بعد إلتفاف جائزة نوبل للآداب حول الكاتبة الكندية أليس مونرو و التي فتحت لنا أبواب البحث عن الكاتبات و الأديبات اللاتي حصلن على نوبل و بعد إستعراض أدب و حياة الكاتبة السويدية و السيدة الأولى الفائزة بنوبل في العام 1909 سلمى ليجرلوف تتشوق الأنفس لإزدياد المعرفة بكاتبات نوبل ليأتي الدور على حكائة النرويج الأولى و الفائزة الثالثة بجائزة نوبل للآداب في العام 1928 سيجريد أوندست التي عرفت العالم بالدول الإسكندنافية في العصور الوسطى عبر مزجها الحميد ما بين التاريخ و الأدب. ولدت سيجريد أوندست بمدينة (كالوندبورج) بالدانمارك يوم 20 مايو من العام 1882 وهي كبرى ثلاثة بنات لأب يُدعى (أنجفالد) عالم الآثار المتخصص في العصر الأوروبي الحديدي الذي يُعد رئة حب أوندست للتاريخ و الآثار كرافد هام لها في مشوارها الأدبي حيث الإرتباط بين الماضي و الحاضر لإستشراق المستقبل عبر الأدب و لأم تُدعى (أنا شارلوت) و هي إبنة لمحامي و التي تُعد رئة أوندست لإلتماس الواقع حيث المزج الحميد بين الماضي و الحاضر لتلمس الواقع بحلوه و مره و لكن أوندست لم ترث منها تدينها العميق إذ بها ترتدي ثوب التمرد نحو التفكير العلماني الذي بدأ في القرون الوسطى عقب الحروب الصليبية و الذي رأى أن التسلط الكنسي كان السبب في تأخر أوروبا عن العالم الإسلامي لذا يجب الفصل بين الدين و الدنيا و جعل الدين في الكنيسة و الدنيا لغتها العلم فإذ بهذا الفكر أصبح مشكاة أوندست في الأدب و الحياة. إنتقلت أسرة أوندست لمدينة (كريستيانيا) في العام 1884 التي أصبحت أوسلو العاصمة النرويجية في العام 1925و إذ بالأسرة تجد أنها لم تهجر الدانمارك لأن بها عملة موحدة حيث الطبيعة و العادات و التقاليد و التراث و النفس الوطنية في النرويج التي كانت جزءًا لا يتجزأ من السويد إلى أن حان موعد الإستقلال في العام 1905. توفى الأب و هو في الأربعين من عمره بعد صراع طويل مع المرض قي العام 1893 لتواجه الأسرة أزمة اقتصادية طاحنة كألم عظيم يساهم في تشكيل قريحة أوندست الأدبية المميزة فيما بعد ليبدأ الكفاح من أجل الحياة و في سن السادسة عشر من عمرها في العام 1898 تأتي الأقدار برحماتها المتدفقة لإحتواء مصائرنا نحو أمل جديد و هذا ما حدث لأوندست التي وجدت إنسانة تعرف معنى الرحمة و الحنو نحو كل من يعاني الحرمان من إستكمال مستقبل أفضل و ذلك في شخصية السيدة نيلسن التي كانت جارة لهم تعرض على الأم أن تتكفل بتعليم بناتها و من بينهن سيجريد أوندست التي ذهبت لمدرسة التجارة المتوسطة بكريستيانيا و تعرض نيلسن على أوندست دخول إمتحان القبول بالمدرسة و لكن ترفض أوندست دخول الإمتحان لتتركها نيلسن على راحتها حتى تعرف كيف تأخذ قرارها بنفسها أما أخواتها فيقبلن عرض نيلسن لتختار أوندست مدرسة الحياة و تقول في هذه اللحظة أنها لم تندم على هذا القرار الذي يبدو من الوهلة الأولى أنه ليس بالهين. تلتحق أوندست بالعمل في شركة هندسية قالت عنها بالكئيبة لشعورها بأن القرار كان صائبًا بعدم الإلتحاق بالمدرسة التجارية بعد أن تحملت العمل كسكرتيرة بتلك الشركة من أجل أمها و أخواتها لتتجرع العذاب المهني بقريحة الصبر و التأقلم من أجل الآخرين و هنا وجدت أوندست في سنوات العشر العِجاف