وفي زحمة الاتِّصالات الإسرائيلية الأمريكية، التي مِحورها وقف النشاط الاستيطاني، لا يمكن حتى الآن وضْع النِّقاط على الحروف وتحديد المَسار الذي ستؤُول إليه بشكل أساسي خطّة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي سيعلن عنها قريبا حول سلام الفلسطينيين والإسرائيليين. الواضِح الوحيد، أن إسرائيل ممثلة برئيس وزرائها بنيامين نتانياهو وأركان حكومته، يتعاملون مع قضية الإستيطان، على أنها سرّ مُقدّس لا يجوز التفريط به هكذا، دون مقابل كبير (لا تعرف حُدوده)، بل إن وزراء حكومة إسرائيل قاطِبة يؤكِّدون في العَلن أن الإستيطان في أراضي الضفّة الغربية، "حق مُقدّس" لكلّ يهودي. وعلى مدار الأشهر الماضية، منذ تولّي باراك أوباما مقاليد سُلطة البيت الأبيض، وثمّة مساومات جَرت في الخفاء والعَلن حول ماهية وقْف هذا الاستيطان، لاسيما الثّمن الذي يُمكن لإسرائيل الحصول عليه في المقابل، لكن ذلك يتِم أيضا دون تحديد الوقْف وطبيعته. إخلاء المستوطنات.. هل فات الأوان؟ وفي الوقت الذي أعربت فيه حكومة نتايناهو عن استعدادها للقبول بوقْف غير مُحدّد ومؤقّت طبعا، كانت ذات الحكومة تُقر بناء المزيد من مِئات الوحَدات السكنِية الاستيطانية في أراضي الضفّة الغربية، ليتبعها تصريح جديد لوزير الجيش الإسرائيلي إيهود باراك حول حقّ اليهود في الإستيطان أينما شاؤوا، بل إن الأمر تزامَن مع تسريبات إعلامية إسرائيلية جديدة، مفادُها أن الحديث عن إخلاء المستوطنات اليهودية من الضفّة الغربية، بات متأخِّرا جدّا، إن لم يكن قد أصبح شأنا من الماضي، مع ملاحظة أن عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، بما فيها القُدس، قد يبلغ الآن نحو نصف مليون شخص. وكتب سيفر بلوتسكر، أحد الكُتّاب الرئيسيين في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، كُبرى صحف إسرائيل تحت عنوان "إخلاء المستوطنات.. متأخِّر جدا"، يقول "نصف مليون يهودي خلف الخطّ الأخضر.. نقطة اللاّعودة، الأحاديث عن "تجميد البناء" أو "إرجاء البناء" في مستوطنات معيّنة سخف وغطاء مؤخرة للزعماء - في إسرائيل وفي فلسطين وفي العالم - وهم يعرفون في أعماق نفوسهم أنه قد سبق السّيف العذل. في "أرض إسرائيل" الانتدابية، بين البحر والنهر، نشأت مَتاهة لشعبيْن غير قابلة للحلّ "شكشوكة" (خليط طماطم وبيض) من اليهود والفلسطينيين، لا يُمكن أن نسترجع مِنها بيضاً مُنفصلا كاملاً". التقديرات الإسرائيلية تقول إن عدد المستوطنين سيصِل إلى نحو 750 ألفا بحلول عام 2025، وحسب صحيفة يديعوت أحروتوت أيضا، فإن الكُلفة التقديرية لإخراج جميع المستوطنين وإعادتهم إلى إسرائيل، ستكون بحوالي 155 مليار دولار، وهي تكلفة، حسب الكاتب بلوتسكر "لا يريد أحد أن يتخيّلها ويتخيّل طبعا تداعِياتها". الموقف الفلسطيني إذا كانت هذه هي المؤشِّرات التي يمكن أن يُبنى عليها الموقِف الإسرائيلي إزاء المساومة على وقْف مؤقّت للإستيطان، فإنه ليس من الصّعب تصوّر مرارة وحساسِية الموقف الفلسطيني من القضية ومن مسألة مُبادرة سلام أوباما المُنتظرة. وفي حين لا زال الموقِف الفلسطيني المُعلن ينحصر في رفْض استئناف المفاوضات مع إسرائيل، دون وقفٍ كاملٍ للاستيطان، فإن الضغوطات والتّراكمات وانشغال الإدارة الأمريكية في هموم داخلية، يجعل من التمرس وراء هذا الموقِف، أمرا غايةً في الصعوبة. ولا يبدو أن ضغوط إدارة اوباما على إسرائيل لا تعدل على الإطلاق المستوى المطلوب للدّفع باتِّجاه وقفٍ مؤقّت للاستيطان، لاسيما مع إصرار إسرائيل على شرْط الحصول على بوادِر حُسن نيّة من دول عربية، تُقيم أو لا تُقيم علاقات مع إسرائيل، مقابل وقْف جُزئي للاستيطان. ويقول عبد الناصر الناجر، مدير تحرير صحيفة "الأيام" الفلسطينية في حديث ل swissinfo.ch "نحن أمام الحائط مجدّدا، لا أعتقد أنه بإمكان إدارة اوباما الضغط على إسرائيل أكثر من ذلك، ولا يَسَعُنا توقّع الحصول على أكثر من وقف جُزئي للاستيطان. الوضع ليس سهلا على الإطلاق، بل إنه مُريع". ويبدو أن صدى هذا التّحليل أخد بالفعل طريق التّرجمة الحقيقية، إذ يُواجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس حالِيا ضغوطا لعقْد لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو في نهاية شهر سبتمبر الحالي، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، دون أي آفاق مشجِّعة. واستنادا إلى مصادر مقرّبة من الرئاسة، فإن عباس يُحاول ترتيب عقد اجتماع للّجنة المُتابعة العربية، المُنبثقة عن القمة العربية والتي تضُم بشكل أساسي كلا من مصر وسوريا والأردن. ويريد عباس لهذا اللقاء أن يوفِّر له حماية في حال اضطُر إلى لقاء نتانياهو في نيويورك. ويواجه عباس أيضا تيارات داخلية، يدعو بعضها لاغتنام فرصة "وقف مؤقّت للاستيطان" والعودة إلى المفاوضات مع إسرائيل، في حين يؤكِّد تيار آخر على ضرورة الحِفاظ على الموقِف المتشدّد من المسألة وعدم العودة، دون وقف كامل للإستيطان. قبل أيام، كان عباس يزهو بنشوة النّصر، التي منحه إياها مؤتمر فتح الأخير ونجاحه في تعيين أعضاء جُدد للّجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكنه كان على ما يبدو شهر عسل قصير جدا، إذ يتحتّم على الرجل، الذي يواجِه تحديات تكريس الإنقسام أيضا، أن يشمِّر عن ذراعية لخوض جولة قاسِية أخرى.