات المثالية في التاريخ. وليس بعيدًا أو توهّمًا أن تكون الأسباب التي دفعت فيلسوفَي المدن الفاضلة إلى رسم حدود مدينتيهما، هي نفسها أسباب تأسيس مدينة نيو قرطاج. فالحالة التي نعيشها اليوم من حروب دائرة، ودماء جارية، وتفتّت في جسد هذه الأمة، تقترب بطبيعتها من الأسباب التي دفعت أفلاطون للبحث عن حلول قد تنتشل الواقع مما سقط فيه. فلم تكن فلسفته المثالية في بناء جمهوريته الفاضلة سوى رد فعل على أزمات عنيفة توالت على أثينا، فهزّت المدينة وأهلها. بل إنّ عالمه اليوتوبي ذاك ليس إلاّ عصارة تلك المرحلة العصيبة من تاريخ مدينته، والمقصود هنا مرحلة حرب أثينا وأسبرطة، التي طاولت نيرانُها مدنًا أخرى فمزّقت البلاد وقطعت جسور أوصالها، ولم يبق سوى الظلام والفوضى. فجاءت المثالية أو الخيال خياراً فلسفياً إزاء العجز عن التحكّم بظروف تتجاوز قدراته... وكذلك فعل الفيلسوف المسلم الفارابي، حين دفعته الظروف المشابهة الى رسم مدينته الفاضلة، حيث المحيط الزاخر بالحروب والتفرقة بين الدويلات والطغيان والظلم والفتن. وتأتي هذه المقاربة بديهية عند قراءة رواية نعمة. فهل لمست الكاتبة استحالة تحسين الأوضاع الحالية؟ وهل شكّلت مدينتها الافتراضية ملاذًا لها على الأقل في ظلّ حياة قائمة على الموت والعنف وإقصاء الآخر؟
الهاربون
في روايتها الجديدة، تقدّم الكاتبة صورة مدينة تغدو مهربًا لكل من تراوده فكرة الحياة والإنسانية. مدينة تُبنى في زمن مستقبلي (بعد خمسين عامًا)، يلوذ بها كل من يسعى الى التخلّص من تاريخه الدمويّ. شخصيات بماضٍ شرير، تصنع مدينة خيرة فتقع في عشقها. ويغدو من الصعب الانفصال عنها. فهل الخير والجمال أقوى من قيم الشرّ والعنف؟
تتسع نيو قرطاج للهاربين من حيواتهم السابقة إذاً. تهافت عليها فنانون وعلماء وزعماء أرادوا التخلص من تاريخهم المؤلم... هكذا يُمثّل سكّان هذه المدينة شخصيات روائية مركّبة، بحيث يحمل البطل في داخله ضدّه. وعبثًا حاولت تلك الشخصيات الانسلاخ عن ذكرياتها، هي المتناسلة من مركّبات تناقضية. أسماء تتوالد من أسماء، فتحيلنا إلى رمزية أصحاب تلك الأسماء... كارلوس، الذي وجد نفسه في مستشفى بلا ذاكرة، يحاول لملمة ما تشظى من حياته في البلقان حيث الحروب المتجددة... فتُحيلنا الكاتبة إلى شخصية «كارلوس» الفنزويلي، المناضل والإرهابي، مما يكرّس ازدواجية الشخوص. وهذا ما تقوله في نصّها: «بعضهم يرى في هذا مناضلاً حرّاً والآخرون إرهابياً مدمراً» (ص69).
في الرواية، تتشكّل حياة جديدة لكارلوس - الذي ورث حكماً ممن بنى المدينة- على يد الطبيب «شندلنر»، الحامل كغيره، سراً لم يستطع إخفاءه كثيراً، فهو المرتكب جريمة بحقّ أحد أبنائه «لودفيغ» الذي أصبح في ما بعد علماً من أعلام المدينة فنياً، قبل أن يختفي بطريقة ملتبسة لتتوجّه أصابع الاتهام إلى أكثر من شخصية في ظروف مختلفة، من دون الإشارة إلى كارلوس الحاكم الأكثر استفادة من اختفائه نظراً إلى ما يكنّه ل«أليسار»، الإعلامية الشهيرة التي أحبّت لودفيغ. علماً أنّ أليسار هذه، وهي الآتية من لبنان، تحمل اسماً يحيلنا إلى أسطورة أليسار «الصورية» (من مدينة صور الساحلية) والتي بنت قرطاجة التاريخية... أمّا هذا التناقض المتحارب داخل الأبطال فتجسّده مسلّة ميدان المدينة لحظة نصبها، لكونها تشير إلى النقيضين معاً «ذلك أن شروط الجمال والتناسق هي ذاتها شروط الخداع» (ص9). إنها مدينة مبنية على فعل شندلنر الآثم ذي النفسية الازدواجية التناقضية، وهي تشكّل شاهداً من الشّاهدين على وجوده: «فهذا الآثم ترك في الدنيا شاهدين على ذلك: ابنه آدم ونيو قرطاج» (ص462).