بعملها بتلك الشركة حتى العام 1908 سلواها و متعتها لتخفيف آلالام الجبر و الإكراه بالقراءة و التعمق في الأدب و مختلف معارف الحياة. بدأت قريحة الأدب تتوهج على الورق لأوندست لتقوم بنشر أول عملين لها و هما (السيدة مارتا أولييه) في العام 1907 و (عام سعيد) في العام 1908 و بسبب روايتها الأولى (السيدة مارتا أولييه) تنضم إلى اتحاد كُتاب النرويج ليكون المولد الأول متسمًا بالنضج و التميز رغم بكارته في عالم الأدب. يأتي العام 1908 ليكون عامًا سعيدًا لأوندست كما كان في روايتها الثانية لتترك عملها بالشركة الهندسية و تودع سنوات العشر العِجاف بنصر مبين من أجل الفكر و الأدب و الثقافة لتكتفي بالعيش و الكسب و التربح من أدبها في العام 1909 و تأتي مكافأة القدر لكل من صبر على إختباراته بعمل جولة ثقافية و علمية لها عبر ألمانيا و إيطاليا ليكون هذا العام بحق موعدًا مع السعادة بعد خروجها من رحم الحرمان. في العام 1911 استقرت أوندست بإيطاليا و خلال حياتها بروما تعرفت على الرسام النرويجي أندريه سفارشتاد الذي طلق زوجته ليتزوج من أوندست في العام 1912 و تتم الزيجة بين الأدب و الفن التشكيلي بكل إئتلاف و تُنجب منه ثلاثة أطفال علاوة على تربيتها لأطفاله الثلاث من زوجته الأولى و أختبر القدر أوندست للمرة الثانية حيث ولدت لها إبنة معاقة علاوة على تربيتها لإبن زوجها المعاق لتكون الآلام حافزًا مهمًا نحو أدب عظيم ينضح من ألم عظيم و تذهب أوندست مع زوجها للندن تمكث بها ستة أشهر لتنهل من بلد شكسبير و مارلو و ملتون و وردز ورث نسمات الأدب الخالد و إذ بإلهام الفن المتراقص تلهفًا لإبداع جديد ينضح في العام 1911 برواية (جيني) و التي تحكي عن قصة سيدة رسامة أصيبت بصدمة عاطفية تسببت في إنتحارها و هنا كان للمدرسة السيكولوجية دورًا في نضج أدبها و في العام 1914 كتبت رواية (الربيع) و التي تتحدث عن سيدة نجحت في إنقاذ نفسها و حبها من أزمة زوجية عاصفة لتصل بأسرتها إلى بر الأمان. هذه المرحلة الناضجة شهدتها النرويج و كانت لمهنة السكرتارية دورًا بارزًا في تعليم أوندست كيف تنظم وقتها بين بيتها و فنها علاوة على هضم طبيعة المجتمع خلال العشر سنوات العجاف نحو المجد و الخلود و ذلك بإنتظار خلود الجميع للنوم مع إتمام مهمتها اليومية مع إبنيها المعاقين لتتفرغ مع سكون الليل لقصصها و مناقشاتها و نشاطاتها الحقوقية متمردة على التحفظ المنغلق للمجتمع النرويجي لما عرف عنها بالتمرد على المألوف. كانت للحرب العالمية الأولى دور كبير في التأثير على أوندست نحو نظرتها العامة للحياة خاصةً الناحية العقائدية فبعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1918 بدأت التساؤلات العديدة نحو الحياة تداعب مخيلتها الإنسانية و الأدبية و بدأ الوازع الديني الكامن في بيت عائلتها يلامس عقلها بعد إكتشافها زيف مقولة أن العلم و المادة أساس كل شيء في الحياة مما دفعها للتعمق في العقيدة المسيحية لتعتنق في العام 1924 المسيحية الكاثوليكية وسط دهشة و إستنكار الشعب النرويجي المعتنق بسواده الأعظم للطائفة البروتستانتية. كتبت أوندست بعد إستقرارها في تلك المرحلة رواية قصيرة عن التاريخ النرويجي في المرحلة الوثنية علاوة على كتابتها لكتاب عن