نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرًا حول أداء القطاع المصرفي ورؤى خبراء الاقتصاد والتمويل حول مستقبل القطاع في مصر. وكشفت الصحيفة الأمريكية أوجه التباين في تقييم الخبراء لأداء القطاع المصرفي المصري، حيث يوجد من ينادي بتكليل جهوده التي حالت دون وقوع كارثة مالية محققة، وهناك من ينتقد بشدة السياسات الائتمانية وتأثيرها السلبي على قطاع عريض من المشروعات الصغيرة والمتوسطة في السوق المصري. واستعرضت الصحيفة أبرز التحديات والأزمات التي واجهت القطاع المصرفي المصري منذ قيام الثورة وانتهاء حكم الرئيس السابق حسني مبارك في فبراير 2011، ومنها انخفاض قيمة العملة وهروب رؤوس الأموال الأجنبية وغيرها من العقبات التي تركت البنوك في مواجهة صعبة مع ديون الدولة. وقالت الصحيفة أن التعديلات التي شهدها القطاع المصرفي طوال العشر سنوات الماضية ساهمت إلى حد كبير في الحفاظ على تماسك القطاع وتعزيز قدرته على مواكبة الأوضاع غير المواتية. وتناول التقرير تعليق هشام عز العرب رئيس مجلس إدارة البنك التجاري الدولي، والذي يرى أن قدرة الدولة على مباشرة المهام والالتزامات المنوطة بها يرجع الفضل فيه إلى أداء الهيئات التنظيمية الرقابية وأبرز اللاعبين في القطاع المصرفي المصري. وأوضحت الصحيفة أن البنوك المصرية بشكل عام تمكنت من تطهير الميزانيات من أغلب الديون والقروض المتعثرة، ونجحت في التغلب على سلبيات الإرث الاقتصاديعلى مدار خمسين عامًا، وهو إنجاز يدعو للفخر والإشادة.وتابعت أن السوق المصري يضم 39 مؤسسة مصرفية – مقارنة ب62 مؤسسة في مطلع العقد الماضي –في إشارة إلى أن هذه المؤسسات نجحت تحقيق أرباح قوية منذ عام 2004 وحتى تفاقم الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وأشارت الصحيفة إلى أن البنوك قامت بتدريب مديري الائتمان على منح القروض والتسهيلات الائتمانية بضمان توقعات الأرباح المستقبلية كبديل عن الأصول الثابتة. وهذا التحول من الناحية النظرية يعني أن المشروعات الجديدة التي تحظى بخطط ابتكارية ومنتجات فريدة يمكن أن تحصل على التمويل دون رهن أصول وممتلكات عقارية على سبيل الضمان. ومن جانب آخر فإن الجهات التنظيمية والرقابية لا تنصرف عن المتابعة للحثيثة لمخصصات البنوك في مواجهة القروض المتعثرة، وذلك بالتزامن مع تحويل القطاع ككل إلى انتهاج معايير Basel II التي أقرتها لجنة بازل حول نظم الرقابة البنكية. لقد نجحت البنوك والمؤسسات المصرفية المصرية في التركيز على نطاق غير معقد من القروض المحلية، بينما راحت البنوك الأوروبية تكدس الرهونات العقارية وغيرها من المشتقات السامة، ومن ثم حصلت البنوك المصرية على إشادة مؤسسة Standard & Poor'sفي تقريرمايو الماضي نظرًا لتفوقها في تقديم الخدمات البنكية المتميزة، ونجاحها في تجنيب مصر أزمة ديون مدمرة مثل فقاعة الأصول التي ضربت الأسواق الأوروبية. وأشارت الصحيفة إلى أن هذا التوجه الرشيد أدى إلى ظهور أحد البنوك التجارية المصرية التابعة لبنك بايريوس اليوناني (تم شرائه في عام 2005) كواحد من الكيانات القليلة القادرة على جذب اهتمام مجتمع الاستثمار الأجنبي في حقبة ما بعد مبارك، مضيفة أن بنك Standard Charteredدخل في مرحلة متقدمة من المحادثات للاستحواذ على بنك بايريوس مصر قبل انقطاع هذه المحادثات في نوفمبر الماضي على خلفية تدهور الوضع الاقتصادي المتردي في مصر، وذلك مع تردد الشائعات حول اعتزام أكبر البنوك في السوق المغربي(البنك التجاري وفا) بشراء البنك المصري. على الجانب الآخر أشارت الصحيفة إلى عدد من السلبيات المترتبة على سعي البنوك إلى انتهاج