المصريون في كندا ينهون التصويت في انتخابات «النواب» وسط تنظيم متميز    أسعار الفاكهة اليوم الأحد 9 نوفمبر في سوق العبور للجملة    مصر تتصدر إنتاج التمور عالميًا وتوسع صناعاتها لزيادة القيمة المضافة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 9 نوفمبر    الصين تواصل توسعها في أبحاث الفضاء بإطلاق 3 أقمار صناعية تجريبية جديدة بنجاح    إجراء التقييم المبدئي لطلاب الصفين الأول والثاني الابتدائي.. في هذا الموعد    نظر محاكمة 213 متهما ب«خلية النزهة» بعد قليل    الكاتب السوري سومر شحادة: السوق المصرية تمثل لي أفقًا حقيقيًا للكتابة والقراءة    السوبر المصري.. بيراميدز يتحدى سيراميكا في مباراة تحديد المركز الثالث    مستوى قياسي.. سعر الذهب اليوم الأحد 9-11-2025 بعد ارتفاع الأعيرة محليًا وعالميًا    واشنطن تهمش دور إسرائيل بشأن وقف إطلاق النار في غزة    اعتقالات ومداهمات إسرائيلية فى الضفة الغربية    وزير التعليم العالي: فوز مصر بعضوية "اليونسكو" تتويج لرؤية الرئيس السيسي في تعزيز الحضور الدولي    حظك اليوم الأحد 9 نوفمبر.. وتوقعات الأبراج    شركات السياحة تطالب إدارة المتحف المصري الكبير باستثناء الأفواج القادمة من الغردقة وشرم الشيخ وتخصيص 5 آلاف تذكرة يوميًا لهم    البحر الأحمر تنهي استعدادتها لاستقبال 336 ألف ناخباً للإدلاء بأصواتهم في انتخابات مجلس النواب    إجلاء ما يقرب من مليون شخص مع تهديد الإعصار فونج وونج للفلبين    بسبب تركيبة حليب أطفال، تسمم رضع في 10 ولايات أمريكية والسلطات تفتح تحقيقًا    طقس اليوم: مائل للحرارة نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالقاهرة 28    سوريا تنفذ عمليات استباقية ضد خلايا لتنظيم داعش    أسفر عن مصرع وإصابة 14.. معاينة موقع حادث انقلاب سيارة بطريق الكريمات    محمد صلاح: الزمالك قادر على حسم السوبر.. وعبد الرؤوف يسير على الطريق الصحيح    أبرز مباريات اليوم الأحد 9 نوفمبر 2025 في جميع المسابقات والقنوات الناقلة    صفاء أبو السعود: حفل «جراند بول» يدعم مرضى السرطان.. ويقام للمرة الأولى في مصر    إخلاء سبيل شخص وصديقه بواقعة التحرش اللفظي بسيدة فى بولاق أبو العلا    خطوات استخراج الكارت الموحد بديل بطاقات التموين في مصر    «إنت بتغير كلامي ليه! أنا عارف بقول إيه».. نقاش ساخن بين أحمد فتحي وخالد الغندور بسبب نجم الزمالك    عيار 21 الآن بعد آخر ارتفاع.. سعر الذهب والسبائك اليوم الأحد 9-11-2025 في مصر    قناة DMC تقدم تغطية حصرية لفعاليات مهرجان القاهرة السينمائى    عمرو أديب يجيب على سؤال اعتزاله: «تاريخي ورايا مش قدامي»    حبس وغرامة.. نقيب الأطباء يكشف عقوبة التجاوز والتعدي على الطبيب في القانون الجديد (فيديو)    وزير النفط الكويتي يبحث قضايا بيئية مع مسؤولين في كوب 30    من الأرز إلى النيل.. الموارنة يجددون رسالتهم في مصر عبر أربعة قرون من العطاء    «معي في قائمة المنتخب».. حلمي طولان يفاجئ لاعب الأهلي قبل ساعات من السوبر    المخرج مازن المتجول في حوار ل«المصري اليوم»: احترم جميع الآراء حول حفل افتتاح المتحف الكبير.. والانتقادات 3% من ردود الأفعال    عمرو الحديدي: الأهلي يفتقد لتواجد إمام عاشور.. ومباراة القمة تكتب دائمًا شهادة ميلاد العديد من النجوم    مسئول أممي: المشهد الإنساني في مناطق بالسودان يثير القلق جراء العنف المتواصل    خوفاً من فضيحة العزوف الشعبي.. هيئةالانتخابات تُخفي صور اللجان بالخارج!!    