وعلى رغم أنّ الرواية تتصف بملامح الخيال العلمي، غير أنّ الكاتبة تسلّحت بمخزون اسطوري أكّدت من خلاله أنّ تجاوز الحاضر الفوضوي الدموي، يحتاج إلى ارتداد نحو الوراء والقفز بمقوّماته الإنسانية نحو الأمام. وليس هذا بجديد على تاريخنا القريب والبعيد، فالأوروبي دخل باب الحضارة الحديثة عبر فلسفة تاريخه ونقده، وعبر تنقيته من شوائبه، مستعينًا بما يدفع إلى مسيرة التقدّم، باترًا بمقصّ نقديّ عقليّ كل ما يمكن أن يعيق طرق التغيير.
أزمات نفسية
وقد مارست الكاتبة نقدها الموضوعي في رسم حدود مدينتها، على رغم مثالية التصوّر، فكانت أكثر موضوعية من فلاسفة المدن الفاضلة الآخرين، مشيرة إلى عثرات وعراقيل تحول دون تحقّق هذه المدينة. فتقدّم نعمة شخصياتٍ ترزح تحت ثقل أزمات نفسيّة، وكأنّ الهارب من تاريخه نحو تاريخ جديد، ينبغي أن يجلس على أريكة اعتراف تصنعها الكاتبة التي أثرت نصها بمصطلحات علم النفس، مستفيدة من خبرتها في التحليل النفسي للأدب، بحيث يُعد كتابها الشهير «صراع المقهور مع السلطة» خير شاهد على ذلك... وأكثر ما يؤكّد واقعيتها، أنّها جعلت مدينتها التي تحاول أن تتخلّص من الجهل عبر استنساخات علمية تعمل على غربلة الأجيال الآتية، قد تبقى عرضة لأصحاب الفكر الظلامي. فيأتي من يهاجم المدينة الفائضة بالمظاهر العلمية من سلاح وطبابة وتجارب، محاولاً إرجاع الحياة إلى الوراء، شكلًا ومضمونًا، بحجّة أنّ ما توصّل اليه العلماء يعدّ تطاولاً على الخالق: «المستنسخون هؤلاء يحملون بالتأكيد روح القوى الشريرة التي ساهمت في وجودهم الآثم. وجود من شأنه تدنيس الأرض وهلاك البشر... (ص310). وبهذا تحذّر الكاتبة من تقديس الماضي وتكريس ثوابته بدلاً من احترامه والاستفادة منه فقط: «في التاريخ تلازمت التغيرات العلمية الكبرى وإدانات وصل بعضها حد الحكم بالموت على المجددين... وبهذه المناسبة يدعو مركزنا الناس إلى إعادة التفكير بثوابت قديمة تعرقل الابتكارات التي من شأنها تحسين النوع» (ص277). وليس هذا التطوّر بالنوع وغربلته بأمر جديد، وهذا يؤكّد أن الكاتب ليس سوى متلقّ أوّل يعرف كيف يصوغ ما يتلقاه. وترى الكاتبة أن الغاية من الاستنساخ هي تحسين النوع وتصفيته وتطويره.
تقدّم الكاتبة هذه القضايا والرؤى عبر لعبة زمنية تقوم على الاستباق المعلن عنه منذ البدايات. وتجعل المتلقي مشدودًا متشوّقًا، إلى معرفة طبيعة الحكم، وكيف ستقوم ركائز أعمدته. فهل سيكون الحكم للأب بعد قتله ابنه وتحقيق اسطورة ايديمنيوس؟ أم الحكم لأوديب بعد قتله أباه وتحقيق اسطورة سوفوكل؟ وفي كلتا الحالين فإن الحكم سيكون قوامه حدثًا تراجيديًّا والمأساة سيدة الموقف: «وضبطت نفسي أهتف: عفوك أيّها المعلم... فالأب سيقتل ابنه... كما قتل أوديب أباه على غفلة بلا رحمة ولا مقايضة» (ص165)... وبطريقة رمزية، تشير الكاتبة إلى أنّ الحياة لكي تستقيم بعد فساد وفجور، لا بدّ من طوفان ينتشل الأرض من براثن الرجس وأنفاس الشرّ.
