عزمى عبد الوهاب من لحظة العثور على "مصحف فاطمة" تتفجر الصراعات المذهبية في رواية "سجاد عجمي "للروائية السورية"شهلا العجيلي" التي تنتمي إلى "الرقة" إحدى أهم حواضر الدولة العباسية، التي عانت التهميش سنوات طويلة، وفي قلب الحدث يبرز الدور الإيجابي للمرأة، مثلما كان الأمر في روايتها الأولى "عين الهر" التي تتمتع بحس صوفي عال، وقد صدرت طبعة خاصة منها في مصر. "شهلا العجيلي" أكاديمية تعمل في الجامعة الأمريكية بالأردن، ولديها تجربة في إغاثة اللاجئين، وأصدرت عدة كتب نقدية منها "الرواية السورية التجربة والمقولات النظرية" وهي معنا في هذا الحوار. كيف ترين ما يحدث في سوريا الآن؟ قاس جدّاً وصادم ولا نستحقّه، إنّه المرحلة التاريخيّة التي كان العربيّ حينما يصفها يقول لأخيه:"فإن استطعت أن تموت في ذلك الزمان فمت". هل يستطيع العمل الروائي أن يجيب عن أسئلة الراهن السياسي أم أنه يكتفي بطرح الأسئلة؟ الرواية عموماً لا تجيب عن الأسئلة أو تطرحها، بقدر ما تثيرها في ذهن المتلقّي، إنّها تطرح احتمالات الوجود، وتلك الاحتمالات ذات مستويات متعدّدة، ويشكّل السياسيّ أحدها، فعلاقة الرواية ببنيتها الثقافيّة الاجتماعيّة علاقة ملتبسة وإشكاليّة، مثلما هي علاقة البطل بمجتمع النص، إذ يشكّل أيّ تصالح بينهما سقوطاً في هاوية التنظير، أسئلة الرواية هي أسئلة الحياة ذاتها، أسئلة عن الحبّ والكره، عن الموت والخيانة والمستقبل والمرض والفقر والظلم، وقلقها هو قلق الوجود، الذي تعاينه الذات شديدة الحساسيّة كلّ لحظة. في أحدث رواياتك "سجاد عجمي" ترتدين أقنعة التاريخ وتعودين إلى القرن الثالث الهجري لماذا العودة إلى التاريخ تحديدا؟ التاريخ في "سجّاد عجمي" ليس قناعاً، إنّه فضاء النص، لقد تعمّدت الذهاب إلى هناك، لأتحدّى ذاتي معرفيّاً ولغويّاً، لأسلّط الضوء على جغرافيا محدّدة، هي مدينة الرقّة التي أنتمي إليها، والتي كانت إحدى أهمّ حواضر الدولة العبّاسيّة، والتي تعاني منذ مطلع القرن العشرين الإهمال والتهميش من قبل الأنظمة السياسيّة، والتي انتهت إلى حاضنة للإرهاب أخيرا، ذهبت إلى التاريخ لأؤكّد أنّ العلاقات البشريّة والعواطف والرغبات ثابتة في جوهرها، وأنّ الناس تحبّ وتكره تمنح وتستأثر، تظلم وتغدر وتتواطأ، وأنّ دناءات السياسة لم تتغيّر، وأنّ أصل الصراعات الثقافيّة والسياسيّة اليوم يعود إلى تلك الحقبة الماضية، ويتأجج مثل نار تحت الرماد، وعلى الرغم من كلّ التجارب التي مرّت بها البشريّة، والتطور التقني الذي وصلت إليه، يستطيع عقل براجماتيّ ما أن يجيّش الجيوش لأجل الدين والطائفة والعشيرة في سبيل مصالح مجموعة من الأشخاص، وبالطبع أردت أن أسلّط الضوء على المرأة في ذلك العصر، من خلال نماذج من النساء اللواتي أعدّهنّ جدّات أنثروبولوجيّات وثقافيّات، مختلفات عن النمط الذي تمّ تسييده من الجواري المثقفات، أو سيّدات المجتمع المخمليّات القابعات في القصور، إنّهنّ النساء الحرائر المثقّفات والعاملات. تدور أحداث "سجاد عجمي" في جانب منها عن فتنة تشتعل بين السنة والشيعة هل في هذا إسقاط على الراهن؟ عدت في "سجّاد عجميّ" إلى حالة وثائقيّة وهي الصراع بين السلطة السياسيّة السنيّة، مع أهل السنة من المنطقة الذين حموا آل البيت، وبيّنت الفرق بين الولاء بسبب الحبّ، والولاء بسبب السياسة من خلال حدث متخيّل له علاقة بخروج مصحف فاطمة إلى العلن، بعد أن حفر أحدهم بئراً في داره، فوجد النسخة الأصلية محفوظة في كيس من الجلد، منذ أحداث صفّين التي حدثت في تلك المنطقة، وسقت المتلقّي عبر السرد نحو منطقة يتأكد فيها من أنّ كلّ خلاف دينيّ أو مذهبيّ أو إيديولوجيّ عموماً هو خلاف ذرائعيّ، والمقصود من ورائه مصلحة سلطة ما أو جماعة ما، وهي دائماً قلّة قليلة، وذكّرت بأنّ الناس تنسى الأسباب المفجّرة للصراع، ولا تبحث عن حلّ لها، لأنّها توغل في الدماء، إذ تتناسل الثارات، وهكذا يتحرّك التاريخ ويسحقنا بوصفنا أفراداً عاديّين، نتساوى أمام الحرب والموت والفقد مثلما نتساوى أمام الحبّ والسهد والأشواق. المرأة في "سجاد عجمي" قوية ومتحررة ومع ذلك تنتهي بالانسحاب من الحياة هل يعود ذلك إلى ضغوط اجتماعية تضطرها إلى الانسحاب أم أن خللا ما بداخل المرأة لا تستطيع تجاوزه؟ في "سجّاد عجميّ" المرأة لا تنسحب ولا تستسلم، إنّها تواجه قدرها بشجاعة، وتواجه الحرب بالعمل والفنّ والحبّ، أي بالثقافة، وتبحث دائماً عن بدائل منطقيّة وواقعيّة، إذ تداوم "ريّا" على الرغم من الدمار الذي أحدثته الفتنة في السوق إلى حانوتها، وتباشر صناعة خزفها، وكذلك تفعل "لبانة" إذ على الرغم من فقدها ولدها الذي غرق في الفرات، استطاعت أن تحبّ، بل تركت المكان كلّه، ورحلت إلى طبرق في أقصى المغرب العربيّ، مع من مدّ لها يد الحبّ والأمان، النساء استطعن التخلّي عن الحبيب الذي يعذّب ويهجر ويخون ويقسو، ليخترن الرجل الذي يمنحهنّ الشعور بالثقة والمشاركة والأمان، إنّهنّ نساء يتمتّعن بفضيلة الحريّة. في روايتك الأولى "عين الهر" نرى ملمحا صوفيا من أين جاءتك هذه الخبرة المعرفية هل من ممارسات حياتية أم من قراءة التراث؟ التجارب الصوفيّة التي اشتغلت عليها في روايتي "عين الهرّ"، لها علاقة بالتصوّف كما تراه الثقافة غير العالمة، وتحديداً بما يفعله الدراويش والذاكرون في الموالد، والذين يؤمنون أو يحاكون الطرق الرفاعيّة والنقشبنديّة والجيلانّة، وهذه الممارسات شهدتها كثيراً، في مضافة الأسرة في الرقّة، حيث يجتمع أصحاب الذكر في المناسبات الدينيّة أو في إحياء مولد الرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم، معلنين به عن نهاية طقس العزاء بوفاة ما، كما شهدتها في الزاوية الهلاليّة الشهيرة في حلب وفي لبنان وفي الجزائر وفي قونية.. أمّا الفكر الصوفيّ أو الخطاب العرفانيّ عموماً، فقد كان جزءاً من دراستي للأدب، ونال حظّاً وافراً من قراءاتي الشعرية والنثريّة على مرّ الوقت. في الرواية نفسها كتبت عن المرأة والعالم والتصوف برؤية امرأة كيف تختلف هذه الرؤية لديك عنها لدى الرجل؟ الاختلاف بين رؤية المرأة للعالم ورؤية الرجل له، هو ما يسمّى بالخصوصيّة الثقافيّة النسويّة، وهذا الاختلاف ليس عارضاً أو سطحيّاً أو مؤقّتاً، إنّه جوهر وهويّة معقّدة، يشترك فيها البيولوجيّ والجندريّ والتاريخيّ والاجتماعيّ والطبقيّ، ولا شكّ في أنّ لهذه الرؤية جماليّاتها المختلفة، وما يهمّ في الأمر هو أن نتلقّاها على أنّها مختلفة لا مضادّة. هل ترفضين أن يصنفك الآخرون ضمن من يكتبن الأدب النسوي؟ حينما يتناول النقد الكتابة النسويّة تحت مظلّة الخصوصيّة الثقافيّة النسويّة، التي تكلّمت عنها آنفاً، فإنّ تصنيفي بوصفي كاتبة نسويّة يغدو امتيازاً أسعد به، لأنّه يرسم العالم بتفاصيله كلّها وبقضاياه كلّها، برؤية مغايرة للسائد، وهذه المغايرة مهمّة من مهمّات الفنّ الرئيسة. كثرت في الفترة الأخيرة مقولات حول كسر تابو الجنس، وبدا الأمر وكأن من يعبر هذا التابو ينقصه شيء ما حين يقع تحت دائرة النقد، كيف تتعاملين مع هذه المسألة في الكتابة؟ يقع فعل الكتابة برمّته في دائرة المحظور، ولعلّ تاريخ الرواية تحديداً هو تاريخ مواجهة مع التابو، لأنّ أيّ اعتراف بوجود إشكاليّة مع سلطة ما، يعدّ مواجهة لتلك السلطة، وانتهاكاً لجلالها، لا كتابة من غير مواجهة، وبهذا تكون دائرة التابو أوسع من حصره في الكلام المباشر عن الجسد أو الدين أو السياسة، كما جرت العادة، ولعلّ مثل هذه المباشرة البعيدة عن الفنيّة قد استنفدت أدواتها، وفقدت قدرتها على الإدهاش، في نصوصي تعاملت بوضوح مع ثالوث المحظورات، وتمكّنت من تمرير الأفكار التي أريد، من غير أن أسبّب الأذى لا للنصّ ولا لمتلقّيه، إنّها لعبة الفنّ بالدرجة الأولى، والتي تؤثّر فيها الخلفيّة الثقافيّة الاجتماعيّة الليبراليّة التي قدمت منها. تمارسين العمل النقدي بجوار الإبداع متى يظهر أو يختفي الناقد بداخلك أثناء الكتابة الإبداعية؟ أستطيع أن أشبّه كتابتي من حيث العلاقة بين الإبداع الذي أمارسه، والنقد الذي أدرّسه، بالهجنة الإيجابيّة التي تحدث بين سلالتين من الخيول، عربيّة تتقن الجري، وأجنبيّة تتقن القفز، وعنها ينتج جواد سريع وقادر على القفز في آن معاً، وهكذا تستطيع معارفي النقديّة أن تستشعر مزاج المرحلة، وما يقال وما لا يقال، وما يستميل المتلقّي وما ينفّره، من غير توظيف للنظريّات النقديّة أو لغتها في الكتابة الإبداعيّة، جملة النقد تقبع في مكان آخر من الدماغ، وهو مكان قصيّ عن الآخر الذي تستريح فيه الجملة الروائيّة أو القصصيّة. أصدرت كتابك "الرواية السورية التجربة والمقولات النظرية" انطلاقا من سؤال حول انفضاض القارئ من حول الرواية السورية ما الإجابة التي توصلت إليها في هذا الكتاب؟ النتيجة العامّة التي قالها كتابي: إنّ الإيديولوجيا وما أسفر عنها من نزاعات وشلليّة أساءت إلى الرواية السوريّة، وإلى النقد الروائيّ الذي كان إيديولوجيّاً بالمعيار الأوّل، فتصدّرت أسماء وأعمال على حساب أخرى، وكان الخاسر في ذلك الرواية السوريّة التي لم تأخذ حقّها في الانتشار والترجمة بسبب ذلك. بالنسبة للأجناس السردية لماذا تبدو القصة القصيرة هي الأعلى كعبا في سوريا بالنظر إلى تجارب زكريا تامر وإبراهيم صمويل وجميل حتمل؟ أعتقد أنّ الأمر يعود للسبب ذاته، الحصار الإيديولوجيّ، فالرواية تحتاج إلى مجتمع أوسع متعدّد وليبراليّ ومدينيّ، في حين مرّت على سورية تجارب حاصرت المجتمع بالواحديّة والترييف والإقصاءات، استطاعت القصّة القصيرة نظراً لرشاقتها في تخطّي المحظورات، وبلاغتها وكثافتها من أن تنجو من ذلك الحصار، الذي أذكاها أكثر، وصار القاصّ يتفنّن في الحيل السرديّة والتجريب ليقفز من السور، أو ليمرّ عبر الأسلاك الشائكة. لك تجربة شخصية في العديد من مخيمات اللاجئين، ما أبرز مشاهداتك الحية في هذا الاتجاه فيما يخص المرأة تحديدا؟ تجربة اللجوء من أقسى التجارب التي يمكن أن يواجهها الإنسان، وبالطبع لا يشعر بقسوتها الفادحة إلاّ اللاجئ الحقيقيّ، أمّا المساعد والعامل في المنظّمات الإغاثيّة فمهما كان تعاطفه وانخراطه في القضيّة، يعرف أنّه سيعود في النهاية إلى بيته، هذا الذي شعرنا به حقيقة مع ما تعرّضت له سوريا من نكبة أخيرة، ففقد الناس منازلهم وذويهم، وقرّر عدد كبير منهم الارتحال واللجوء، اللجوء قضيّة تتعلّق بوجودك الفيزيائيّ أوّلاً، وبهويتك الثقافيّة، والسؤال الأصعب الذي يسأله اللاجئ: ماذا سيحلّ بي غداً؟ ما نلاحظه عن النساء أنّهنّ في مثل هذه المنعطفات يبدين في الغالب قوّة منقطعة النظير، ويجابهن الواقع بعيداً عن الانكسار الذي رأيته في عيون كثير من الرجال، كنّ يفعّلن ما يسمّى بالعقل العمليّ، ويقمن نظاماً أسريّاً غاية في الترتيب يعوّضن به عن الحياة التي فقدنها، ويقمن أود العائلة معتمدات على خبراتهنّ الأنثروبولوجيّة الثقافيّة، ويصبحن محور المكان، وتصير المرأة أعنف، لأنّها تشعر أنّها مستهدفة في أنوثتها وفي هويّتها، بوصفها حاملة رمزيّة للشرف والهويّة الوطنيّة. كانت "الرقة" مسرحا لأحداث روايتك "سجاد عجمي" وتقولين عنها إنها بداية العالم ونهايته بالنسبة لك، ما الذي منح الرقة هذا الحضور لديك؟ كنت أقول دائماً هي بدية العالم وليست نهايته، إنّها ذاكرتي الأولى، وتسليط الضوء عليها قد يكون نوعاً من الوفاء، ومن الوقوف إلى جانب المهمّشين والمستضعفين، فضلاً عن أنّني لم أكشف سرّ هذه المدينة حتّى اليوم، فهي على الرغم من صغرها وبعدها عن المركز وبساطتها الظاهرة عميقة جدّاً، فجذورها ضاربة في التاريخ، إذ تعود إلى الألف العاشرة قبل الميلاد، حيث استوطن الإنسان هناك على شاطئ الفرات، كما أنّها مدينة المتناقضات، التي تصنع حالة دراميّة متفوّقة، ولأنّني روائيّة فلاشكّ في أنّ كلّ ما هو دراميّ يأسرني: الحريّة والقيد والعطاء والمنع والحزن والفرح والقسوة والسماحة، الرقّة تمتلك كلّ المقوّمات التي تجعلها مكاناً مرموقاً اقتصاديّاً وسياسيّاً وثقافيّاً، لكنها دائماً وبشكل ممنهج، تخسر نتيجة فرق حسابات. دائما ما يقفز اسم عمك الروائي والسياسي الكبير "عبد السلام العجيلي" في أية حوارات صحفية تجرى معك، هل يشكل ذلك عبئا ما أم أنه مبعث فخر أن تنتمي إلى هذا الرجل؟ دائماً أكون في غاية السعادة حينما أسأل عن قرابتي بالدكتور عبد السلام العجيلي، الذي هو عمّي، إذ يمنحني هذا الانتماء مشروعيّة ثقافيّة ومسئوليّة أعتزّ بها، وشعوراً بالأصالة أستدعيه كلّما حاصرتنا السطحيّة والادّعاء والاستهتار .