كورنيليا ريختر أول أسقفة في تاريخ الكنيسة الإنجيلية بالنمسا    «ليس زيزو أو بن شرقي».. أحمد جعفر يكشف أخطر لاعبي الأهلي على دفاع الزمالك    غير صورتك الآن.. رابط موقع تحويل الصور مجانًا ب الذكاء الاصطناعي بعد ترند الزي الفرعوني    ارتفاع عدد المصابين إلى 10 أشخاص فى انقلاب سيارة على الطريق الإقليمى بالمنوفية    إسرائيل حذرت أمريكا وجيش لبنان من عودة حزب الله بقوة    للتخلص من العفن والبكتيريا.. خطوات تنظيف الغسالة بفعالية    نجاح فريق طبى بمستشفيات جامعة بنى سويف فى إنقاذ مريض تلقى طعنتين بالصدر والبطن    أرتيتا بعد التعادل مع سندرلاند: لا أريد الشكوى من أي شيء    تعليم الجيزة تحسم الجدل بشأن تأجيل الدراسة أثناء انتخابات مجلس النواب    تزوجت 5 مرات وتعاني من مرض مناعي نادر.. 17 معلومة عن الإعلامية منى عراقي    زوجة محمد محمود عبدالعزيز تعاني من نزيف داخلي.. 6 أسباب تعرض الحوامل لخطر «الولادة المتعسرة»    المحكمة تُسدل الستار على قضية «أطفال دلجا» وتقضي بإعدام زوجة الأب    تعريفات ترامب الجمركية أدوات لتحقيق أهداف سياسية    كيف نحوِّل المتحف الكبير إلى عملة أجنبية تُخفِّض تكلفة الدَّين الخارجي؟    مقعد آل كينيدي!    «عدد كتب الغيب 3».. خالد الجندي: الله قد يغير في اللوح المحفوظ    أمين الفتوى: صلاة المرأة بملابس البيت صحيحة بشرط    دار الإفتاء توضح ما حكم المشاركة في تجهيز ودفن الميت الذي لا مال له؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 8-11-2025 في محافظة الأقصر    رئيس جامعة الأزهر : من لم يعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتفى عنه العلم كله وصار في زمرة الجهلاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"نبي بلا أتباع" لخالد الصاوي يكشف الكثير من المسكوت عنه شعريا
نشر في صوت البلد يوم 31 - 10 - 2015

لم أدر سر عدم الاهتمام بديوان "نبي بلا أتباع" للفنان خالد الصاوي عندما صدر في طبعته الأولى عام 1995، فلم نقرأ عنه كلمة نقد أو متابعة، أو مدح أو ذم، الأمر الذي جعل صاحبه يتشكك في شاعريته، ويعتقد أنه فشل في الشعر، فلم يسمع أحد بالديوان، ووزعت جميع نسخه بالمجان طمعا في بعض الانتشار، وقرأ الصاوي بعض قصائده في معرض القاهرة الدولي للكتاب ولكن .. لا شيء.
هل ربط البعض بين خالد الصاوي الفنان وخالد الصاوي الشاعر، فاستكثروا عليه الجمع بين الشعر والفن السينمائي والمسرحي؟
هل مَثُلتْ بعض التجارب الشعرية الرديئة لبعض الفنانين في أذهان النقاد والقراء، فأدخلوا خالد الصاوي في هذه الدائرة دون أن يقرأوا له؟ وهل الصورة النمطية المأخوذة عن الفنان (الممثل تحديدا) أنه يحاول تجميل نفسه بالشعر إلى جانب الفن فيفشل، هي السبب وراء عدم الاعتراف بخالد الصاوي شاعرا جيدا؟
أنا شخصيا لم أكن أعرف أن الصاوي شاعر جيد، إلا عندما استمعت إليه في حفل تكريمنا في دبي من قبل مجلة "دبي الثقافية" في دورة توزيع جوائزها السادسة على الأدباء الشباب في أكتوبر/تشرين الأول 2009، وهناك استمعت له بإنصات كامل ورغبة حقيقية في محاولة التعرف على عالمه الشعري، وسبر أغواره، خاصة أن "دبي الثقافية" تكرمه باعتباره شاعرا وليس باعتباره فنانا متميزا.
