في نهاية الدورة البرلمانية كانت الجلسات منعقدة والنواب غائبون يبحث عنهم البعض في ردهات المجلس وداخل البهو الفرعوني لملء المقاعد الخاوية داخل قاعة المجلس.. بينما يتم التنبيه علي مخرجي البرامج الاخبارية التي تنقل جلسات المجلس "بترويض" الكاميرات الجامحة التي تكشف المقاعد المهجورة. والنواب النائمين او المشغولين بالمكالمات التليفونية او حل الكلمات المتقاطعة بالصحف، او المتزاحمين حول الوزراء للحصول علي توقيعاتهم علي طلبات أهالي دوائرهم! وظاهرة التزويغ انتقلت من مجلس الشعب إلي مجلس الشوري.. وسط انتقادات الرأي العام للاداء الضعيف للنواب وغيابهم المستمر عن الجلسات.. حتي اصبح الحديث عن "تزويغ" النواب "اسطوانة" مشروخة.. اتلفها كثرة الاعادة بعد ان فشلت في ان تجد لها صدي لدي النواب، لم تعد الانتقادات تكفي.. وهو ما يدفعنا الي المطالبة بتشريع يلزم النواب بحضور الجلسات ويتضمن عقوبات كافية لعودة الانضباط داخل الجلسات.. خاصة ان الشواهد التاريخية تتضمن عقوبات مماثلة تصل الي حبس النواب "المزوغين".. حفاظا علي هيبة البرلمان. يقول د. عاطف البنا استاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق جامعة القاهرة: ليس بالقانون وحده يمكن خلق حياة برلمانية سليمة فتزويغ النواب من حضور جلسات مجلس الشعب والشوري يكاد لا يحدث في اي بلد في العالم سواء كان متقدما او ناميا او متخلفا والحل لا يكمن في تطبيق "نظام نامة" علي النواب او ادخالهم في قاعة المجلس ومنعهم من الخروج لانه ربما كان النائب يريد مغادرة قاعة المجلس لسبب قهري وبالتالي فالنائب ليس في مدرسة ليعاقب. ويضيف: علي النائب احترام العمل النيابي والتشريعي واسباب هذه الظاهرة ان لدينا منظومة كاملة فالنائب يأتي عن طريق تزوير الانتخابات او الانتساب للحزب الحاكم واذا نجح في ترشيحه تحت اسم الحزب الحاكم فسيكون قد ضمن النجاح وبالتالي فالنائب يشعر بانه يدين بعضويته الي الحزب الحاكم وليس الي رأي الشارع المصري فعندما يأتي العضو عن طريق صناديق الانتخابات سيكون نائبا "محافظا" علي حقوق الشعب وحضور الجلسات والمناقشات. ويؤكد ان هذه النوعية من النواب يمكن ان نطلق عليهم اسم "نواب الموافقة" فعملهم كله مقصور علي الموافقة علي كل ما يتقدم به الحزب الوطني من مشروعات قوانين لدرجة انني اتذكر عقب هزيمة 1967 ان تقدم الرئيس عبد الناصر باستقالته واعلن التنحي ففوجئت باحد النواب يرفض، فالامر كله الآن عبارة عن تمثيلية وبالتالي لا استغراب من تزويغ النواب وهي جريمة لانهم لا يشاركون في مسئوليتهم والجريمة الاخري ان يتم التزويغ بعد التوقيع في الحضور لضمان صرف بدل حضور الجلسات وهذا تزوير ايضا وبالتالي فهذا الوضع العام لنظامنا السياسي غير مقبول خاصة ونحن لدينا غدة تشريعية تجعل من السهل التحايل علي القوانين التي توضع لمنع تزويغ النواب ويتم الالتفاف حول هذه القوانين وبالتالي فالضرورة تقتضي تغيير جميع الاوضاع لان هؤلاء النواب وجودهم مثل عدمه خاصة ان العديد منهم يتهم في قضايا فساد واهدار مال عام ويتم الدفاع عنه ونظام نامة هو كلمات تركية تعني نظاما دستوريا او قانونا دستوريا. د. ذكريا عزمي الملقب ب "عمدة البرلمان" بدوره فجّر موقفًا في غاية الأهمية داخل المجلس، أعاد فتح هذا الملف وبقوة عندما غاب بعض الوزراء عن جلسة لجنة الصحة التي ناقشت إهدار المال العام في قرارات العلاج علي نفقة الدولة والمتورط فيها بعض النواب. اما د.