تعد الأزمة الكردية ذات أبعاد متعددة ومتداخلة مع أطراف إقليمية تمتد لتشمل إيران في الجانب الشرقي مروراً بتركيا شمالاً والعراقوسوريا إلى جهة الجنوب والجنوب الغربي وعلى الرغم من تباين وجهات النظر بين هؤلاء الأفرقاء الإقليميين - المعنيين بشكل مباشر بالشأن الكردي - حول وجهات النظر فيما يتعلق بأزمات منطقة الشرق الأوسط، إلا أنهم يجمعون الرأي حول الموقف من القضية الكردية بعدم السماح بقيام دولة كردية منفصلة. وفي هذا الإطار من المكون الإقليمي للقضية الكردية سعت الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية الذي يتزعم رجب طيب أردوغان إلى إحداث اختراق في الأزمة الكردية فأبرمت اتفاق مع زعيم حزب العمل الكردستاني عبدالله أوجلان - الحبيس لديها – للدخول لعملية تفاوضية على أن يضع الحزب سلاحه، وعلى الرغم من الأكراد الذين نفذوا الجزء الأكبر مما يليهم من الاتفاق، إلا الأتراك لم يراوحوا مكانهم فلم يتجاوز بالاتفاق مرحلة التوقيع رغم دخوله عامه الرابع من إبرامه. في غضون ذلك حدث تطور لافت بدخول قوات ما يُسمى بالدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش) الموصل في شمال العراق، وأحكمت سيطرتها على قطاع كبير من الأراضي العراقية حيث تمتد من حدودها مع إيران إلى حدودها مع سوريا، مما أدى إلى إرباك الوضع وإحداث خلل في التوازن البنيوي على الصعيد العسكري والأمني للعراق وهو ما انتهزته حكومة مسعود البرزاني في إقليم كردستان العراق وقامت بالاستيلاء على منطقة كركوك – الغنية بالنفط - والسيطرة عليها، وهو ما أوجد واقعاً جديداً على صعيد الوضع الجيوبولتيكا برز معه إمكانية تحقيق حلم الأكراد بإقامة دولتهم المستقلة في إقليم كردستان ؛ وهذا ما قرع ناقوس الخطر في أرجاء كل من تركياوإيرانوسورياوالعراق فبادرت إلى تحذير برزاني من الذهاب في خطوة أبعد من السيطرة على كركوك وأن هذا يعتبر تجاوز للتابو المفروض من قبل هذا البلدان خاصة إيرانوتركيا في الاتجاه المعاكس لما هو مرسوم من قبلها أي هذه الدول للوضع الكردي، وهذا ما فرض فيتو على خطوات أكراد العراق ، وأبقى معه الوضع على ما هو عليه بالإبقاء على قوات "البشمركة" الكردية في منطقة كركوك داخل الأراضي العراقية، إلى حين انجلاء الموقف بشكل نهائي عما سوف تكون عليه وضع داعش في مدينة الموصل وما حولها. في هذا الإطار تقول د.هدى راغب أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية: إن الأكراد استغلوا انهيار الجيش العراقي وضعف الحكومة المركزية في بغداد والاقتتال الشيعي السني ليدعموا مقومات إقامة دولة مستقلة للأكراد في إقليم كردستان العراق، وتابعت، الأكراد خرجوا بمكاسب كبيرة من الأزمة العراقية، وأصبحوا يسيطرون على خمس التراب العراقي بعد أن سيطرت قوات "البشمركة" على مدينة كركوك المتنازع عليها والغنية بالنفط. وتضيف راغب: الأكراد استغلوا هزيمة الجيش العراقي وانسحابه ليسيطروا على المزيد من المناطق وبالتحديد كركوك المتنازع عليها ودخلت قوات البشمركة لتبسط سيطرتها على المدينة وتضمها لإقليم كردستان، لافتة إلى أن البشمركة أصبحت هي القوى الأولى العسكرية النظامية في العراق بعد انهيار الجيش العراقي على يد المسلحين السنه مما يزيد من قوة واستقلالية الأكراد ويدفعهم نحو إعلان دولتهم المستقلة. وتشير أستاذ العلوم السياسية إلى أن الأكراد يفرضون سياسة الأمر الواقع على حكومة المالكي بعد السيطرة على كركوك وازدياد نفوذ "كردستان" في ظل الصراع السني الشيعي، لافتة إلى أن الأكراد استغلوا هذا الصراع بشكل جيد واستطاعوا توظيفه بالشكل الذي يخدم مشروعهم متخليين عن واجبهم الوطني تجاه المحنة التي يمر بها العراق، وتابعت، ضم الأكراد لكركوك المتنازع عليها يعطي مؤشر على أن الأكراد لديهم ما يخططون له خاصةً وأن كركوك غنية بالنفط. وترى راغب أن الأكراد الآن أقوى من أي وقت مضى بعد بسط سيطرتهم على كركوك الاستراتيجية، والتي تعتبر خطوة في طريق بناء الدولة المستقلة إلا أن هناك مخاطر تتعلق بآليات التعامل مع الحكومة المركزية في بغداد بعد انتهاء الصراع. بينما يرى د.