لقد شاهدت من قبل كتبا تحمل اسم خالد الصاوي ولم أتحقق أن هذه الكتب تخص الفنان الذي نعرفه ونحب فنه وأدواره المتميزة والتي حبسته أو نمطته أحيانا في دور الشرير أو الماكر العصري، وأعجبتي أكثر بعض أدواره المركبة بعض الشيء، وبراعته في أدائها.
ولكن حقيقة لم أكن قد قرأت له شعرا من قبل، رغم متابعتي لكتاباته في مجلة "دبي الثقافية" التي أسهمت في معرفتنا الأدبية بخالد الصاوي.
وجاءت الطبعة الثانية من ديوان "نبي بلا أتباع" لتحقق انتشارا وذيوعا لم تحققه الطبعة الأولى التي لم يسمع بها الكثيرون من قبل. فهل الانتشار والإجادة الفنية كانت وراء انتشار وذيوع تلك الطبعة؟
لن نتعامل مع شعر خالد الصاوي من منظور أنه فنان جيد، ولكن سنتعامل معه باعتباره شعر، ومن منظور أنه شاعر وليس فنانا، على الرغم من بعض التأثيرات التي لحقت قصائده من منطلق كونه فنانا (مثل قصيدته "سيدة المسرح")، فهو في النهاية شخص واحد، ومن هذه التأثيرات يأتي ذلك التصاعد الدرامي الذي نشاهده في بعض القصائد، وذلك السيناريو الذي نقرأه ونشاهده في بعض المتون، بل أن بعض القصائد نرى أن مخرجا بارعا يقف وراءها مثل قصيدة "هزيمة نيرونَ العاشق".
ليس الصدق وحده على أهميته هو الذي يميز هذه القصائد، ولكن الخبرة الفنية، والثقافة الواضحة، والهموم الحياتية، والنظرة الفلسفية، والموهبة المتدفقة، واللغة الطيعة، والشعرية العالية، والاستفادة من العوالم الفنية المسرحية والسينمائية، واستثمار التراث الشعري القديم عن طريق التناص والتضمين، هو الذي يشكل العالم الشعري لخالد الصاوي في ديوانه "نبي بلا أتباع" الذي حوى 38 قصيدة كتبت على فترات مختلفة، كما تشي فنية القصائد بذلك (فليس هناك تواريخ مثبتة على كل قصيدة)، فهو ينطلق من قصائد عمودية ربما تنتمي إلى المرحلة الأولية أو التقليدية في أعماله مثل قصيدته العمودية الطويلة "ديوان الفتى" التي جاءت من بحر الطويل ووقعت في 73 بيتا وبها أصداء من المتنبي في قوله:
على قدر أهل العزم .. تأتي المصائبُ ** وتأتي على قدر اللئام المناصبُ
وأصداء من أبوفراس الحمداني في قوله:
بلى .. للهوى نهيٌّ عليَّ .. ولي هوى ** ولكن هوى الفتيان قتل مركَّبُ
ولعلنا نلاحظ أن هذا التناص مع قصيدة المتنبي الشهيرة يخضع لرؤية السياسي في خالد الصاوي الذي يشتبك مع الواقع منذ حداثة سنه، فهو يحوِّر ويغير في بيت المتنبي بما يتلاءم مع نظرته للواقع الاجتماعي والسياسي الآني، وبما يتماشى أو يتوافق مع الرؤية العامة للقصيدة التي يقول فيها:
فأبصرت أرضا للضعاف مقابرا ** وفردوس خلد للذين تغلبوا
متاريسها الإيمان بالضعف ذاته ** ومن يعبد الدنيا تصبه المصائبُ
هكذا نستطيع أن نقرر كيف كانت رؤية الذات الشاعرة للعالم في بدايات الصاوي، وكيف كانت ترى أن الشعر لابد أن يتلفع بأبيات من الحكمة التي نراها متناثرة في بعض أبيات تلك القصيدة، ومنها:
ومن شرف الفتيان ألا يُقطِّبوا ** إذا ابتسم الموت الشريف المحاربُ
وهكذا أتصور بدايات خالد الصاوي الشعرية التي لا يلبث أن يتحرر منها ومن الشكل العمودي الذي قدم من خلاله دليلا على امتلاك أدواته الفنية والتعبيرية، ومن اللغة القاموسية أو المعجمية أو الشعرية التي تنتمي إلى أزمان سابقة، وهل هناك أصعب من ركوب الطويل بحرا شعريا بالنسبة لتجارب شاعر شاب يعيش زمن الحداثة.
