قبل أن تكون الحكاية مجرد حاجة تعبيرية، فهي عمل فني ينبني على مرجعيات جمالية ومعرفية، ويتأسس على إيقاع يزاوج بين الانفعال الذاتي والتخييل الموضوعي. إذا ما عدنا إلى إبداعات زهرة زيراوي القصصية، ومنها مجموعتها الموسومة ب”مجرد حكاية”، والصادرة عن دار النجاح، الدار البيضاء، نحظى بالنشوة الهرمونية التي يخلقها تجانس حيوات تمّ انتفاؤها من واقع هامشي، وتعالت أصواتها بقوة إلى مستوى الجمال الروحي والصدق الإنساني. نصطدم في كتابات القاصة بسجلات إبداعية وثقافية تربط الكلمة السردية بشعرية اللحظة، وتمزج طقس الكتابة التخييلية بمشاهد الواقع، عبر رسم لوحات فنية تتداخل فيها الألوان والخطوط والظلال. هكذا نجد أنفسنا أمام كاتبة متعددة المرجعيات: قاصة وشاعرة وتشكيلية، لا تضع الحدود في إبداعها القصصي بين كل هذه المشارب، بل تحضر مكتملة، لتخلق البهاء الجمالي، وتبحث عن الإنساني الذي يوشك على الزوال. احتفت القاصة في مجموعتها “مجرد حكاية” بالرسم والتشكيل كي تفتح عالم القصة على إمكانيات جديدة، تحوّل السرد من ارتكازه على ثقافة “الأذن” و”السماع”، إلى ثقافة “العين” و”الرؤية”، فتشتغل الحاستان معا، كي تخلقا ذائقة جديدة في القراءة، تزاوج بين التعبير اللوني البصري والتعبير السردي المكتوب. ففي قصة تفاصيل امرأة، يحاول السارد رسم موديلات متعددة لامرأة واحدة، بوصف دقيق تعمل فيه العين كعدسة كاميرا في التقاط الصورة وظلالها: «النافذة المفتوحة تماما، والستارة الزرقاء التي جمعت عند أقصى الزاوية والخط المتموج للشاطئ، حيث يبدو البحر متحركا… ربما هذا ما جعل جسدها يميل بنصف دائرة، وينتصب جذعها إلى أقصى ما يمكن مدّه، انفراج الساقين يتسع، ويدها اليمنى تجذب كم “الروب دي شامبر” لإخراج اليد اليسرى، لطخة من الضوء على مشدّ الشعر، وعلى قليل من الجهة المحاذية للذقن، وعلى امتداد الساعد حتى مشط القدم. قدماها استعادت لبس الشبشبيْن الأحمرين، وترتسم على ملامحها بسمة خفيفة رغم استطالة ظل ساقيها على أرض الغرفة… فرأى الظل وهو يستطيل على أرض الغرفة، ورأى مسحة الذعر على وجهها، ثمّ رأى قدميها وهما تستعيدان لبس الشبشبيْن الأحمرين، ورآها تبتسم للظل». يسمح الاشتغال على الرسم والبورتريهات، تحديدا، بتصحيح الأوضاع وتغيير وجهات النظر إذ لم يكن لدى السارد في هذه القصة سوى رهان عقد مصالحة بين الحياة والموت، بعد تجاوز الذات تخوفها من الظل، فالتصالح مع الظل تصالح الحياة مع الموت، وتصالح الكتابة مع الرسم. يقول السارد في نهاية القصة: «عبر ما ترسمه أنت/ عبر ما أكتبه أنا/ أو ما تكتبه أنت/ وما أرسمه أنا/ نشكل معا تفاصيل/ لامرأة/ أو قصيدة». العري والطلاسم لا تعدّ الكتابة بالجسد في قصة “مجرد حكاية” إفصاحا فرديا، يحقق رغبات ذاتية دفينة، وإنما يُستخدم باعتباره رؤية وموقفا من الواقع ومن القيم السائدة، يقول السارد: “أحدق فيها على السرير، عارية تماما، بدت أكثر توردا وأكثر حيادا… أحست جسدها حارا… أحسسته غارقا في اللامبالاة”. لم تكن رؤية الجسد ومعاينته عاريا نزوة شبقية، بل رؤية تطل عبر الجسد على العالم الخارجي الذي يحتكم إلى منطق القسوة واللامبالاة، ويجعل الذات الفردية تتآكل بفعل أحاسيس الوحدة والسكون والبرود. عدّدت القاصة من وسائط التعبير وقنوات الاشتغال السردي، واستثمرت لغة منحت لقصصها الجدة والتفرّد، ويتعلق الأمر باستعمال لغة الألغاز باعتبارها لغة سردية تقوم على علامات ورموز وأرقام، تدخل القارئ في متاهات فك شفرات طلاسم السحر والتعويذات والرقية. الكتابة هي الجسد الحقيقي، الجسد الخالص الذي يمكنه أن يعكس ذوات متعددة تنتج مجتمعة ومتآلفة الجمال باعتباره الكمال الأعلى ليس إلاّ .