خرجوا مشجعين.. وعادوا مشيَّعين.. ذهبوا فرحين حاملين أعلام بلادهم وناديهم، ولم يكونوا يتصورون أن الأعلام التى يرفعونها ستعود بجثامينهم ملفوفة بها. اثنتا وسبعين زهرة من زهرات مصر حصدتها نيران الحقد والغدر والإهمال الأمنى الجسيم، قصص وحكايات مأساوية يندى لها الجبين؛ تبكى العيون وتدمى القلوب، بأى ذنب قُتِلوا؟ دماء روت أرضية استاد الموت "بورسعيد سابقاً"، ما بين شباب يحلم بغد مشرق ووطن حر؛ وآخر يشجع ناديه. لم يدركوا أن نهايتهم ستكون بهذه الطريقة المأساوية.. هيبة الدولة باتت في مفترق الطرق، وإشارة واضحة إلى أننا قد توغلنا فى النفق المظلم. (1) إن ما حدث قبل وأثناء المباراة كان يستلزم إلغاء تلك المباراة، أما وإن اكتملت؛ فلابد أن يحاسب المسئولون عن ذلك، فلا يكفي فقط إقالة المحافظ ومدير الأمن؛ لأنهما أكدا قبل المباراة بيوم علي تأمين بورسعيد والمباراة وتحركات لاعبي وجماهير الأهلي، وأكدا علي أن كل شيء علي ما يرام. فمن سيعوض أهالي هؤلاء الشباب الذين فقدوا حياتهم؟ ومن سيعوض المصابين الذين تشوهت أجسادهم؟ القضية كبيرة؛ تشابكت بين تعصب كروى ومؤامرة على "مصر الثورة"، التى تخوض مخاضها العسير، الحادث جلل - وهذا هو الغاية من ورائه، كما خطط لها المجرمون - لا يقوي أحد على وصفه في كلمات، يكفي أنه نجح في تشويه صورة الدولة عربيا ودوليا؛ وأكد أن مصر مازالت تعانى الانفلات فى كل شيء؛ وأن نظام "مبارك" لا يزال موجودا علي خشبة مسرح الأحداث؛ ويلعب أدوارا رئيسية. ناهيك عن الاقتصاد الذى يئن تحت وطأة الفوضي وتعطيل عجلة الانتاج،، ضاربة بمقدرات البلاد عرض الحائط من سياحة واستقرار ؛ وشعور بافتقاد الأمن والأمان، فى بلد كان مثالاً للأمان، أصبح يعانى من ترهلات دولة عجوز شاخت ذراعيها ولم تقْوَ على تحمل أية مسئوليات. (2) سجلات التاريخ تكشفت أن شغب الملاعب ظهر فى بداياته الأولي بمدرجات بريطانيا فى القرن الثالث عشر، وامتد إلى الدول الأخرى فيما عرف باسم "المرض البريطانى"، وسرعان ما لعبت العوامل السياسية والنزعات العرقية والانتماءات الدينية دورها فى تغذية مشاعر اللاعبين والمشجعين على السواء؛ إضافة إلى الدور الخطير الذى لعبته المخدرات فى تغذية ظاهرة شغب المدرجات.. ومرت ظاهرة شغب الملاعب بثلاث مراحل؛ تمثلت الأولى فى اعتداء المشجعين على اللاعبين والحكام، أما الثانية فقد اتخذت صورة الاشتباكات بين مشجعى الفرق الرياضية المتنافسة داخل الملاعب، والمرحلة الثالثة مشاحنات المشجعين خارج أسوار الملاعب إلى الشوارع، وهو ما شاهدناه مؤخرًا فى الملاعب المصرية. ولم تسلم المدرجات العربية من حمى شغب الملاعب فى ظل العولمة ومحاولة بعض المشاهدين العرب تقليد ما يحدث فى الدول الأوروبية؛ مما أثر سلبًا على تقدم مسيرة الرياضة العربية ودعا وسائل الإعلام الرياضية إلى مطالبة المؤسسات الرياضية بالتدخل لاستئصال هذا "الورم" الدخيل ومعاقبة المتسببين فيها، فى محاولة لاحتواء مثل تلك الظاهرة الخطيرة، وقد سنت بعض الحكومات قوانين تعاقب بموجبها مثيرى الشغب بالحبس أو