ولم يكن بحر الطويل أو الكامل وعاء لأبيات تتصف بالحكمة والحفاظ على المنظومة الشعرية التراثية فحسب:
لو انَّ الفتى حجر .. لو انه مدفع ** يميد إذا مادت عليه العواقبُ
(مع ملاحظة أن التفعيلة الثانية في الشطر الأول جاءت على وزن مفاعلَتُن وليس مفاعيلن كما هي منظومة الطويل، ويستقيم الوزن إذا قمنا بتسكين الجيم في حجر، ولكن لا يستقيم اللفظ والمعنى).
إننا نرى أن وعاء الكامل اتسع أيضا لتجارب عاطفية ساخنة لدى خالد الصاوي مثل القصيدة التي يختم بها ديوانه "نبي بلا أتباع" وهي قصيدة "عودي" التي يقول في مطلعها:
عودي فإني قد سئمت وجودي ** وكرهت ذاتي .. وارتضيت قيودي
أنا في الطريق إلى المحال أحبه ** وأحب أن تأتي بلا تمهيدِ
ألقاكِ في أمسيةٍ كُحْليَّةٍ ** فيفيض برقي .. تُستباح رعودي
هكذا نرى بدايات خالد الصاوي الشعرية التي تؤكد موهبته المتدفقة (سبعون بيتا من الطويل على سبيل المثال تؤكد هذا التدفق والانثيال الشعري) في مطلع شبابه، ولا يلبث الشاعر إلا أن يتمرد على هذا الشكل وعلى تلك اللغة التقليدية والرومانسية معا، ليشكل عالمه الخاص المنتزع من تجاربه اليومية الواقعية أو التصادمية مع هذا الواقع سياسيا واجتماعيا، لتتشكل رؤى أخرى ونظرات وأفكار عصرية تتطلع نحو المستقبل، للدرجة التي يتنبأ فيها بما قد يحدث غدا أو في الزمن القادم وخاصة في مجال استقبال الفن والشعر أو ما يمس المشاعر الإنسانية الصادقة والفياضة والعميقة:
يأتي زمن ..
يصبح فيه الشعر موادا تدرس في التاريخ
"كان الإنسان يقول الشعر سنينا بعد أن اخترع الصاروخ
ينفجر الأطفال الأحفاد من الضحك
فيدقُّ الأستاذ المكتبَ .. يستطرد
"حتى لفظوا آخر أنفاسهم ..
في منعزل بين الكردونات السلك"
ليس فقط التنبوء أو التوقع هو الذي يلفت الأنظار في قصيدة "تنبوء"، ولكن المعالجة الشعرية أو الصياغة الشعرية هي ما يلفت الأنظار أكثر، ففي هذا المقطع القصير من القصيدة الطويلة التي جاءت في ست صفحات، نجد صعودا للسرد الشعري، وحضورا للسيناريو، أو للمشهد الذي هو الوحدة الأساسية لبناء السيناريو، كما نجد لغة أكثر عصرية من لغة القصيدتين السابقتين، فضلا عن وضوح الرؤية وتصاعدها بطريقة درامية، يميزها تعدد الأصوات:
يأتي زمن ..
تتكاثر فيه استفسارات تلامذة الحفريات عن الزمن الغابر
عن شكل الشاعر ..
(الشاعر مرحلة وسطى بين الإنسان القرد
وبين الإنسان الطائر).