سياسة حذرة و"أسلوب ضبط النفس" للخروج من الوضع الراهن، حيث يرى العديد من خبراء الاقتصاد أن البنوك المصرية التي سعت إلى تجنب المخاطر كانتمن أبرز مسببات أزمة فرص العمل وما أدت إليه من اشتعال الأحداث طوال العام الماضي. ويرى المحللون أن هذه البنوك فضلتالعمل مع المؤسسات الضخمة على حساب المشروعات الصغيرة مما أدى إلى تضاؤل فرص التمويل لما يفترض أنه المحرك الرئيسي للاقتصاد الوطني اللامركزي، بالتوازي مع سلبيات الخصخصة وانخفاض الرسوم الجمركية على الواردات مما أطلق العنان لمؤشرات التضخم والبطالة. وتلاحظ الصحيفة أن الجيل الجديد من البنوك التجارية في مصريرى ضرورة الأخذ بالتدفقات النقدية ضمن معايير تحديد الجدارة الائتمانية، على الرغم من أن هذه البنوك–علىغرار نظرائها حول العالم –مازالتمترددة في الإقبال على أنشطة الإقراض الصغير ذو الهامش المحدود. وأضافت أن الشارع مصر دخل مرحلة الاستعداد إلى جولة الإعادة في أول انتخابات رئاسية حرة في مصر، إلا أن أحدًا من المرشين الباقيين لم يبادر بالكشف عن خططه لمستقبل القطاع المصرفي في الدولة. وفي هذا السياق أشارت ماجدة قنديل، الرئيس التنفيذي للمركز المصري للدراسات الاقتصادية، أن البنوك والمؤسسات المصرفية ساهمت في تعبئة المناخ الثوري من خلال التقصير في دعم المشروعات الأصغر حجمًا لصالح المؤسسات والشركات العملاقة، حيث ترى أن السوق المصري حقق نموًا كبيرًا دون توزيعه بصورة عادلة. وترى الصحيفة أن السيولة المالية هي أبرز المشكلات التي تواجه الشركات الصغيرة والمتوسطة وحركة التجارة في العالم العربي، وذلك على الرغم من أن عددًا من الدول حذت حذو مصر نحو تحرير القطاع المصرفي ومنها الأردن والسعودية وسوريا. واستنادًا إلى إحدى دراسات البنك الدولي يرى المحلل الاقتصادي طارق الغمراوي أن هذه المشكلة تظهر بوضوح في السوق المصري، حيث أن نصيب الاستثمارات الجديدة من إجمالي القروض لا يتجاوز 3.5% مقارنة مع12.8% في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.وتجدر الإشارة إلى أن 4.2% فقط من هذه القروض تذهب إلى المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وأن أكثر من نصف القروض الموجهة إلى القطاع الخاص تذهب إلى 0.19% من عملاء البنوك. وأضاف الغمراوي أن البنوك المصرية لم تشهد أزمة سيولةقبل قيام الثورة. فعلى الرغم من أن واحد من أصل عشرة أفراد في مصر لديهم حساب بنكي (وفقاً لتقديرات خبراء القطاع المصرفي والاقتصاد في القاهرة) إلا أن إجمالي الودائع البنكية كان يساوي الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة مرتفعة جدًا قياسًا على المعدلات العالمية. وأشار إلى أن بيانات البنك المركزي المصري ومؤشرات البنك الدولي بينت أن نسبة القروض إلى الودائع في مصر لم تتجاوز 54% وهي أقل كثيرًا من المعدلات العالمية (86%) ومعدلات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (71%). وترى الصحيفة أن محدودية فرص التمويل تدفع الكثير من الشركات المصرية إلى الاقتراض بعيدًا عن المظلة التنظيميةفي السوق السوداء،والذي يمثل ما يتراوح بين 10% و25% من الناتج المحلي الإجمالي وفقاً لتقديرات الخبراءمما عني غياب أحد مصادر الإيرادات الهامة في الدولة ومنح غطاء في غاية الخطورة لجرائم غسيل الأموال. وفي تقديره يرى أنجس بلير، رئيس معهد سيجنيت بالقاهرة –المتخصصفي بحوث السياسة والاستثمارية في العالم العربي– أنالبنوك المصرية يجب أن تغير منهجها وأن تنافس بقوة لاقتناص كعكة "الاقتصاد غير الرسمي". وأوضحت الصحيفة أن أزمة السيولة في مصر لا تنحصر في شريحة المشروعات والأنشطة الصغيرة فقط، حيث أن البنوك المصرية اضطرت إلى توجيه رؤوس أموال ضخمة لتغطية الديون السيادية منذ قيام الثورة، مما نتج عنهتسييل الاستثمار الأجنبي في أذون الخزانة خوفاً من تداعي الأوضاع السياسية.