عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل    ممنوع حيازة أو تخزين الذهب.. قرارات نارية من لجنة الطوارئ الاقتصادية بالسودان والشعبة ترد    ترامب: قد أدعو بوتين لحضور كأس العالم 2026 في الولايات المتحدة    ليس بطلًا.. بل «مجرم حرب»    كندا تتراجع عن الرسوم الجمركية العقابية على السلع الأمريكية    ترامب: الوضع الراهن في غزة يجب أن ينتهي    بوين يقود هجوم وست هام ضد تشيلسي في الدوري الإنجليزي الممتاز    مسرح UArena يستعد لاستقبال حفل ويجز بعد قليل فى مهرجان العلمين    إسلام عفيفى يكتب: الصفقات المرفوضة وتحالفات الضرورة    سِباق مع الزمن    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    تفاصيل مران الزمالك استعدادًا لمواجهة فاركو.. تدريبات استشفائية للأساسين    مدرب توتنهام: لا مكان لمن لا يريد ارتداء شعارنا    التعادل السلبي يحسم مباراة السكة الحديد مع الترسانة في دوري المحترفين    خسارة سيدات الطائرة أمام صاحب الأرض ببطولة العالم بتايلاند    كرة طائرة - منتخب مصر يخسر أمام تايلاند في افتتاح بطولة العالم سيدات    غلق 3 منشآت غذائية في حملة للطب الوقائي بكفر الشيخ (صور)    خسائر فادحة.. حريق هائل يلتهم مخازن أخشاب بالإسماعيلية والحماية المدنية تحاول السيطرة    رواية مختلقة.. وزارة الداخلية تكشف حقيقة تعدي شخص على جارته    موقف بطولي على قضبان السكة الحديد.. إنقاذ شاب من الموت تحت عجلات القطار بمزلقان الغمراوي ببني سويف    الإيجار القديم والبكالوريا والأحزاب.. وزير الشؤون النيابية يوضح مواقف الحكومة    افتتاح كلية البنات فرع جامعة الأزهر فى مطروح    حسام حبيب ينفي عودته ل شيرين عبد الوهاب: "شائعات هقاضي اللي طلعها"    الوادي الجديد تطلق منصة إلكترونية للترويج السياحي والحرف اليدوية    صراع الخير والشر في عرض مدينة الأحلام بالمهرجان الختامي لشرائح ونوادي مسرح الطفل    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    الماتشا تخفض الكوليسترول الضار - حقيقة أم خرافة؟    لغة لا تساوى وزنها علفًا    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    «حماة الوطن» ينظم حلقة نقاشية حول تعديل قانون الرياضة    بعد مداهمة وكر التسول.. حملات مكثفة لغلق فتحات الكباري بالجيزة| صور    محمود فوزي: الحكومة جادة في تطبيق قانون الإيجار القديم وحماية الفئات الضعيفة    المجاعة تهدد نصف مليون في غزة.. كيف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؟    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    «التنظيم والإدارة» يعلن توقف الامتحانات بمركز تقييم القدرات.. لهذا السبب    نجاح عملية دقيقة لاستئصال ورم بالمخ وقاع الجمجمة بمستشفى العامرية العام بالإسكندرية    عميد طب القصر العيني يتابع جاهزية البنية التحتية استعدادًا لانطلاق العام الدراسي    لمرضى السكري - اعتاد على تناول زبدة الفول السوداني في هذا التوقيت    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    رئيس جهاز القرى السياحية يلتقي البابا تواضروس الثاني بالعلمين (صور)    المقاومة العراقية تطالب بالانسحاب الحقيقي للقوات الأمريكية من العراق    بالأرقام.. الأمن الاقتصادي يضبط آلاف القضايا خلال 24 ساعة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    الاقتصاد المصرى يتعافى    الداخلية تكشف تفاصيل اقتحام منزل والتعدي على أسرة بالغربية    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهلا العجيلي تبحث عن شمس بين مقابر ومخيمات
نشر في صوت البلد يوم 11 - 02 - 2016

في لحظة عبثية عاجلة، قد تنقلب الأمور كلّها، فيصير المواطن لاجئاً والوطن رعباً والدار دماراً والعائلة شتاتاً والحياة احتمال موت دائماً. على هذه التحولات المصيرية السريعة، تنبني رواية شهلا العجيلي «السماء قريبة من بيتنا» (منشورات ضفاف)، المرشحة للبوكر العربية ضمن قائمتها الطويلة.