فإلى جانب صوت الشاعر وصوت الشعر نفسه، نجد أصواتا أخرى منها صوت الأستاذ وصوت التلاميذ، وصوت الناس، الأمر الذي يؤكد على الموضوعية وبداية التخلي عن الغنائية (التي رأيناها بوضوح في قصيدة "عودي") في العالم الشعري لخالد الصاوي.
بل إنه يبدأ في التخلي عن الأوزان الطويلة والتفعيلات السباعية من الطويل والهزج والكامل وغيرها، لتدقَّ موسيقى الخبب بإيقاعاته العصرية القصيرة السريعة المتلاحقة، إلى جانب موسيقى الرجز (الذي كان حمار الشعراء قديما)، بل نرى نصوصا تخلت تماما عن تلك التفعيلات أو الإيقاعات الخليلية، لتفسح المجال لصعود إيقاع قصيدة النثر التي تعد تحولا آخر في العالم الشعري لخالد الصاوي.
فن كتابة الإبجرامة يعد أيضا تحولا جديدا في ذلك العالم الشعري حيث تعتمد "قصائد في فنجان" التي تتكون من 14 مقطعا على إبداع الإبجرامة أو الومضة الشعرية التي تتسم بالقصر والتكثيف والمفارقة والمفاجأة:
عزلتنا أنَّا ..
حين نقابل بعضا
توقفنا مصافحةٌ عجلى .. لتفرقنا ..
عزلتنا أنَّا ..
نمشي عددا
نهوي .. أحدا
أحدا.
هكذا يفلسف الشاعر ويصور عزلة الإنسان المعاصر، من خلال التجريد الشعري.
ونختم وقفتنا هذه مع ديوان "نبي بلا أتباع" لخالد الصاوي بإطلالة على قصيدة إنسانية أتصور أنها عالمية لأنها تصلح لكل زمان ومكان رغم أن بطلها حيوان هو الثعلب.
لقد قرأنا من قبل شعرا وأدبا على ألسنة الطيور والحيوانات، ويكفي أن نضرب مثلا بكتاب "كليلة ودمنة"، وقصائد شوقي للأطفال والناشئة التي كتبها على ألسنة الحيوانات، ومنها قصيدة الثعلب التي يقول فيها:
برز الثعلبُ يوما في ثياب الواعظينا
يمشى في الأرض يهدي ويسب الماكرينا
ويقول الحمد لله إله العالمينا
يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبينا
وازهدوا .. إنَّ العيش عيش الزاهدينا
واطلبوا الديكَ يؤذِّنْ لصلاة الصبح فينا
فأتى الديكَ رسولٌ من إمام الناسكينا
عرضَ الأمرَ عليه وهو يرجو أن يلينا
فأجابَ الديكُ عذرا يا أضلَّ المهتدينا
بلِّغ الثعلبَ عنِّي عن جدودي الصالحينا
عن ذوي التيجان ممن دخلوا البطن اللعينا
إنهم قالوا وخير القول قول العارفينا
مُخطئ من ظن يوما أن للثعلبِ دينا
ولكن الأمر مختلف مع قصيدة "مذكرات فراء" لخالد الصاوي، إنها لقطة أخرى ومشاهد حية من الحياة جاءت على تفعيلة بحر الرمل (فاعلاتن) وهي التفعيلة نفسها التي كتب منها شوقي قصيدة الثعلب السابقة ولكن على النسق العمودي.
في قصيدة الصاوي يتذكر الثعلب فراءه الجميل الذي يعرض في المحال الأجنبية (دلالة على ارتفاع ثمنه وغلو سعره، فلا يباع بالعملة المحلية)، ويسترجع (فلاش باك) أيامه الجميلة حين كان أشطر ثعلب في الحي:
أذكر الآن كثيرا من صبايْ
كنت أشطر ثعلب في الحي أذكرُ ..
لم يكن في الحي من ذكَرٍ سوايْ!
كنت شابا في سني عمري الفتية .. أرضعتني الأرضُ ..