تحاول الكاتبة رجاء نعمة في روايتها «شيطان في نيو قرطاج» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) أن تبني مدينة فاضلة بمقاييس جديدة، تقوم أعمدتها الأساس على حجارة الأساطير. فتُعيد روائياً سطوة الماضي الأسطوري وتصوّرات المستقبل البعيد، وما لذلك من تأثير عميق في تأسيس الدول والمجتمعات المثالية في التاريخ. وليس بعيدًا أو توهّمًا أن تكون الأسباب التي دفعت فيلسوفَي المدن الفاضلة إلى رسم حدود مدينتيهما، هي نفسها أسباب تأسيس مدينة نيو قرطاج. فالحالة التي نعيشها اليوم من حروب دائرة، ودماء جارية، وتفتّت في جسد هذه الأمة، تقترب بطبيعتها من الأسباب التي دفعت أفلاطون للبحث عن حلول قد تنتشل الواقع مما سقط فيه. فلم تكن فلسفته المثالية في بناء جمهوريته الفاضلة سوى رد فعل على أزمات عنيفة توالت على أثينا، فهزّت المدينة وأهلها. بل إنّ عالمه اليوتوبي ذاك ليس إلاّ عصارة تلك المرحلة العصيبة من تاريخ مدينته، والمقصود هنا مرحلة حرب أثينا وأسبرطة، التي طاولت نيرانُها مدنًا أخرى فمزّقت البلاد وقطعت جسور أوصالها، ولم يبق سوى الظلام والفوضى. فجاءت المثالية أو الخيال خياراً فلسفياً إزاء العجز عن التحكّم بظروف تتجاوز قدراته... وكذلك فعل الفيلسوف المسلم الفارابي، حين دفعته الظروف المشابهة الى رسم مدينته الفاضلة، حيث المحيط الزاخر بالحروب والتفرقة بين الدويلات والطغيان والظلم والفتن. وتأتي هذه المقاربة بديهية عند قراءة رواية نعمة. فهل لمست الكاتبة استحالة تحسين الأوضاع الحالية؟ وهل شكّلت مدينتها الافتراضية ملاذًا لها على الأقل في ظلّ حياة قائمة على الموت والعنف وإقصاء الآخر؟
الهاربون
في روايتها الجديدة، تقدّم الكاتبة صورة مدينة تغدو مهربًا لكل من تراوده فكرة الحياة والإنسانية. مدينة تُبنى في زمن مستقبلي (بعد خمسين عامًا)، يلوذ بها كل من يسعى الى التخلّص من تاريخه الدمويّ. شخصيات بماضٍ شرير، تصنع مدينة خيرة فتقع في عشقها. ويغدو من الصعب الانفصال عنها. فهل الخير والجمال أقوى من قيم الشرّ والعنف؟
تتسع نيو قرطاج للهاربين من حيواتهم السابقة إذاً. تهافت عليها فنانون وعلماء وزعماء أرادوا التخلص من تاريخهم المؤلم... هكذا يُمثّل سكّان هذه المدينة شخصيات روائية مركّبة، بحيث يحمل البطل في داخله ضدّه. وعبثًا حاولت تلك الشخصيات الانسلاخ عن ذكرياتها، هي المتناسلة من مركّبات تناقضية. أسماء تتوالد من أسماء، فتحيلنا إلى رمزية أصحاب تلك الأسماء... كارلوس، الذي وجد نفسه في مستشفى بلا ذاكرة، يحاول لملمة ما تشظى من حياته في البلقان حيث الحروب المتجددة... فتُحيلنا الكاتبة إلى شخصية «كارلوس» الفنزويلي، المناضل والإرهابي، مما يكرّس ازدواجية الشخوص. وهذا ما تقوله في نصّها: «بعضهم يرى في هذا مناضلاً حرّاً والآخرون إرهابياً مدمراً» (ص69).
في الرواية، تتشكّل حياة جديدة لكارلوس - الذي ورث حكماً ممن بنى المدينة- على يد الطبيب «شندلنر»، الحامل كغيره، سراً لم يستطع إخفاءه كثيراً، فهو المرتكب جريمة بحقّ أحد أبنائه «لودفيغ» الذي أصبح في ما بعد علماً من أعلام المدينة فنياً، قبل أن يختفي بطريقة ملتبسة لتتوجّه أصابع الاتهام إلى أكثر من شخصية في ظروف مختلفة، من دون الإشارة إلى كارلوس الحاكم الأكثر استفادة من اختفائه نظراً إلى ما يكنّه ل«أليسار»، الإعلامية الشهيرة التي أحبّت لودفيغ. علماً أنّ أليسار هذه، وهي الآتية من لبنان، تحمل اسماً يحيلنا إلى أسطورة أليسار «الصورية» (من مدينة صور الساحلية) والتي بنت قرطاجة التاريخية... أمّا هذا التناقض المتحارب داخل الأبطال فتجسّده مسلّة ميدان المدينة لحظة نصبها، لكونها تشير إلى النقيضين معاً «ذلك أن شروط الجمال والتناسق هي ذاتها شروط الخداع» (ص9). إنها مدينة مبنية على فعل شندلنر الآثم ذي النفسية الازدواجية التناقضية، وهي تشكّل شاهداً من الشّاهدين على وجوده: «فهذا الآثم ترك في الدنيا شاهدين على ذلك: ابنه آدم ونيو قرطاج» (ص462).