قد يشعر قارئ رواية شهلا العجيلي الثالثة، بعد «عين الهرّ» و «سجاد عجمي»، بأنّه يقرأ روايات عدة في رواية، حيث تزجّ الكاتبة في نصّها الكثير من الأسماء والشخصيات والمدن والأزمنة والهويات، إضافة إلى المعارف الثقافية والسياحية والفنية، هي الأستاذة المختصّة بعلم الجمال. لكنّ العصب الرئيس لهذه الرواية (342 صفحة) يظلّ كامناً في جدلية العلاقة بين الإنسان وبيئته. لهذا، اختارت العجيلي أن تكون بطلة الرواية (جمان) باحثة في علم الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان، وبطلها (ناصر العامري) أستاذاً في الجغرافيا يعمل خبيراً دولياً في المناخ والجفاف. يلتقي البطلان مصادفة في رحلة العودة من إسطنبول إلى عمّان، قبل أن يتحوّل لقاؤهما العابر إلى قصة حب يبحث كلّ طرف فيها عمّا ينقصه في الآخر. هو الخمسيني المطلّق زوجته الأميركية وأب لثلاثة أبناء يعيشون في الولايات المتحدة، ركب الطائرة ليشارك في جنازة أمّه المتوفاة صباحاً، وهي الثلاثينية العزباء العائدة من مهمة عمل إلى مكان لا ينتظرها فيه أحد، بعدما قرّر والدها وشقيقتاها جود وسلمى البقاء في الرقة، على أمل عودة السلام إليها.
وليس عبثاً أن يلتقي الفلسطيني والسورية في الطائرة، هذا المكان الخطر العائم في الفضاء اللانهائي، وهما المشتتان الممزقان خارج وطنيهما. ومن هذا اللقاء الفلسطيني - السوري في الطائرة تتولّد رموز الاقتلاع العربي ومأسويته، فتحضر مقولة إدوارد سعيد، على لسان الراوية، لترسّخ هذا الواقع: «الجغرافيا عدونا الأول».

تحولات كبيرة
تتشكّل بنية الرواية عبر خطوط متداخلة ومتشابكة تلتقي فيها حيوات شخصيات كثيرة تُقحمها العجيلي بأسلوب حكائي سلس، غير أنّ حياة الراوية جمان بدران تبقى هي البؤرة التي تحتضن كلّ هذه التحولات. بل إنّ حكايتها الشخصية تدخل في لعبة مرآة مع حكاية وطنها، سورية. فالشابة الجميلة المفعمة بالحياة والثقافة والذكريات تُصاب بمرضِ خبيث ليصير جسدها النديّ عُرضة لعلاجات «مُدمّرة»، منها الأشعة والكيماوي، في وقت تُضرب سورية بأسلحة مدمرة أيضاً نتيجة حرب خبيثة تُحاك على أرضها منذ خمس سنوات. ولكن، هل ثمة مجال للشفاء؟ لا أحد يعلم. وفي بعض المقاطع، يتماهى جسد جمان المريض بجسد سورية المُنهك، فتصير صفاتهما واحدة: «متألمة، متهافتة، أما لهذا الألم أن ينتهي؟ لا أعرف كيف أحدد شكل الوجع أو مكانه».
تنطلق الرواية بإشارة زمنية «كان يوم الإثنين 30/4/1947 يوماً ربيعياً مشرقاً من أيّام حلب»، فيظنّ القارئ لوهلة أنّ أحداث الرواية تحصل في حقبة زمنية قديمة من تاريخ سورية، وأنّ الروائية لجأت إلى الماضي عوضاً عن حاضرٍ لا تزال رؤيته ضبابية مشوشة. ولكن، بعد صفحات قليلة، يُفاجأ القارئ بوثبة زمنية تنتقل بنا إلى الفترة الراهنة، حيث تجلس الراوية جمان - تعمل في جمعيات إنسانية مخصصة لمساعدة اللاجئين السوريين في المخيمات - في صالة الترانزيت، بانتظار دخول البوابة المحددة، المكان الذي غالباً ما يستعدّ فيه الناس لبدء مغامرة جديدة. «المطارات سلالم الحكايات، ونحن السوريين ربما لنا حكايتنا المختلفة معها، فبمجرّد مرورنا من الكوة الأخيرة لأي موظف جوازات، نكون قد استلمنا صكّ ولادة جديدة».