الغرامة قد تصل إلى الحرمان من حضور الأحداث الرياضية لمدة قد تصل إلى خمسة أعوام. وتعد مسابقة الدورى المصرى العام هذا الموسم واحدة من البطولات الاستثنائية فى سجلات المسابقة، حيث لاحقتها الكثير من الملابسات منها انطلاقها بعد موعدها الأصلى بحوالى شهرين نتيجة الأحداث السياسية المتواترة عليها، وكذلك ما حملته من ظواهر غير مبشرة من حيث التزام الجماهير والانضباط الذى نادى به الجميع قبل انطلاق البطولة، فقد شهدت الملاعب في اليوم الاول العالم الجارى 2012، وبالتحديد ليلة رأس السنة الجديدة أحداث شغب وعنف فى مباراة نادى غزل المحلة أمام النادى الأهلي. أما الواقعة الثانية، فقد شهدها ملعب ستاد الإسكندرية فى تحد واضح من قبل الألتراس الأهلاوى لقرارات لجنة المسابقات والتى قامت بنقل المباراة خارج ملعب الأهلى بسبب تصرفات جماهيره فى لقاء "كيما أسوان"؛ حيث أشعلت الجماهير وابلاً من الشماريخ أثناء المباراة؛ ظنا منهم أن الأمر سيمر دون توقيع عقوبة على خلفية أن هذا اللقاء يقام خارج ملعبهم الرسمى، وهو ما عرّض الفريق للعب مرة أخرى بدون جمهور بعد تكرار وقائع الشغب. وتلك الأحداث تمت فى المباريات الخاصة بالفرق الجماهيرية، وكانت من نتائج تحدى الجماهير من روابط المشجعين لاتحاد الكرة أو الأمن وهو قرار تأجيل عدد من المباريات، حيث باتت الأمور تنذر بكارثة حقيقية بعد أن تصاعدت حدة الصدام بين روابط الألتراس المنتمية لأندية الدورى العام وبين وزارة الداخلية واتحاد الكرة، وأصبح الصدام يدق ناقوس الخطر، فتعددت حالات اقتحام الجماهير لأرض الملعب وتصادم أفرادها مع قوات الأمن فى أكثر من مناسبة وتجاوزت اللافتات المسيئة كل قواعد التشجيع، وأخيرًا إصرارهم على تحدى قرارات اتحاد الكرة فى إشعال الشماريخ وتصعيد الأمر ردًا على أى عقوبات توقع من اتحاد الكرة الذى واجه الأمر بحزم هذا الموسم، بداية بتغريم الأندية ماليًا ثم نقل مبارياتها خارج ملاعبها وأخيرًا اللعب بدون جمهور.. وفى المقابل، قام الألتراس بزيادة الألعاب النارية ورفعوا لافتات "قوانين المدرجات يضعها المشجعون". (3) أول دراسة دكتوراه ناقشت ظاهرة الألتراس بمفهوم علمى، أعدها الباحث وليد مصطفى الكاشف نائب رئيس هيئة استاد القاهرة؛ بعنوان "دراسة تحليلية لروابط مشجعى كرة القدم المصرية - الألتراس - وأدوارها المجتمعية والأمنية"، واستطاع أن يضع يده على جرح الرياضة المصرية، خاصة ما تعانيه من خروج علي النص وتشويه صورتها أمام العالم بأدوات تخريب المنشآت وإثارة الفوضى داخل وخارج الملاعب المصرية، فقد سردت الدراسة أحوال الألتراس منذ نشأتها وحتى ما أصبحت عليه الآن من الخروج من عباءة تشجيع الكرة إلى المشاركة الميدانية فى الشوارع والخروج أيضًا علي النص. وأكدت الدراسة أن الأندية المصرية عرفت الألتراس منذ عام 2007 وكانت بدايتها مجموعات هواة تعرفوا على بعضهم من خلال الإنترنت، وكونوا جماعات منظمة لها مبادئ تسير عليها وقائد تحترم تعليماته إلى أن أصبحت قوى كبرى تؤثر فى أى نادٍ، كما أجبرت النادى نفسه على