وعلى رغم أنّ الرواية تتصف بملامح الخيال العلمي، غير أنّ الكاتبة تسلّحت بمخزون اسطوري أكّدت من خلاله أنّ تجاوز الحاضر الفوضوي الدموي، يحتاج إلى ارتداد نحو الوراء والقفز بمقوّماته الإنسانية نحو الأمام. وليس هذا بجديد على تاريخنا القريب والبعيد، فالأوروبي دخل باب الحضارة الحديثة عبر فلسفة تاريخه ونقده، وعبر تنقيته من شوائبه، مستعينًا بما يدفع إلى مسيرة التقدّم، باترًا بمقصّ نقديّ عقليّ كل ما يمكن أن يعيق طرق التغيير.
أزمات نفسية
وقد مارست الكاتبة نقدها الموضوعي في رسم حدود مدينتها، على رغم مثالية التصوّر، فكانت أكثر موضوعية من فلاسفة المدن الفاضلة الآخرين، مشيرة إلى عثرات وعراقيل تحول دون تحقّق هذه المدينة. فتقدّم نعمة شخصياتٍ ترزح تحت ثقل أزمات نفسيّة، وكأنّ الهارب من تاريخه نحو تاريخ جديد، ينبغي أن يجلس على أريكة اعتراف تصنعها الكاتبة التي أثرت نصها بمصطلحات علم النفس، مستفيدة من خبرتها في التحليل النفسي للأدب، بحيث يُعد كتابها الشهير «صراع المقهور مع السلطة» خير شاهد على ذلك... وأكثر ما يؤكّد واقعيتها، أنّها جعلت مدينتها التي تحاول أن تتخلّص من الجهل عبر استنساخات علمية تعمل على غربلة الأجيال الآتية، قد تبقى عرضة لأصحاب الفكر الظلامي. فيأتي من يهاجم المدينة الفائضة بالمظاهر العلمية من سلاح وطبابة وتجارب، محاولاً إرجاع الحياة إلى الوراء، شكلًا ومضمونًا، بحجّة أنّ ما توصّل اليه العلماء يعدّ تطاولاً على الخالق: «المستنسخون هؤلاء يحملون بالتأكيد روح القوى الشريرة التي ساهمت في وجودهم الآثم. وجود من شأنه تدنيس الأرض وهلاك البشر... (ص310). وبهذا تحذّر الكاتبة من تقديس الماضي وتكريس ثوابته بدلاً من احترامه والاستفادة منه فقط: «في التاريخ تلازمت التغيرات العلمية الكبرى وإدانات وصل بعضها حد الحكم بالموت على المجددين... وبهذه المناسبة يدعو مركزنا الناس إلى إعادة التفكير بثوابت قديمة تعرقل الابتكارات التي من شأنها تحسين النوع» (ص277). وليس هذا التطوّر بالنوع وغربلته بأمر جديد، وهذا يؤكّد أن الكاتب ليس سوى متلقّ أوّل يعرف كيف يصوغ ما يتلقاه. وترى الكاتبة أن الغاية من الاستنساخ هي تحسين النوع وتصفيته وتطويره.
تقدّم الكاتبة هذه القضايا والرؤى عبر لعبة زمنية تقوم على الاستباق المعلن عنه منذ البدايات. وتجعل المتلقي مشدودًا متشوّقًا، إلى معرفة طبيعة الحكم، وكيف ستقوم ركائز أعمدته. فهل سيكون الحكم للأب بعد قتله ابنه وتحقيق اسطورة ايديمنيوس؟ أم الحكم لأوديب بعد قتله أباه وتحقيق اسطورة سوفوكل؟ وفي كلتا الحالين فإن الحكم سيكون قوامه حدثًا تراجيديًّا والمأساة سيدة الموقف: «وضبطت نفسي أهتف: عفوك أيّها المعلم... فالأب سيقتل ابنه... كما قتل أوديب أباه على غفلة بلا رحمة ولا مقايضة» (ص165)... وبطريقة رمزية، تشير الكاتبة إلى أنّ الحياة لكي تستقيم بعد فساد وفجور، لا بدّ من طوفان ينتشل الأرض من براثن الرجس وأنفاس الشرّ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.