تتكرّر الاستعادات الزمنية على امتداد الرواية، على اعتبار أنّ التاريخ الشخصي للأفراد لا ينفصل بتاتاً عن التاريخ العام لأوطانهم. واللافت أنّ الكاتبة تظلّ مدركة هذا التأرجح المقصود عبر الزمن، فنراها تُقدّم في البداية شخصيات لا يتضح دورها إلّا في فصول أخرى مثل «شهيرة الحفّار» (أم ناصر المتوفاة) التي تفتتح الرواية بنقل أجواء بيت أهلها القديم في حلب (1947)، حين كان يلتقي الشيخ عمر البطش، فنان الموشحات والموسيقار عبدالوهاب في منزل والدها بهجب بيك، لنكتشف لاحقاً أنّ الفتاة الصغيرة التي كانت تتمايل على أنغام العود في غرفة مجاورة للصالة الرئيسة لن تكون سوى السيدة شهيرة الحفّار، «التي كانت جنازتها اليوم» (والدة المسافر الفلسطيني ناصر العامري). وهذا يتكرر مع صبيّ الجيلاتي في «بورتوفينو» الذي تذكره سريعاً أثناء استعادة ذكرياتها في إيطاليا، قبل أن نكتشف أنّه سيغدو لاحقاً الدكتور يعقوب، طبيب جمان. وتعمد الكاتبة إلى استخدام أفعال مستقبلية مسبوقة غالباً ب «سوف» وإشارات لا يكتمل معناها إلّا لاحقاً في النصّ، وهذه التقنية تُسمّى نقدياً «إرهاصات»، وهي تُشبّه بالبذرة التي لا تلفت النظر إلّا بعد أن تنمو وتنضج، غير أنّ «روح كلّ وظيفة قصصية هي بذرتها، وهي العنصر الذي يُيذّره السرد لينضج في ما بعد»، وفق ما يقول رولان بارت.

تفاصيل
تُثري العجيلي نصّها السردي بالتفاصيل من غير أن تدفع بقارئها إلى الملل. تهتم ببناء شخصياتها عبر تراكم تفاصيلها حتى لتغدو من لحمٍ ودم. وكذلك تعتني بتفاصيل المدن التي تصفها، ليصبح المكان شخصية قائمة بذاتها. حين تصف مدينة حلب مثلاً، تستعيد الشوارع بأزقتها الواسعة والضيقة، بمطاعمها القديمة والجديدة، مقاهيها، ناسها، أكلاتها، روائح مطخبها الذي لا ينافسه أي مطبخ آخر في العالم، على ما تقول جمان. كأنما بالكلام عن المكان تريح نفسها من شوق يخنقها حدّ الموت: «لا مطاعم الريتز، ولا مقاهي الشانزليزيه أو مقاهي أرصفة براغ، تساوي الجلسة على تيراس أوتيل بارون... في مطعم «دار زمريا» يقدمون كرات اللحم المطبوخة بفاكهة الكرز، على نغمات القدود الحلبية، يعزفونها عوّادون قد شربوا الفن مع حليب أمهاتهم».
وكم تبدو صورة المكان/ الحلم مؤلمة أمام مشاهد أخرى تنقلها الراوية من خلال عملها في المنظمات الإنسانية من داخل مخيمات اللاجئين، ومنها مخيّم الزعتري، وهي المساعدة الأقرب إلى هؤلاء الناس من بين العاملين الآخرين لكونها السورية الوحيدة بينهم. كانت جُمان تتمنى ألّا تزور المخيم لكنها ذهبت وصادفت اللاجئين الذين كانوا بالأمس أصحاب بيوتٍ وأراضٍ ومشاريع ومهمات، فبدت كأنها تتعرّف إلى وجهها الآخر، هي الآتية من عائلة إقطاعية سورية معروفة.
