تبدأ الرحلة من مبني هيئة السلع التموينية المطل علي شارع قصر العيني، التي أنشئت عام 1999 بقرار جمهوري ينص علي تبعيتها لوزارة التموين سابقًا ثم ورثتها وزارة التضامن•• تقوم الهيئة بشراء احتياجاتنا من القمح من الشركات الخاصة، حيث تقوم بالإعلان عن مناقصة توريد تتقدم لها هذه الشركات ويتم البت فيها خلال ساعات ثم يتم ترسية العطاء علي بعضها لتوريد القمح في صباح اليوم التالي لفض المظاريف• هناك خمس شركات تتولي استيراد القمح من الخارج أكبرها شركة فينوس انترناشيونال التي يرأس مجلس إدارتها رجل الأعمال محمد عبد الفضيل حيث تستورد وحدها ما يقرب من 2.5 مليون طن سنويًا، تأتي في المرتبة الثانية شركة كارجل تريدنج إيجيبت المملوكة لشركة كارجل الأمريكية ثم شركة كايرو ثري إيه المملوكة لرجل الأعمال رفعت الجميل• كان أسلوب شراء القمح من الخارج يشوبه الكثير من الفساد والمحسوبية والرشاوي حتي تم تعديل أسلوب الشراء ليكون أكثر شفافية (من وجهة نظر الحكومة طبعًا)، فتم تشكيل لجنة سميت فيما بعد بلجنة شراء القمح تضم نحو أربعة عشر عضوًا، هم عناصر قانونية وقضائية علي رأسهم أحد نواب رئيس مجلس الدولة• ويقتصر دور الهيئة بعد ذلك علي استلام القمح من المواني عند وصوله فور الإفراج عنه، بعد موافقة سلطات الحجر الزراعي والهيئة العامة للرقابة علي الصادرات والواردات للتأكد من وصول القمح خاليًا من الشوائب ومطابقًا للمواصفات وقياس نسبة الرطوبة التي لا يجب أن تزيد علي 15%• وفي اليوم ذاته الذي تستقر فيه الهيئة علي الكمية والشركات الموردة يتم الإعلان عن مناقصة أخري للشحن المعروفة بالنولون، حيث تصل تكلفة شحن طن القمح الواحد من الولاياتالمتحدة 90 دولارًا وتقل التكلفة من كازخستان إلي 75 دولارًا وتقل أكثر في روسا إلي 60 دولارًا• تصل سفن الشحن إلي المواني المصرية بعد أن أخذت تعليمات وهي في عرض البحر بالتوجه إلي الميناء الفلاني للتفريغ، ومن هنا تبدأ المفاجأت الصادمة الواحدة تلو الأخري، حيث تجري أكبر عمليات فقد في التاريخ لا يمكن تصورها تنتهي بخسائر رهيبة• هذه الخسائر الرهيبة وصلت وفقًا لدراسة علمية أجراها مركز البحوث الزراعية إلي 1.56 مليار جنيه من القمح المصري فقط حيث نفقد ما يقرب من مليون و 300 ألف طن قمح سنويًا بداية من الحصاد وطرقه المختلفة عندنا حتي عمليات الخبيز وخروجه من الفرن• وبالطبع يدخل القمح المستورد في لعبة السفه المصري، حيث نفقد 124 ألف طن دون أن يرتد لنا طرف ودون أن نشعر بتأنيب الضمير• هذا السفه يبدأ من مرحلة الحصاد "المر" حيث نفقد في هذه المرحلة ما يقرب من 165 ألفًا و 484 طنًا بتكلفة قدرها 198 مليون جنيه، تمر من بداية عملية جني المحصول وعملية الدراس (تقشير القشرة عن حبة القمح) وعملية التذرية (فصل القشرة عن حبة القمح) عن طريق تطيير القمح في الهواء ثم النفخ فيه، وعملية النقل المزرعي (نقل المحصول من الأرض الزراعية إلي أحد جوانبها تمهيدًا لوضعه في الأجوله البالية وتخييطها يدويًا)• ويقول د• عبد السلام جمعة الرئيس الأسبق لمركز البحوث الزراعية والملقب بأبو القمح المصري: إن طرق الحصاد المختلفة والمتخلفة ساهمت في ارتفاع نسبة الفقد التي تحرص كل الدول المتقدمة علي تخفيضها لأقل نسبة ممكنة• ففي طريقة الحصاد اليدوي