شادي حامد الخبير السياسي بمعهد بروكينجز أن الدولة الكردية موجودة بشكل فعلي إذا لم تعلن بعد بشكل رسمي ... دولة الأكراد أعلنت بالفعل في إقيلم كردستان العراق الذي ينعم بحكم ذاتي وعلم مستقل ورئيس وحكومة وجيش، حيث يحتفظ الأكراد في العراق بحكم ذاتي موسع منذ عام 1991، إلا أنه في الوقت الحالي وصلت سلطتهم إلى مستوى التمتع بصلاحيات الدولة المستقلة، لافتاً إلى أن الاستفتاء على استقلال إقليم "كردستان" الذي أعلن عنه "مسعود بارزاني" رئيس إقليم كردستان ليس إلا مجرد إجراء شكلي لإضفاء الشرعية الدولية على الواقع الكردي. ويشير حامد إلى أن أعلان الدولة الكردية مسألة وقت ليس أكثر حتى يتم تمهيد الوضع الدولي لتقبل إعلان الدولة الكردية وتقسيم العراق، وتابع، المسئولون والدبلوماسيون الأكراد يعملون على هذا الأمر مستغلين فراغ السلطة في العراق ويحاولون أن يبعثوا بتطمينات إلى جميع الأطراف بما في ذلك تركيا، مشيراً إلى أن ضعف الحكومة المركزية في بغداد يعجل بتقسيم العراق ويجعل الأكراد الطرف الأقوى في المعادلة.. إن الأكراد حققوا مكاسب كبيرة تمهد الطريق لدولتهم المنشودة، إلا أن هناك العديد من المخاطر التي تواجه هذه الدولة الوليدة، ومنها وجود الأكراد بالخطوط الأمامية لمواجهة "داعش" التي تتسلح بمعدات حديثة، لافتاً إلى أن هزيمة الأكراد أمام "داعش" يعني ضياع المكاسب التي تم تحقيقها بل انتهاء الحلم الكردي بالاستقلال. ويتوقع حامد أن يستخدم الأكراد ورقة "داعش" والإرهاب للضغط على الأمريكان والغرب والمساومة بين المشاركة في تقويض أركان الدولة الإسلامية ودعم الولاياتالمتحدة لإعلان دولة كردية مستقلة في كردستان العراق. ويؤكد حامد أن توصل السنة والشيعة إلى اتفاق سيضع الأكراد في مواجهة جديدة تتعلق بالقومية سيكون الصراع فيها بين العرب والأكراد وستكون كل الخيارات مفتوحة من الجانبين بما في ذلك الخيار العسكري. وفى سياق متصل يقول د.طارق فهمي أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، إن المناخ الدولي مناسب بشكل كبير لإعلان الدولة الكردية ولن يقابل بالرفض الذي كان من الممكن أن يحدث في الأجواء الطبيعية. ويشير فهمي إلى أن الوضع التركي على المستوى الدولي أصبح أضعف من ذي قبل، وتابع، الحكومة التركية منشغلة بالعديد من القضايا الإقليمية بالإضافة إلى الوضع الداخلي المتوتر مما يجعل هذا التوقيت الأمثل للأكراد لإعلان دولتهم في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها الدولة التركية على المستوى الدولي وعلى المستوى الداخلي. ويضيف : الوضع الإقليمي مهيأ تماماً لإعلان الدولة الكردية خاصةً مع توتر العلاقات بين أنقرة ودول الخليج والتصارع على النفوذ في المنطقة بين الجانبين بالإضافة إلى رغبة السعودية والإمارات في إضعاف تركيا وتحجيم دورها في المنطقة، كذلك رغبة إيران في الانتقام من تركيا وإشغالها بالقضية الكردية عن مساندة الثورة السورية ودعم المعارضة المسلحة. ويؤكد فهمي أن إقامة دولة مستقلة للأكراد في شمال العراق ستكون بمثابة انتهاء العلاقات الاستراتيجية والتحالف بين تركياوالولاياتالمتحدة وستشهد العلاقات