أطعمني انطلاقي
كيف أقنع أن أعلق فوق أثواب الحرير فراء زهوي
واشتياقي؟
ويبدو أن الصاوي يحاول أن يغير الصورة النمطية المأخوذة عن الثعلب ومكره وحيله التي جسدتها قصيدة شوقي، فيقدم لنا ثعلبا إنسانا، فيخلع عليه صفات الإنسان النبيلة. إنه يؤنسن الثعلب، ويشخصن فراءه المعروض في المحلات فوق فستان سهرة، إلى أن تتلقفه يد إحدى الحسناوات التي أخذت تقلب فيه لتعرف تاريخ صنعه، ولما أحست الحسناء أنها أوغلت في التقليب والتأكد، وأحس الفراء أنها لوثته من كثرة التداول والتقليب، قررت أن تشتريه وكان الزمان صيفا فعلقته شهورا دون أن تستخدمه فيصرخ الفراء طالبا حريته:
علقتني
منذ شهر ومسامي تختنق
"افتحيلي ..
افتحيلي ..
كان شهر الصيف يضحك من جنوني
وعيوني تحترق.
وهكذا تمضي رحلة الفراء من شهر إلى شهر حتى يحين وقت الشتاء وتفرج الحسناء عنه، وتدب فيه الحياة الدافئة، ولم لا وهو يحتضن هذا العنق وهذا الجسد الأنثوي الباذخ الأحادي النظير:
صرت حضنا
صرت نبضا
اكتسى ريشي انبهارا
جادل الموت غيابي والحضور
صرت حيا
وعلى الرغم من أن جميع المخلوقات تهرب من البرد والزمهرير، إلا أن فراء الثعلب أحبَّ هذا البرد الذي ينقذه من الإهمال واللامبالاة، إنه سيخرج إلى الحياة ويداعب هذا الجسد ويشاهد حفلات الرقص، بل إنه يحس بالغيرة (خاصة بعد أن يتذكر أنه لم يكن في الحي من ذكَرٍ سوايْ!) حين تتركه صاحبته على مؤخرة السرير وتمارس الحب مع من كانت ترقص معه، بل يكون شاهدا على كذبها عندما تبدله بفراء جديد سعره ثلاثة أضعاف السعر الذي اشترت به هذا الفراء الذي يرثي لحاله:
بعد شهر أبدلتني بفراء سعره ضعفي ثلاثا
أقسمت وهي تسلمني لكف إنني لم أبصر الشارع مرة!
أقسمت وهي تسلمني ثلاثا!!
تركتني فوق فستان لسهرة
أتلمس من جديد ظهر أخرى
سوف أعشقها غد
سوف أذكر كل أيام التثعلب في يديها
تشعل الإيقاع في كبدي .. لتتركني أبات الليل وحدي
وتبدِّلني غدا
حين تقسم إنني لم أنظر الشارع مرة
وحين يفهم الثعلب أو فراؤه لعبة الحب والأكاذيب، وأنه صار سلعة تتداول في سوق النخاسة من خلال تلك الأكاذيب، فيعلن عن رغبته في المكوث بالدولاب بدلا من التعرض للتنقل من حسناء إلى حسناء تضرب بمشاعره عرض الحائط، فهو مجرد سلعة تدر المال على صاحبته، فيقول فاضحا كل الأكاذيب الأنثوية في تلك الطبقات الثرية:
فدعيني في دولابك .. ها هنا أحلى .. ولا تتكلمي
صمتكن .. صار أحلى .. ألف مرة.
ومثلما فضح الصاوي تلك البيئات الفقيرة التي تستخدم القطار اليومي (أو مترو الأنفاق) وتمارس الفحش والفجور لدرجة أن الأب يمارس رغبته الحسية مع ابنته دون أن يعلم أنها ابنته كما رأينا في إبجرامة سابقة، كذلك يفضح الشاعر تلك الطبقات الغنية التي تمارس الأكاذيب والفجور من خلال مرثية الثعلب لفرائه.
إن ديوان "نبي بلا أتباع" منذ عنوانه الذي لم نجد قصيدة تحمله داخل المتن يثير الكثير من القضايا والإشكاليات، ويكشف الكثير من المسكوت عنه عن طريق الشعر الكاشف الصادق المعبر بجمال واقتدار، وهذا ما تقدمه دائما الأعمال الإيداعية الجيدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.