الاعتراف بهم حتى إن الأندية الآن لا تستطيع الاستغناء عن الألتراس، بل وتمولهم وأصبحوا جزءًا من النادى، كما بدأ بعض مسئولى الأندية يأخذون على عاتقهم الإنفاق عليهم ليكونوا مراكز قوى وارتكبوا حوادث بلطجة عديدة، لذلك كان لابد من الوصول إلى نقطة صدام مع الجهات الأمنية والتى كان آخرها تصدى الشرطة للألتراس فى أندية الأهلى والزمالك والإسماعيلى والمصرى والاتحاد. وإذا كان العالم عرف مجموعات الألتراس من خلال البرازيل وعدد من الدول الأوروبية بجانب الصين، فإن مصر عرفت تلك الظاهرة قريبًا؛ حيث لم يدر بخلد أى من العاملين بالوسط الرياضى أن تتحول الكلمة إلى ظاهرة رياضية اجتماعية مهمة، وتصبح من أهم المصطلحات التى تنتقلها الألسنة ووسائل الإعلام باعتبارها ظاهرة اجتماعية خلقت أشكالاً جديدة للتشجيع فى الملاعب الرياضية، لكن بمرور الوقت صاحب انتشار مجموعة الألتراس فى الملاعب انتشار ظاهرة العنف والشغب وأصبحت واسعة الانتشار بشكل خاص فى المباريات الجماهيرية التى يكون طرفًا فيها الأهلى والزمالك والاتحاد والمصرى والإسماعيلى، وهو الأمر الذى استدعى مواجهات مع قوى الأمن، وزادت من اشتعال نار التعصب الرياضى، بعد أن كانت فى السابق مناوشات أو مضايقات تخرجها الجماهير عند أى قرار خاطئ أو ظلم يقع على اللاعبين داخل الملعب، ولا تتعدى تلك المناوشات الصياح فى المدرجات أو خروج ألفاظ جارحة دون التطرق للمنشآت أو الصدام مع الأمن أو ضرب بعضهم البعض، وتطور الموقف على يد الألتراس بأن اشتعلت حرب المدرجات بين الجماهير مع كل مباراة حتى وصل الأمر إلى الشغب فى مباريات ليست فى كرة القدم؛ بل فى جميع اللعبات الجماعية التى تحظى بجماهيرية واسعة مثل السلة والطائرة واليد. (4) وماذا بعد؟ سؤال لابد أن يطرح علي المجلس العسكرى الحاكم؛ وعليه الاجابة: من سيدفع فاتورة الدماء التى سالت على أرض ملعب "بور سعيد "؟؛ فالعبرة ليست فى صرف تعويضات للضحايا وأسرهم؛ فما راح لا يمكن إرجاعه بالمال؛ لكن من الضرورى الكشف عن الطرف الثالث وااليدى الخفية فى تلك الأحداث التى تمر بها مصر مثل أحداث مجلس الوزراء وشارع محمد محمود.. وكذلك بورسعيد وما جرى فى محيط وزارة الداخلية بعدها وسقط فيها شهداء؛ فضلاً عن سقوط مئات المصابين من المتظاهرين السلمين، ومن الضروري للكشف للرأي العام عن دور بقايا رجال "مبارك" في هذه الاحداث؟ وهل حقا مريدو "ليمان طرة" سيفرجرون مصر؟ وعلي جانب آخر، لابد من إعادة هيكلة الاجهزة الأمنية – بشكل حقيقي لا صوري - فقد أصبحت هشة وليست لديها أبة قدرة على ضبط الشارع، ولا القيام بدورها المنوط بها، فهل من المعقول أن يتم تفجير مصر من أجل مبارة كرة قدم؟ ولماذا لم تتم الاستفادة من تجربة الشغب التى حدثت أواخر العام الفائت فى المحلة بعد اقتحام الملعب؟ إضافة إلى الدرس الذى تبعته حكومة تونس عندما أقرت لعب الدورى دون جمهور عقب حدوث شغب؟.. أسئلة كثيرة تفرضها أحداث الساعة على المجلس الاعلى للقوات المسلحة الذى ببقائه مزيدا من الوقت فى السلطة يضعه أمام الكثير من المشكلات.