التركية الأمريكية توتراً كبيراً سيكون له تأثير على التعاون بين البلدين وبالأخص في المجال العسكري، لافتاً إلى أن الأكراد سيحاولون تقديم التطمينات اللازمة لتركيا ومحاولة إغراء أنقرة بمجموعة من المميزات والمكاسب الاقتصادية. ويرى فهمي أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تؤيد إسرائيل لإقامة دولة للأكراد في شمال العراق يعكس إمكانية تقبل المجتمع الدولي والإقليمي لهذا الأمر بل دعمه لإضعاف تركيا وتحجيم دورها الإقليمي المتصاعد وإشغالها بالقضية الكردية من جديد. ومن جانبها تقول ميرفت تورب الكاتبة والمحللة السياسية، إن الطموح الكردي بإقامة دولة مستقلة سيصطدم بالدولة التركية التي لن تسمح بقيام دولة مستقلة للأكراد على حدودها، خاصة مع وجود حزب "العمال" الكردستاني الذي يحمل السلاح ويتبنى العمل المسلح ضد المصالح التركية. وتضيف تورب، إن إقامة دولة مستقلة للأكراد هو تهديد مباشر للأمن القومي التركي لن تقبله الحكومة والشعب التركي الا أن الوضع الإقليمي والدولي ليس في صالح الأتراك، ومن ثم سيخوض الأتراك معركتهم لمنع إقامة الدولة الكردية وحدهم دون أي دعم دولي أو إقليمي. وتشير إلى أن استقلال أكراد العراق وإقامة دول مستقلة لهم تهديد خطير لوحدة تركيا، وتابعت، في حالة نجاح الأكراد في إقامة دولتهم فإن الأتراك سيسعون بكل قوة لتصفية بقايا حزب "العمال" الكردستاني الذين رفضوا الانخراط في العملية السياسية بعد المعاهدات والاتفاقيات التي أبرمها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع الأكراد، وتمسكوا بحمل السلاح ضد الدولة التركية والذين يتوفر لهم في كردستان العراق ملاذاً آمناً، مما سيجعلها مركزاً لزعزعة استقرار تركيا. وتستبعد تورب أن تتدخل تركيا عسكرياً لمنع إقامة الدولة الكردية على حدودها الغربية إلا أنها ستسعى بكافة الطرق لحماية أمنها القومي ومنع الأكراد من تهديد وحدة تركيا. وترى تورب أن تركياوإيران هما أكبر المتضررين من إقامة دولة كردية مستقلة في إقليم "كردستان"، نظراً لوجود نسبة كبيرة من الأكراد في كل من إيرانوتركيا، مما قد يؤدي إلى مطالبة الأكراد في كلا الدولتين بالاستقلال والانضمام إلى الدولة الكردية الجديدة. ويختلف معها محمد عبد القادر الباحث في الشأن التركي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الذي يرى أن الموقف التركي من انفصال الأكراد يبدو أنه لم يعد على حدتها من الرفض السابق، لافتاً إلى أن أنقرة قد تقبل بدولة كردية مستقلة في العراق في حالة حصولها على بعض المكاسب والامتيازات الاقتصادية، خاصة مع مضاعفة "كردستان" إنتاجها من النفط بعد دخول كركوك بفضل أنبوب النفط الذي يصلهم بتركيا، وتابع، تركيا تجمعها علاقات اقتصادية قوية بكردستان العراق، بالإضافة إلى تصاعد قوة "داعش" وحاجة تركيا لوجود منطقة عازلة بينها وبين "داعش" وباقي التنظيمات المسلحة وهذا ما تقوم به كردستان العراق. ويشير عبد القادر إلى أن هناك تحوّلاً في اتجاهات السياسة التركية نحو الأكراد والذي يظهر في إبرام أنقرة اتفاقاً لمدة 50 عاماً، يتضمن استخدام خطوط الأنابيب التركية لتصدير النفط الكردي بالإضافة إلى وجود أكثر من 500 شركة تركية تعمل في شمال العراق حيث تحال أكثر من 70% من عطاءات المقاولات في إقليم كردستان إلى شركات تركية، مما يعني فتح صفحة جديدة من السياسة الخارجية التركية تتجاوز الملفات التقليدية وتطلعات الأكراد الانفصالية، لافتاً إلى أن تركيا تسعى إلى إيجاد حل جذري للقضية الكردية من خلال إشراك الأكراد في العملية السياسية وإنهاء النزاع المسلح مع حزب العمال الكردستاني.