هذا المنطق البئيس ليس منطق طاغية ليبيا وحده،في لحظات نظامه الأخيرة،بل هو منطق كل الطغاة على مر التاريخ.يتساوى في ذلك من سقط منهم ومن لم يسقط،من كانت نهايته مأساوية ومن كانت نهايته محمولا على أكتاف الرجال. لكن يبدو أن أكثر الطغاة غباوة وجبنا وصلفا هم الطغاة العرب،فلكثرة ما أدمنوا الطغيان،ولكثرة ما استعبدوا شعوبهم،ولأنهم يستندون إلى تاريخ طويل من التسلط والقهر والتجبر،فإنهم عميت أبصارهم بل وانطمست بصائرهم،وهم الذين لطالما مدحوا أنفسهم،وسولوا لأزلامهم أن يضفوا عليهم كل أوصاف الكمال والحكمة والرؤية الثاقبة. في خطاباته الأولى يوم ثار أبناء الشعب الليبي،كان هذا المعتوه القذافي يرد بخطابات طويلة ممجوجة،يركز فيها على أنه القائد الضرورة،والزعيم الملهم، والمجد الخالد،وأن الملايين سوف تزحف على ليبيا من كل شعوب العالم،كي تصد ثورة "الجرذان" وتقف لهم بالمرصاد،فداءً للعقيد ولأبنائه الذين تجري الدماء الملكية الزرقاء في عروقهم.فلا بأس أن تخرب كل ليبيا ويستوي بنيانها بالأرض،وتعود قرونا طويلة للوراء،فقط كي يثبت القائد نظريته الثالثة ويحقق أحلامه البئيسة،بوصفه ملك الملوك،وعميد القادة،والحكيم الذي ينطق جوهرا ويكتب صفحات تشع نورا في تاريخ الإنسانية. والذي يعرف الرجل، ويعرف تاريخه ومغامراته الطائشة التي تشبه مغامرات قطاع الطرق وعتاة المجرمين،ولا صلة لها بما ينبغي أن يتوفر في حاكم البلد ،من عقل وبصيرة ورؤية بعيدة وقدرة على حل المشاكل بالطرق الدملوماسية ،لتجنيب الشعب والإنسانية كلها ويلات الحروب والعمليات الإرهابية.إن من كانت له معرفة ولو بسيطة بتاريخ هذا المأفون، يعرف يقينا أن عنترياته وصولاته وهلوساته،هي كل ما يملك وقد حوصر من كل الجهات.ولأن القانون الذي أرساه الشاعر الحكيم يقول : ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقوة ينعم فإن أخا الجهالة في ليبيا ظن جهالته منتهى العبقرية،وغباءه منتهى التفوق،وهلوسته عينَ الحكمة.فصار يحث الشعب على أن يرقصوا ويطربوا حتى والموت يتخطفهم من كل جانب،والنار تصب فوق جسد وطن بامتداد ليبيا .وللإنصاف ربما تكون كلمات الحاكم الجاهل في حق أبناء شعبه أكثر وقعا وإحراقا من كل نار أخرى.فكيف حين تكون سخرية مريرة،وعبثا مأساويا:أيرقص من وطنه خطف بيد عصابة مجنونة 42 سنة ؟ وهل يطرب من يرى مقومات أمته تدكها الطائرات والصواريخ ؟ وكيف يهنأ من يرى مجنونا ولغ في دماء الشعب ويأبى إلا أن يريق مزيدا من الدماء الطاهرة فقط كي يرضي غروره وصلفه ووقاحته ؟ لم يرقص أبناء ليبيا على أشلاء إخوانهم،ولم يركنوا إلى أن يستدفئوا بالنار التي تحرق ليبيا ... بل ثاروا جميعا لاسترداد كرامتهم،وحاولوا جهدهم أن يوقفوا نزيف الوطن،واحتراق البلد،بكل الوسائل المتاحة لديهم.لأنهم كانوا يعرفون أن من قتل الأبرياء بدم بارد،لن يرحم من ثاروا ضده. وحين جد الجد،وأصبحت النيران قريبة من تلابيب عباءته،ورأى الموت يغازله من كل جانب،لم يقرأ الصفحات الجديدة التي تكتب في تاريخ ليبيا الجديدة بعين البصير وعقل الحكيم ورؤية الخبير... واصل المعتوه جنونه وركب رأسه المليء بالأوهام،فمادام الموت مصيره ،وفي أحسن الأحوال الموت البطيء،فإن الشعب لا يستحق من بعده الحياة.