نفقد ما يقارب من 65.48 كيلو جرام من نتائج الفدان (البالغ 2.7 طن) بينما في طريقة الحصاد الآلي المتبعة في مصر فإن نسبة الفاقد تقل إلي 48.39 كيلو جرام من إنتاجية الفدان• أما الحصاد بآلة الكومباين - الأقل انتشارًا في مصر - فتصل نسبة الفاقد 18.48 كيلو جرام فقط للفدان• وبالتالي فإن متوسط الفقد في كل أنواع الحصاد 64 كيلو جرامًا في الفدان• الدراسة التي خرجت من مركز الدراسات الزراعية تؤكد أن نسبة الفقد الكبري ت أتي عن طريق زراعة القمح في مصر، فهناك متوسط فقد للحرائق يصل إلي 68 كيلو للفدان تليها طريقة الزراعة المسماة ب "هفير بدار" تبلغ نسبة الفقد فيها 65 كيلو جرامًا للفدان• أما في مرحلة التخزين فحدث ولا حرج حيث نفقد 132 ألف طن بسبب سوء عملية التخزين في كل أرجاء مصر، الأمر الذي يكلفنا 158.4 مليون جنيه، بسبب عدم استخدام صوامع معدنية وعدم وضع برنامج مكافحة للقوارض والطيور• هنا تأتي مفاجأة مضحكة مبكية في الوقت نفسه•لأن نصيب الحيوانات والطيور والقوارض من رغيف العيش تحصل عليها قبل الخبز وبعده، أما نصيبها بعد الخبيز فالكل يعلمه لكن نصيبها قبل الخبيز هو المفاجأة، حيث يصل نسبة الفاقد بسبب الطيور إلي 1.64% فكل عصفور يأكل يوميًا 4 جرامات قمح وكل يمامة تحصل علي 15 جرامًا وكل حمامة تحصل علي 23 جرام قمح فتعود الطيور "شبعانة" ممتلئة البطون إلي عشها بعد أن حصلت علي ما يوازي مليونًا و 300 ألف جنيه قمحًا، حتي يتم نقل أجولة القمح من أرض الفلاح• الفئران أيضًا لها نصيب حيث تحصل وحدها علي ألف وخمسمائة طن من القمح ثمنها يصل إلي مليون و 872 ألف جنيه، بالهنا والشفا• بعد أن يظل القمح علي الأرض أو علي أفضل تقدير في منزل الفلاح فترة طويلة نتيجة تأخر عملية النقل، تأتي سيارات النقل المتهالكة وتحمل علي صندوقها المتهالك ما لا تطيق قدرة السيارة ثم تربط بالحبال بقوة قد تجعل الأجولة المتهالكة تتمزق فتبدأ مرحلة جديدة من الفقد المجنون، حيث تتزعم مرحلة النقل قائمة المراحل الأكثر سفها في فقد القمح، علي رأس المحافظات سفاهة في هذه المرحلة تتربع بني سويف علي قمتها حيث تفقد 86 كيلو جرامًا من إنتاج الفدان الواحد تليها في القائمة محافظة البحيرة حيث تفقد 36.21 كيلو جرام للفدان• ننتقل الآن إلي مرحلة الطحن، فتساهم المطاحن بدورها في هذا السفه العظيم، حيث نفقد 6.57 كيلو من كل طن يدخل في ماكينات الطحن، وعندما يخرج القمح في صورة دقيق نبدأ بفقد 2 كيلو جرام لكل طن عند مرحلة التعئبة، وبالتالي فإننا نفقر 8.45 كيلو لكل طن في مرحلة الطحن بإجمالي قدره 18 ألفًا و 300 طن ثمنها يقدر ب 141 مليونًا و 960 ألف جنيه• لدينا في مصر 144 مطحنًا منها 78 ملكًا لقطاع الأعمال العام أكبرها مطاحن مصر العليا والوسطي ومطاحن جنوبالقاهرة و 66 آخرين يملكها القطاع الخاص، كلها يشارك في عملية السفه العظيم، وتحصل علي 75 جنيهًا مقابل كل طن قمح يجري طحنه• ثم تأتي مرحلة الخبز، حيث تثبت الدراسة أننا نفقد في المخابز التي ما يبلغ عددها 18 ألف مخبز أثناء عمليات العجين والتخمير والنقل والتخزين والتصنيع ما يقرب من 49 ألف طن بنسبة قدرها 2.3% من كل جوال زنة 100 كيلو جرام، يعني 23 كيلو جرامًا للطن الواحد يعني 328 ألف جوال من إجمالي ما نوزع علي المخابز، بخسائر قدرها 