شوقي السيد عضو مجلس الشوري والمحامي بالنقض فيقول: ان تزويغ النواب امر مرفوض لان النائب الذي لا يستطيع تأدية عمله بأمانة لا يصلح ان يكون نائبا واذا وصل امر التزويغ الي حد الظاهرة فهذا يعني كارثة عكس ما اذا كان السبب استثناءات طارئة وربما يكون الزحام وطول ساعات الجلسات تجعل النواب ينصرفون خاصة ان الحكومة تأتي عن قصد- بجميع اوراقها مما يضطر النواب لترك الجلسات لانهم ليسوا متفرغين تماما. ويضيف: حتي يتم تحقيق الانضباط والالتزام لابد ان يكون الالتزام داخليا نابعا من داخل النائب واذا كان التزويغ وصل لحد الظاهرة فهذا يستلزم ضرورة مواجهتها بحيث تتأكد من التزام العضو بواجباته والحفاظ علي دوره البرلماني والتوقيع بالحضور وان كان من الصعب جعل العضو ينصرف من الجلسات باذن وسبق انسحاب المعارضة من المجلس في عام 1986 عندما كان عدد الاعضاء 169 عضوا - حسب ما قال د. رفعت المحجوب- وهذا يكشف مدي اهمية التزام الحضور الحتمي ولا يتخلف الا في الظروف القصوي لان هؤلاء امانة الشعب وعلي الشعب ان ينتخب النواب الامناء الذين يودون دورهم وليس حضور الجلسات فقط ويشارك في المناقشات بشكل ايجابي لتحقيق التشريع والرقابة.. مؤكداً ضرورة ان تضع لائحة المجلس نظاما لائحيا او ميثاق شرف لعمل النائب وادائه وسلوكه تحت قبة المجلس وخارجه والحضور بصفة مستمرة باعتباره ممثلا للشعب وفي حالة مخالفة ذلك يتم اتخاذ اجراءات عقابية ضده. د. حمدي السيد رئيس لجنة الصحة بمجلس الشعب، ينتقد تصاعد ظاهرة النواب "المزوغاتية" أو المتغيبين دائمًا عن حضور الجلسات، لا سيما المهمة منها والتي تتعلق بموضوع ذي أهمية عند النظر في تشريع معين مثلاً عن مناقشة قانون نقل وزراعة الأعضاء وهو الموضوع الذي تعلق بمصير وصحة الملايين من المصريين والذي تغيب فيه عن الحضور عدد من النواب، وأثر ذلك بالسلب في سير عملية التصويت داخل المجلس، الأمر الذي تكرر في عدد من الموضوعات المهمة والحساسة التي تتطلب حضورا من النواب لأخذ قرار بشأنها. ويشير السيد إلي أن خطورة هذه الفئة من النواب تؤثر بالسلب في سير الحياة النيابية في مصر بشكل قد يعرقل سير التصويت في إطار حرص الأغلبية علي حضور نوابها كل الجلسات ليسير التصويت علي مشاريع القوانين بشكل فيه قدر من المرونة يحقق الصالح العام. ويري النائب محمد العمدة أن ظاهرة نواب التزويغ تستحق الوقوف عندها نظرًا لِما تمثله من أهمية في الحياة البرلمانية باعتبار أن النائب قد تم تفويضه من قبل المواطنين لتمثيلهم أمام البرلمان، وبالتالي فإن مجرد عدم حضور جلسة من الجلسات يعتبر بمثابة خيانة للأمانة التي حملها الشعب لهذا النائب الذي يكون في هذا الوقت أيضًا مقصرًا في حق دائرته لأن غيابه سينعكس بالسلب علي مشاكل هذه الدائرة التي لن تجد مناقشة أو طريقًا لحلها وبالتالي فلا يستحق هذا النائب ثقة الجماهير التي اختارته لدخول البرلمان. ويري العمدة: إن من صلاحيات رئيس المجلس إحالة هؤلاء النواب إلي لجنة القيم نظرًا لغيابهم المتكرر وعزوفهم عن المشاركة في التصويت علي قرارات لها أهمية وقوانين ربما تعود بالنفع أو بالضرر علي مواطني دوائرهم، مطالباً المجلس باتخاذ موقف حاسم تجاه هؤلاء النواب الذين يفسدون الحية البرلمانية- بحسب كلامه- ويساهمون في إفشال العملية السياسية داخل البرلمان باتخاذ إجراءات حاسمة ضدهم. ويشير د.حمدي عبد الرحمن استاذ القانون المدني الي ان هذه الظاهرة ترجع الي ضعف المفهوم الديمقراطي وضعف المستوي السياسي لدي النواب إضافةً إلي ان كثيرا من النواب، لا يشعرون بالمسئولية تجاه الشعب وذلك بسبب خلل في النظام نفسه لان كثيرا من النواب يتصرفون علي اساس ان بينهم وبين الحكومة مصلحة متبادلة، لهذا يشعر هؤلاء النواب بأن وجودهم لخدمة الحكومة وليس لخدمة افراد الشعب وبالتالي ينتهي بهم المطاف الي الدوران في فلك الحكومة. ويؤكد د. عبد الرحمن انه في عهد محمد علي باشا كان النظام فرديا وكان لا يتم تدليل النواب لذلك اتخذ الاجراءات الصارمة لضمان حفظ هيبة البرلمان والمفروض ان لدينا نظاما ديمقراطيا ولكي يكون هذا النظام صحيحا، فلابد ان يخضع هؤلاء النواب لرقابة الشعب الذي يتابع اعمالهم ويراقبهم ويحاسبهم. ويقترح د. عبد