أساطير الملك آرثر مع دراستها لمخطوطات و نصوص العصور الوسطى مع زيارتها للكنائس النرويجية في تلك العصور لتكون ملمة بتلك الفترة عند الكتابة عنها علمًا و أدبًا على الرغم من طلاقها في العام 1919. في العام 1920 حتى العام 1922 كتبت أوندست رائعتها الخالدة (كريستين لافرانزداتر) بأجزائها الثلاث و التي قُسمت إلى: - الجزء الأول (أكليل العروس). - الجزء الثاني (سيدة هوسابي). - الجزء الثالث (الصليب). هذه الملحمة الثلاثية عبارة عن رواية تاريخية إنسانية تمزج بين التاريخ و المشاعر الإنسانية في العصور الوسطى عن بطلة الرواية كريستين وما مر بها من أحداث ضمن أسلوب وصفي مشوق يسوده مناخ إيماني لترجح الكاتبة بالنهاية انتصار الإنسان المؤمن على الشيطان والفضيلة على الرذيلة. ذكرت أوندست في هذه الملحمة قرائها بجرأتها القصصية التي بدأتها في رواية (السيدة مارتا أولييه) التي إستهلتها ب(كنت خائنة لزوجي) و التي أثارت إعتراض المجتمع النرويجي المحافظ الغير معتاد على تلك الجرأة الفكرية. في العام 1925 حتى العام 1927 نشرت ملحمتها التاريخية الثانية بعنوان (أولاف أودنسون) ليُكتب لها الخلود و تُترجم أعمالها إلى اللغة الإنجليزية ليُكتب لها الإنتشار حول العالم . في العام 1928 أعلنت الأكاديمية السويدية بإستكهولم عن فوز حكائة النرويج الأولى (سيجريد أوندست) بجائزة نوبل للآداب كثالث امرأة و نرويجية تفوز بها و ذلك لما ورد في حيثيات الجائزة: (من أجل تصويرها القوي للحياة خلال العصور الوسطى بسكنديناوه). كان المقصود من خلال هذا التعبير القيم روايتيها (كريستين) و (أولاف) التاريخيتين و التي تدور أحداثهما في القرن الثالث عشر الميلادي. في العام 1929 أصدرت أوندست سلسلة روايات عن المجتمع النرويجي المعاصر خاصةً الجالية الكاثوليكية النرويجية قليلة العدد و كان الحب هو محورها الأساسي كما نشرت عددًا من الروايات التاريخية التي وضعت النرويج في إطار جليل مع ترجمتها لعدد من قصص البطولة في أيسلندا إلى اللغة النرويجية علاوة على نشر عدد من المقالات عن الشقيقات برونتي و عن د.ه.لورانس. في العام 1934 نشرت كتابًا بعنوان (في سن الحادية عشرة) و هي سيرة ذاتية عن طفولتها بكريستيانيا و أسرتها ذات القيم الثقافية و الحب المتبادل و قصة مرض والدها. في العام 1939 كتبت رواية تاريخية بعنوان (مدام دورتيا) عن سكنديناوه في القرن الثامن عشر لم ينشر منها سوى الجزء الأول بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى التي حطمتها كإنسانة و كاتبة. في العام 1940 غزت ألمانيا النرويج لتضطر أوندست مغادرة النرويج إلى السويد بسبب معاداتها للنازية و هتلر مما دفعه لمنع تداول أعمالها بألمانيا منذ توليه السلطة في العام 1933 و كان إبنها الأكبر ضابطًا في الجيش النرويجي قُتل على يد الألمان و ماتت قبله إبنتها المعوقة قبل نشوب الحرب بقليل لتصبح أوندست حطام كاتبة و إنسانة. في العام 1940 هاجرت إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية مع إبنها الأصغر و أخذت تروج عبر أمريكا لقضية بلادها عبر كتابتها و أحاديثها إلى أن حُررت النرويج في العام 1945 لتعود إلى الوطن دون أن تكتب كلمة واحدة حتى وفاتها يوم 10 يونيه من العام 1949.