لكنّ الصدمة الأكبر في حياة جمان تبقى حين تكتشف إصابتها بمرض السرطان، حيث يصير الإنسان هو ضيف السماء المُحتمل، ويغدو الموت لصيقاً به كما ظلّه. ولا ندري ما إذا كان العنوان قد جاء من هنا أم من فكرة الإيمان الذي يتعزّز فجأة في قلوب المرضى والخائفين. «وحين انطفأ صفّ من الأضواء في أحد طوابق المركز، صارت النجوم أكثر لمعاناً، وبدا كلّ شيء محتوماً، الألم والموت والشفاء. السماء هنا قريبة، قريبة جداً ولا تحتاج إلى سلالم أو حبال». هكذا تختتم الرواية.
لا شكّ في أنّ رواية العجيلي تترك في نفسك غصّة نتيجة مشاهد موغلة في الواقع. فمن الجثث السورية التي لم تعد تجد تراباً يحتضنها، وهي بالمناسبة أصبحت تيمة تتكرر في الروايات السورية الجديدة كما في رواية «الموت عمل شاق» لخالد خليفة و «الذئاب لا تنسى» للكاتبة لينا هويان الحسن، إلى مأساة اللجوء والاغتراب وصولاً إلى شدّة المرض وثبوره، يقف القارئ على تماس مع واقعه المعقد إنسانياً وسياسياً واجتماعياً، من غير أن تُنهكه نبرة الرواية الميلودرامية. فالكاتبة عرفت كيف تُطعّم روايتها بمشاهد جمالية عالية، برزت في ذكريات جمان العائلية في مدينة بورتوفينو الإيطالية حيث صادفت داليدا مرات في الفندق، ومرات أخرى في الحفلات المسائية على سطح الأوتيل حيث غنّت رائعتها «عثرتُ على حبي في بورتوفينو»، وحيث كانت قبلتها الأولى هي وجورجيو الصبي الإيطالي الوسيم في قبو الفندق السحيق والرطب، وهناك استقلّت قوارب الصيادين وسبحت في مياه الأزرق الجميل.
جاءت المشاهد سحرية كجرعة تنفّس اصطناعية تُعيد إلى قلب القارئ نوراً يخرج من وسط ظلمة حالكة.
في لحظة عبثية عاجلة، قد تنقلب الأمور كلّها، فيصير المواطن لاجئاً والوطن رعباً والدار دماراً والعائلة شتاتاً والحياة احتمال موت دائماً. على هذه التحولات المصيرية السريعة، تنبني رواية شهلا العجيلي «السماء قريبة من بيتنا» (منشورات ضفاف)، المرشحة للبوكر العربية ضمن قائمتها الطويلة.
قد يشعر قارئ رواية شهلا العجيلي الثالثة، بعد «عين الهرّ» و «سجاد عجمي»، بأنّه يقرأ روايات عدة في رواية، حيث تزجّ الكاتبة في نصّها الكثير من الأسماء والشخصيات والمدن والأزمنة والهويات، إضافة إلى المعارف الثقافية والسياحية والفنية، هي الأستاذة المختصّة بعلم الجمال. لكنّ العصب الرئيس لهذه الرواية (342 صفحة) يظلّ كامناً في جدلية العلاقة بين الإنسان وبيئته. لهذا، اختارت العجيلي أن تكون بطلة الرواية (جمان) باحثة في علم الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان، وبطلها (ناصر العامري) أستاذاً في الجغرافيا يعمل خبيراً دولياً في المناخ والجفاف. يلتقي البطلان مصادفة في رحلة العودة من إسطنبول إلى عمّان، قبل أن يتحوّل لقاؤهما العابر إلى قصة حب يبحث كلّ طرف فيها عمّا ينقصه في الآخر. هو الخمسيني المطلّق زوجته الأميركية وأب لثلاثة أبناء يعيشون في الولايات المتحدة، ركب الطائرة ليشارك في جنازة أمّه المتوفاة صباحاً، وهي الثلاثينية العزباء العائدة من مهمة عمل إلى مكان لا ينتظرها فيه أحد، بعدما قرّر والدها وشقيقتاها جود وسلمى البقاء في الرقة، على أمل عودة السلام إليها.
وليس عبثاً أن يلتقي الفلسطيني والسورية في الطائرة، هذا المكان الخطر العائم في الفضاء اللانهائي، وهما المشتتان الممزقان خارج وطنيهما. ومن هذا اللقاء الفلسطيني - السوري في الطائرة تتولّد رموز الاقتلاع العربي ومأسويته، فتحضر مقولة إدوارد سعيد، على لسان الراوية، لترسّخ هذا الواقع: «الجغرافيا عدونا الأول».