الرحمن عقاب نواب التزويغ بحرمانهم من صرف بدل حضور الجلسات الذي يحصلون عليه وتوجيه تنبيه اليهم بالحضور والاعلان عن عدم حضورهم امام الاعضاء حتي تعرف دوائرهم انهم مغيبون لانهم مشغولون بمصالحهم الخاصة واخيرا لو ارادت الحكومة والنظام السياسي ان يلتزم النواب لالزمتهم بالانضباط في حضور الجلسات بدلا من مقولة "سيب وانا اسيب". ويري د. محمد ميرغني خيري استاذ القانون العام بكلية الحقوق جامعة عين شمس انه ليس من الضروري تطبيق النظام "نامة" الذي سبق ان طبقه محمد علي باشا وبعده الخديو اسماعيل لانه ليس بالضرورة ما طبق في الماضي يصلح للتطبيق الآن وتزويغ النواب ظاهرة سلبية مؤسفة فكيف يسعي اعضاء مجلس الشعب والشوري للحصول علي هذه المقاعد ثم يتهربون من مسئولياتهم؟! ويؤكد د. ميرغني ضرورة ادخال التكنولوجيا الحديثة لمعرفة مدي حضور النواب في مجلس الشعب من حيث نشاطهم وحضورهم وهناك انظمة معمول بها في جمعيات المجتمع المدني تنص علي اسقاط العضوية عن اي عضو لا يحضر عددا معينا من الجلسات وهذا موجود ايضا في نظام المجالس الشعبية المحلية في حالة عدم حضور العضو عددا من الجلسات يتم تطبيق هذا الامر والامر الثاني تسجيل حضور النواب ومناقشتهم ونشر ذلك سنويا حتي يعرف الشعب ما يؤديه نوابه في الدورة البرلمانية ومدي حضوره ومشاركته في المناقشات حتي يكون ابناء دائرته علي بينة هل يتم انتخابه مرة اخري ام لا، وهذا النظام اجدي وافضل من النظام الذي طبق في عهد محمد علي باشا والخديو اسماعيل. ويضيف ميرغني: يجب اسقاط حق المزوغين في بدل حضور الجلسات والاشتراط عليهم حضور الجلسة كاملة لانهم هم الذين يضعون انفسهم موضع التلاميذ في المدرسة الذين يجب رقابتهم خاصة ان بقاء مقاعد اعضاء مجلس الشعب خاوية امر مؤسف وهنا لابد ان نعرف ان هناك قاعدة قانونية لابد من احيائها مرة اخري وهي ان اي جلسة لمجلس الشعب لا يحضرها اكثر من نصف الاعضاء تكون باطلة وكل ما يصدر عنها باطل وقد آن الاوان لعملية التسجيل الالكتروني لحضور النواب حتي لا يتم التستر علي خطأ. النائب الوفدي محمد عبد العليم داود يري أن الفساد البرلماني في مصر قد فاق الحدود بدليل عدم اهتمام بعض النواب بحضور جلسات المجلس والتزويغ منها وكأن المواطنون الذين اختاروهم لتمثيلهم ليس لهم أية قيمة عند هؤلاء النواب ولا يمثلون شيئًا بالنسبة لهم ليدافعوا عن قضاياهم ويحلوا مشاكلهم في الوقت الذي تتصاعد فيه المشاكل الجماهيرية في هذا التوقيت وتتكاثر من بطالة وغلاء في الأسعار، مشاكل عمالية وغيرها من مشاكل المصريين. جدير بالذكر أن ظاهرة تزويغ النواب نجح في علاجها محمد علي باشا قبل 150 عاما في مجلس "المشورة" الذي كان يضم 156 عضوا حيث الزم النواب بالحضور في تمام الساعة التاسعة صباحا صيفا والتاسعة والنصف شتاء ولا يغادرون المجلس الا باذن من رئيسه ومن يتغيب عن المجلس دون اذن ينبه عليه في المرة الاولي والثانية يحبس عشرة ايام وفي المرة الثالثة يحبس 20 يوما! اما في مجلس "شوري النواب" وهو البرلمان الذي أنشأه الخديو اسماعيل فقد الزم فيه كل نائب بالتوقيع امام رئيس القلم بنفسه صباح كل يوم وفقا لنظام اطلق عليه نظام نامة .. حضور النواب وانصرافهم من المجلس وفقا لقواعد صارمة فلا يجوز للنائب الخروج من مجلس شوري النواب والتغيب عن حضور الجلسات الا باذن وموافقة رئيس المجلس شخصيا او بعد اتمام جلسات المجلس والا وقعت عليه عقوبة الغرامة والحبس ولا تنعقد الجلسات اذا كان ثلث المجلس غير حاضر. وتكشف وثائق البرلمان المصري قبل قيام الثورة عن ضوابط مشابهة لالزام النواب بحضور الجلسات بل وارتداء زي خاص بحضور جلسات البرلمان وذلك احتراما لهيبة البرلمان امام الشعب والدور الخطير الذي يلعبه في الحياة السياسية.. فلماذا اختفت هذه الضوابط لتختفي معها هيبة المؤسسة التشريعية في مصر؟!