وترى الصحيفة أن البنوك المصرية لا تمانع في تخصيص ما يقرب من ثلثي حجم الائتمان المحلي من أجل تغطية الدين العام طالما أنها تجني أرباحًا تصل إلى 16%، حتى وإن كان ذلك يتم على حساب توفير الاستثمارات الرأسمالية الضرورية لعملاء هذه البنوك. وتشير الصحيفة إلى أن هذا النوع من الممارسات قد يجعل البنوك عرضة إلى العجز الحكومي. فإلى جانب الإشادة بحكمة البنوك المصرية، قام تقريرمؤسسةStandard & Poor'sبتخفيض التصنيف الائتماني لأربعة بنوك مصرية بسبب التعرض الزائد إلى سندات وأذون الحكومة على الرغم من التدهور الملحوظ في التصنيف الائتماني لمصر. ونقلت الصحيفة اتفاق معظم خبراء التمويل والبنوك على أن المشروعات الصغيرة والمتوسطة تمثل ما يقرب من 80% من مؤسسات القطاع الخاص في مصر، ومن ثم فهي تعتبر سوق جذاب يجب اختراقه بقوة. وعلى هذا المنوال أخذت الصحيفة مثال البنك التجاري الدولي لدعم هذا التوجه، حيث قام عز العرب بالإفصاح عن نية البنك لتقليل اعتماده على العملاء من المؤسسات من 80% إلى حوالي 60% بحلول عام 2016، مع توجيه الفارق إلى العملاء الأفراد وأنشطة التمويل الاستهلاكي وأصحاب المشروعات الصغيرة. وأشار إلى أن البنك يتطلع إلى تطوير نموذج مرن لإدارة المخاطر من أجل مساعدة المشروعات الصغيرة على التحوط من التحديات التي تواجه البنك. وترى الصحيفة أن البنوك لديها العديد من الأدوات الفعالة لمساعدة المشروعات والأنشطة التجارية الصغيرة بعيدًا عن القروض والتمويل التجاري المعتاد، ومنها مثلاً خدمات السحب على المكشوف، حيث تتفق البنوك أن هذه الخدمات ذات الهامش المنخفض يمكن أن تأتي بمردود قوي لو أن العميل يحظى بفرص نمو قوية تؤهل شركته للقيد بالبورصة. وأضافت الصحيفة أن أغلبية الشركات العائلية التي تقترض من السوق السوداء لا يكتب لها النجاح لأكثر من أجيال معدودة، وهو ما يثير مخاوف البنوك من استثمار الوقت والمجهود والموارد اللازمة لبناء علاقة متينة بين البنك والعملاء. وفي هذا السياق يرى أندرو لونج، الرئيس التنفيذي لبنك اتش اس بي سي مصر، أن معظم المشروعات التي يكتب لها النجاح لا تحظى بالخبرة السوقية اللازمة وليس لديها علامة تجارية جذابة أو مميزات تنافسية بخلاف ما تعرضه من منتجات وخدمات. وتابعت الصحيفة أن الجهود الحكومة لكشف الغطاء عن هذا السوق الموازي جاءت بنتائج مختلطة، في إشارة إلى نجاح بنك القاهرة (وهو أحد البنوك التابعة للقطاع العام) في تمويل الأنشطة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة وتوفير التمويل متناهي الصغر والقروض التي لا تتجاوز بضعة مئات الدولارات مقابل معدل فائدة مرتفع، على عكس القواعد الجديدة التي استحدثها البنك المركزي لإتاحة تتيح توفير القروض الصغيرة من مخصصات البنوك للوقاية من خسائر القروض العالية والتي لم تلق استجابة واسعة من البنوك المصريةحتى الآن، ووصولاً إلى إطلاق السوق الثانوي في البورصة المصرية منذ سنوات قليلة وتبسيط إجراءات القيد لمساعدة الشركات الصغيرة على توفير التمويل من إصدار الأسهم على الرغم من صعوبة جذب شركات جديدة نتيجة عدم الوضوح الذي يخيم على مستقبل مصر السياسي والاقتصادي. واختتمت الصحيفة تقريرها بتصريح محمد عمران، رئيس البورصة المصرية، عن أن المرحلة الراهنةتعد فترة صعبة لكافة الشركات والمشروعات الصغيرة حيث يسود الاعتقاد بأن الوقت ليس مناسبًا لدخول سوق الأسهم.