تحولات كبيرة
تتشكّل بنية الرواية عبر خطوط متداخلة ومتشابكة تلتقي فيها حيوات شخصيات كثيرة تُقحمها العجيلي بأسلوب حكائي سلس، غير أنّ حياة الراوية جمان بدران تبقى هي البؤرة التي تحتضن كلّ هذه التحولات. بل إنّ حكايتها الشخصية تدخل في لعبة مرآة مع حكاية وطنها، سورية. فالشابة الجميلة المفعمة بالحياة والثقافة والذكريات تُصاب بمرضِ خبيث ليصير جسدها النديّ عُرضة لعلاجات «مُدمّرة»، منها الأشعة والكيماوي، في وقت تُضرب سورية بأسلحة مدمرة أيضاً نتيجة حرب خبيثة تُحاك على أرضها منذ خمس سنوات. ولكن، هل ثمة مجال للشفاء؟ لا أحد يعلم. وفي بعض المقاطع، يتماهى جسد جمان المريض بجسد سورية المُنهك، فتصير صفاتهما واحدة: «متألمة، متهافتة، أما لهذا الألم أن ينتهي؟ لا أعرف كيف أحدد شكل الوجع أو مكانه».
تنطلق الرواية بإشارة زمنية «كان يوم الإثنين 30/4/1947 يوماً ربيعياً مشرقاً من أيّام حلب»، فيظنّ القارئ لوهلة أنّ أحداث الرواية تحصل في حقبة زمنية قديمة من تاريخ سورية، وأنّ الروائية لجأت إلى الماضي عوضاً عن حاضرٍ لا تزال رؤيته ضبابية مشوشة. ولكن، بعد صفحات قليلة، يُفاجأ القارئ بوثبة زمنية تنتقل بنا إلى الفترة الراهنة، حيث تجلس الراوية جمان - تعمل في جمعيات إنسانية مخصصة لمساعدة اللاجئين السوريين في المخيمات - في صالة الترانزيت، بانتظار دخول البوابة المحددة، المكان الذي غالباً ما يستعدّ فيه الناس لبدء مغامرة جديدة. «المطارات سلالم الحكايات، ونحن السوريين ربما لنا حكايتنا المختلفة معها، فبمجرّد مرورنا من الكوة الأخيرة لأي موظف جوازات، نكون قد استلمنا صكّ ولادة جديدة».
تتكرّر الاستعادات الزمنية على امتداد الرواية، على اعتبار أنّ التاريخ الشخصي للأفراد لا ينفصل بتاتاً عن التاريخ العام لأوطانهم. واللافت أنّ الكاتبة تظلّ مدركة هذا التأرجح المقصود عبر الزمن، فنراها تُقدّم في البداية شخصيات لا يتضح دورها إلّا في فصول أخرى مثل «شهيرة الحفّار» (أم ناصر المتوفاة) التي تفتتح الرواية بنقل أجواء بيت أهلها القديم في حلب (1947)، حين كان يلتقي الشيخ عمر البطش، فنان الموشحات والموسيقار عبدالوهاب في منزل والدها بهجب بيك، لنكتشف لاحقاً أنّ الفتاة الصغيرة التي كانت تتمايل على أنغام العود في غرفة مجاورة للصالة الرئيسة لن تكون سوى السيدة شهيرة الحفّار، «التي كانت جنازتها اليوم» (والدة المسافر الفلسطيني ناصر العامري). وهذا يتكرر مع صبيّ الجيلاتي في «بورتوفينو» الذي تذكره سريعاً أثناء استعادة ذكرياتها في إيطاليا، قبل أن نكتشف أنّه سيغدو لاحقاً الدكتور يعقوب، طبيب جمان. وتعمد الكاتبة إلى استخدام أفعال مستقبلية مسبوقة غالباً ب «سوف» وإشارات لا يكتمل معناها إلّا لاحقاً في النصّ، وهذه التقنية تُسمّى نقدياً «إرهاصات»، وهي تُشبّه بالبذرة التي لا تلفت النظر إلّا بعد أن تنمو وتنضج، غير أنّ «روح كلّ وظيفة قصصية هي بذرتها، وهي العنصر الذي يُيذّره السرد لينضج في ما بعد»، وفق ما يقول رولان بارت.