ونجد هذه الخاصية في قصتين: “تميمة ضد الحزن”، و”رقية”، وتهدف هذه الكتابة إلى إحياء السرد العتيق كنوع من الحنين إلى المعاذير العجائبية والخارقة، كي ينتقد أعطاب المجتمع، ويرمم شروخ الذوات، خاصة، تلك العلاقة الانفصالية التي تعرفها ذات المرأة بذات الرجل بسبب اشتباك التواصل، وانعدام حرارة الحب، الشيء الذي وسم حياتهما بالحزن والوحدة والألم. تشكل التعاويذ والرقيات الوعي الممكن الذي تستشرفه الذوات، على أمل أن تتحقق الألفة يوما، وأن يضيء قنديل الحب نافذة الحياة. يرد في مختتم قصة تميمة ضد الحزن على لسان السارد: «هل بالإمكان أن يسل لها حرز مرجانة حبيبها من صدر تلك التي أغوته، فيعيده إليها يوما؟… أوغلت في النوم، انتظمت أنفاسها، وارتسمت ابتسامة أطفال على كامل وجهها. وهي تتقدم في النوم، كانت ترى حبيبها يطرق طرقات خفيفة ومتلاحقة الباب». طبقات الكتابة لقد جعلت القاصة زهرة زيراوي من القصة نوعا يعبر عن أنواع أدبية مختلفة، استدعت تناصات روائية “رواية العطر لباتريك زوسكايند، زمن تنهيدة للروائية آن فيليب”، والحكاية الشعبية “حكاية مرجانة والملك”، والأسطورة “أسطورة زيوس، وأسطورة تحويل الثور الأرض بقرنيه”، والقصيدة “اقتباس مقاطع شعرية لمحمود درويش، ومقاطع شعرية من قصائد عبدالمنعم رمضان”، والمذكرات المحددة عبر التواريخ أو عبر المدة الزمنية. تنتج الكتابة القصصية بالتناص واقعها، إذ في الوقت الذي تُبدع فيه القاصة عالمها المتخيل يقدم “الميتاقص” الظاهر إفادات وهوامش حول إبداع ذلك العالم المتخيل، ويحوّل تلك النصوص إلى وعي ذاتي، يمارس رؤية نقدية تجاه واقع المؤسسات والأفراد الذين تنصلوا من دورهم في حمل همّ القضايا الاجتماعية والوطنية والقومية والإنسانية.سُخرت القصص كسلاح للبوح المكلوم عن العواطف الإنسانية، وبحثا عن منتهى الإنسان فينا، حيث اللامكان واللازمان واللاحدود، وتدفع بالنفس أن تغني “يا رب أوجد لي مكانا في الشمس”. ندخل أيضا من خلال التناص إلى الذات الثقافية الخاصة بالقاصة زهرة زيراوي، ذات متعددة السجلات الثقافية، ذات تبحث عن كونية القضايا الإنسانية وتسعى إلى كونية الكتابة القصصية. لم يقتصر استثمار القاصة للتشكيل على استخدام لغة الرسم ولغة الجسد ولغة الألغاز، بل امتد إلى فضاء الصفحة، إذ توزعت القصص إلى كتل نصية هي عبارة عن مقاطع سردية تفصل بينها عناوين صغرى، أو علامات أو ترقيمات أو بياضات أو تواريخ، إلخ.. تشكيل بصري ينمّ عن تشتت الذات بين الداخل والخارج، وتمزقها بين إيقاعي اللذة والحزن، وانشطارها بين فضاءين: شيخوخة الزمن وطفولة الروح، كما يسهم توزيع الكلمات وتقطيعها وتمطيطها في خلق إيقاع سردي داخلي يعكس انفجار الصدى وتردده، تعبيرا عن الجرح والألم جرّاء الحروب، والنفي، والعزلة. تتجاور طرق الكتابة عند القاصة زهرة زيراوي: الكتابة بالرسم/ الكتابة بالجسد/ الكتابة بالألغاز/ الكتابة بالنصوص/ الكتابة بالشذرات فيتداخل فيها ما هو كتابي بما هو علامي، وما هو حقيقي بما هو رمزي، اعترافا بكون الكتابة هي الجسد الحقيقي، الجسد الخالص الذي يمكنه أن يعكس ذوات متعددة: الذات الكاتبة والذات الثقافية والذات اللغوية والذات الفنية. ذوات لها أن تنتج مجتمعة ومتآلفة الجمال باعتباره الكمال الأعلى ليس إلاّ.