106 ملايين و 762 ألف جنيه• ثم تأتي مرحلة الخروج من الفرن داخل المخبز حيث يخرج ما يقرب من 25 رغيفًا من كل جوال (100 كيلو) غير مطابق للمواصفات وغير صالح للاستهلاك، فإذا علمنا أن الجوال الواحد ينتج 1008 أرغفة فهذا يعني 2.4% هو خبز فاسد أي نفقد 315 ألف جوال كل عام بسبب الطهي غير الجيد للخبز•• وهو ما يكلفنا 47 مليونًا و 304 آلاف جنيه• وبالطبع تنوع حصة كل مخبز من أجولة الدقيق، حيث تحصل المخابز القديمة علي 30 : 40 جوالاً في حين تحصل المخابز الحديثة علي 5 : 12 جوالاً، وبالتالي فنسبة السفه تتعاظم في المخابز القديمة عنها في الجديدة• إلي هنا وقبل أن نضع لقمة العيش في أفواهنا استعدادًا للأكل نكون قد خسرنا 1.7 مليار جنيه هي قيمة الفاقد في عمليات تحويل القمح من بداية سنبلتها إلي رغيف عيش نضعه علي موائدنا• وحتي هذه اللحظة ووفقا للأسعار العالمية الجديدة التي وصل فيها القمح إلي 410 دولارات للطن الواحد فإن مرض السفه التي ابتلينا به سترتفع نسبة الفاقد إلي 2.136 مليار جنيه العام المقبل في حين أن كل ما تنفقه الدولة لدعم الرغيف سنويًا يقدر ب 9 مليارات جنيه ومن المتوقع أن يصل الدعم العام المقبل إلي 14 مليار جنيه بعد ارتفاع الأسعار، يعني أننا نفقد نحو 15% من القمح قبل أن نضعه في أفواهنا• المفاجأة أن السفه لم ينته! لأن ما مضي كان سفها حكوميًا تتحمل الحكومة وحدها مسئوليته، لكن ما هو آت يعتبر سفهًا مختلفًا نتحمل نحن والحكومة مسئوليته• فمثلاً أكثر طرق تهريب الدقيق المدعم (72) يتم الاتفاق بين صاحب المخبز مع المطحن علي استلام جزء صغير من حصته وترك الباقي لمطحن مقابل علي أن يدفع مسئول المطحن لصاحب المخبز 120 جنيهًا مقابل الجوال الواحد بعدها يقوم المسئول في المطحن بتحويل الدقيق المدعوم إلي دقيق 82 وبيعه للمخابز السياحية أو الأهالي بسعر 150 جنيهًا ثم يقوم صاحب المخبز بتشغيل مخبزه بالكمية الصغيرة التي حصل عليها• طريقة أخري لتهريب الدقيق بحيث يتم الاتفاق مع سائق سيارة التوزيع بحيث يقوم بشراء نصف الحصة من صاحب المخبز وبيعها قبل أو بعد نقل بقية الكمية المتبقية للمخبز، السائق يحصل علي 25 جنيها عن كل جوال مقابل بيعه لمطاحن صغيرة تقوم بتحويله إلي دقيق 82 • أما أقدم طرق تهريب الدقيق فهي بيعه لمخابز العيش الطباقي التي تقوم بخلط النوعين لاستخراج رغيف الطباقي الذي يباع بعشرة وعشرين قرشًا• هناك طرق يتحمل الناس مسئوليتها بعيدًا عن الحكومة مثل شراء الخبز ثم المتاجرة به وبيعه في السوق السوداء أو بيعه بعد تجفيفه كعلف للحيوانات حيث يباع طن العلف ب 1500 جنيه في حين ثمن طن العيش ب 400 جنيه• هذه الطرق وغيرها كثيرة قدرها بعض المسئولين ب 4 آلاف طن يوميًا يتم تهريبها بما يقدر ب 2.16 مليار جنيه سنويًا جنيه يوميًا• هذا يعني أن هناك 1.7 مليار نفقدها قبل نضوج الخبز وهناك 2.16 مليار نفقدها بعد نضوجه، الحصيلة تقترب من 4 مليارات جنيه من المؤكد أنها ستصل إلي خمسة مليارات العام المقبل• ما سبق ليس دافعًا أو مبررًا لإلغاء الدعم، بل علي العكس، بقليل من الحكمة وقليل من الضبط والربط تستطيع الحكومة أن تراجع عمليات الفاقد وتوقف عمليات التهريب حتي لو أنفقت مليار جنيه كاملة من أجل هذا، فعلي الأقل ما ستنفقه هذه المرة سيكون بفائدة•