تفاصيل
تُثري العجيلي نصّها السردي بالتفاصيل من غير أن تدفع بقارئها إلى الملل. تهتم ببناء شخصياتها عبر تراكم تفاصيلها حتى لتغدو من لحمٍ ودم. وكذلك تعتني بتفاصيل المدن التي تصفها، ليصبح المكان شخصية قائمة بذاتها. حين تصف مدينة حلب مثلاً، تستعيد الشوارع بأزقتها الواسعة والضيقة، بمطاعمها القديمة والجديدة، مقاهيها، ناسها، أكلاتها، روائح مطخبها الذي لا ينافسه أي مطبخ آخر في العالم، على ما تقول جمان. كأنما بالكلام عن المكان تريح نفسها من شوق يخنقها حدّ الموت: «لا مطاعم الريتز، ولا مقاهي الشانزليزيه أو مقاهي أرصفة براغ، تساوي الجلسة على تيراس أوتيل بارون... في مطعم «دار زمريا» يقدمون كرات اللحم المطبوخة بفاكهة الكرز، على نغمات القدود الحلبية، يعزفونها عوّادون قد شربوا الفن مع حليب أمهاتهم».
وكم تبدو صورة المكان/ الحلم مؤلمة أمام مشاهد أخرى تنقلها الراوية من خلال عملها في المنظمات الإنسانية من داخل مخيمات اللاجئين، ومنها مخيّم الزعتري، وهي المساعدة الأقرب إلى هؤلاء الناس من بين العاملين الآخرين لكونها السورية الوحيدة بينهم. كانت جُمان تتمنى ألّا تزور المخيم لكنها ذهبت وصادفت اللاجئين الذين كانوا بالأمس أصحاب بيوتٍ وأراضٍ ومشاريع ومهمات، فبدت كأنها تتعرّف إلى وجهها الآخر، هي الآتية من عائلة إقطاعية سورية معروفة.
لكنّ الصدمة الأكبر في حياة جمان تبقى حين تكتشف إصابتها بمرض السرطان، حيث يصير الإنسان هو ضيف السماء المُحتمل، ويغدو الموت لصيقاً به كما ظلّه. ولا ندري ما إذا كان العنوان قد جاء من هنا أم من فكرة الإيمان الذي يتعزّز فجأة في قلوب المرضى والخائفين. «وحين انطفأ صفّ من الأضواء في أحد طوابق المركز، صارت النجوم أكثر لمعاناً، وبدا كلّ شيء محتوماً، الألم والموت والشفاء. السماء هنا قريبة، قريبة جداً ولا تحتاج إلى سلالم أو حبال». هكذا تختتم الرواية.
لا شكّ في أنّ رواية العجيلي تترك في نفسك غصّة نتيجة مشاهد موغلة في الواقع. فمن الجثث السورية التي لم تعد تجد تراباً يحتضنها، وهي بالمناسبة أصبحت تيمة تتكرر في الروايات السورية الجديدة كما في رواية «الموت عمل شاق» لخالد خليفة و «الذئاب لا تنسى» للكاتبة لينا هويان الحسن، إلى مأساة اللجوء والاغتراب وصولاً إلى شدّة المرض وثبوره، يقف القارئ على تماس مع واقعه المعقد إنسانياً وسياسياً واجتماعياً، من غير أن تُنهكه نبرة الرواية الميلودرامية. فالكاتبة عرفت كيف تُطعّم روايتها بمشاهد جمالية عالية، برزت في ذكريات جمان العائلية في مدينة بورتوفينو الإيطالية حيث صادفت داليدا مرات في الفندق، ومرات أخرى في الحفلات المسائية على سطح الأوتيل حيث غنّت رائعتها «عثرتُ على حبي في بورتوفينو»، وحيث كانت قبلتها الأولى هي وجورجيو الصبي الإيطالي الوسيم في قبو الفندق السحيق والرطب، وهناك استقلّت قوارب الصيادين وسبحت في مياه الأزرق الجميل.
جاءت المشاهد سحرية كجرعة تنفّس اصطناعية تُعيد إلى قلب القارئ نوراً يخرج من وسط ظلمة حالكة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.