إن الشعب مطالب بفداء الزعيم،بقضه وقضيضه،بشبابه وشيبه،برجاله ونسائه،بشرقه الثائر وغربه المناور،بمعارضيه ومؤيديه،ولا يحل لهذا الشعب أن يفعل ذلك طواعية،ولا حتى وفق تسلسل زمني معين،بحيث يموت العشرات،ثم المئات،فالآلاف إن اقتضى الحال. لا ...الشعب مطالب أن يسخر من لعبة الموت بالتقسيط كي يقبل على الموت بالجملة.فلا يشفي غليل القائد،ولا يرضي غرور الزعيم،ولا يطفيء نار حقده،إلا إقبال الجحافل بالملايين كي تموت. يأبى الطغاة الرحيل قبل أن يشعلوا الوطن ويَغرقوا في بحر الدماء...يعتقدون أنهم آلهة مخلدون وفي أحسن الأحوال أنصاف آلهة أو أنبياء وقديسون.كلامهم جوهر ،وباعُهم في العلم والشجاعة من كل باع أكبر.ولذلك شاهدنا كيف بقي طاغية ليبيا جلفا صلفا وقحا،لا يتوقف عن ترديد أساطيره.وحين جد الجد وحم القضاء،خطب من "اللامكان" في الليبيين يحرضهم أن يموتوا بالملايين دفعة واحدة،لأن هذا الموت وحده سبيلهم للكرامة وطرد "الاستعمار" وطبعا استرداد المجد،الذي لا يمكن أن يتجسد إلا في شخصه هو. لماذا يصر الطواغيت على الاستهانة بشعوبهم حتى وهم في أحرج اللحظات وأكثرها خطورة؟ إنه الداء الوبيل،والمرض الخطير الذي أصاب هذه الأمة حين تسلط عليها شرار الخلق وأكثر الانتهازيين وصولية،وأكبر الجبناء دموية.ففي منطق هؤلاء،يجدر بمن يريد أن يفهم ما يجري ويدور،أن يتشبث ،وكل قواه العقلية شغالة، ب "اللامنطق ليس هذا لعبا بالكلام مني،بل هو أسهل طريقة للتماسك وضبط النفس أمام هول ووقع هذه الخطابات البئيسة التي سئمناها ومللناها وكرهناها... والحمد لله ها نحن اليوم رميناها. رميناها لأننا نحترم عقولنا، ونقدر إرادتنا ، ونحس أننا كباقي خلق الله لنا كرامة وحريتنا فوق كل اعتبار.فلا يعقل إذا أن نصدق، أو يطوف بعقل سليم أن يؤمن بما يسمعه من المتسلطين وهم في ورطتهم الأخيرة. هل يعقل أن يموت الملايين من أجل فرد حتى ولو كان قديسا طاهرا ؟ هل يصح في الأذهان شيء إذا صدق عقل ،مهما كانت درجة خبله وحمقه،أن من قهر الشعب على طول نصف قرن من الزمن تقريبا سيهب الشعب المغلوب على أمره طوال هذه المدة،عن بكرة أبيه،كي يفديه بالروح والدم وفاء ومكافأة له على ما اقترفت يداه الآثمتان ولسانه المتسلط ضد الشعب قاطبة ؟ ما كان للجرذان أن تحمي بطلا شريفا ، وما كان للكلاب الضالة أن تذود عن حياض أسد هصور.هذا بمنطقه هو ...فبإمكانه اليوم أن يحرك الملايين من خارج ليبيا ليحققوا كل أحلامه وكل أوهامه. أما بمنطقنا الذي يُعلي من شأن الكرامة والحرية والعدالة،أو حتى ب"لامنطقنا" في أكثر مستويات تخبطنا ضحالة،فإن المجنون رُفع عنه القلم حين يلتزم حدود جنونه،وإن المجرم قد يعذره المجتمع إذ يتأكد أنه ضحية من ضحاياه،حتى البغي تُلتمس لها الأعذار ،إذ تكون مرغمة على أن تبيع شيئا منها، مقابل حفنة دراهم تدفع بها غائلة الجوع وبعضا من نوائب الزمان. لكن المستبد الواقع تحت تخدير جنون عظمته،والمجرم الذي يصر على أن ينفذ كل مخططاته،والقاتل الذي لم يسجل التاريخ ولو موقفا إنسانيا له تجاه من خالفوه وجهة نظره ... إن من كان هذا حاله في البدء وحتى النهاية...فما عليكم إلا أن ترضوا بالموت مليون مرة ولا ترضوا أبدا أن يخدعكم مرة واحدة،أو تسمحوا لمن هو على شاكلته أن يحكمكم حتى في أكثر السيناريوهات خيالا أو سوداوية. لقد احترقت آخر ورقة في كتاب التسلط والتعنت والطغيان. اقلبوا صفحة جديدة ناصعة البياض..