ينعقد هذه الأيام فى مدينة نيودلهى عاصمة الهند مؤتمر قمة يضم رؤساء دول مجموعة البريكس، وهى البرازيل وروسيا والصين وجنوب أفريقيا والهند. ومن المتوقع ألا يكون الاهتمام الإعلامى بهذه القمة على مستوى يستحقه اجتماع يحضره رؤساء دول تمثل مساحتها 25٪ من مساحة أراضى الكوكب، ويعيش فيها أكثر من 41٪ من سكانه، يحققون دخلا يعادل 25٪ من مجمل الدخل القومى العالمى، وتحتفظ مصارفها وخزائنها بما يزيد على 50٪ من مجمل احتياطى العالم من الذهب والعملات الأجنبية. تدين هذه المجموعة باسمها لخبير اقتصادى يدعى جيم أونيل كان يعمل بمؤسسة جولدمان ساكس عندما طرح تصوره فى مذكرة داخلية عام 2001 عن إمكان قيام تكتل من هذه الدول الناهضة بسرعة ملفتة ، ولكن الفكرة لم تتجسد فى شكلها الراهن إلا فى عام 2008 عندما انعقدت قمة استطلاعية للمجموعة ضمت رؤساء روسيا والصين والهند، وانضمت البرازيل فى 2002، العام الذى انعقدت فيه القمة الرسمية الأولى للمجموعة. ●●● بالغ الكثيرون فى تحميل هذه المجموعة من الدول أكثر مما تحتمل، وبخاصة بعد أن سادت قناعة بأن نشأتها تعنى بداية النهاية لعصر بريتون وودز، أى النظام الاقتصادى العالمى الذى وضعت الولاياتالمتحدة أسسه فى أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية. قيل أيضا، بل وكان أملا لدى كثير من المفكرين وعلماء السياسة المتمردين على النظام الدولى كما ظهر وتطور خلال النصف الثانى من القرن العشرين، أن تكون هذه المجموعة من الدول المؤشر الأقوى على أن تحولا جذريا فى النظام الدولى على وشك أن يكتمل. راح البعض يتصور أن «البريكس» كمجموعة من دول تتمتع بهذه المساحة وهذا العدد من السكان وهذه النخبة الحاكمة «المبدعة» مرشحة لأن تتولى مهمة إعادة هيكلة النظام الدولى، أو وضع هياكل جديدة لمفاهيم جديدة تصلح لقيام نظام دولى جديد. فات على هؤلاء الانتباه إلى حقيقة هامة وهى أن القفزة الهائلة التى حققتها دول هذه المجموعة فى النواحى الاقتصادية والاجتماعية لا تعنى بالضرورة أنها ترجمت نفسها نفوذا سياسيا ومكانة دولية مناسبة. ومع ذلك كان مجرد نشأة المجموعة وسعيها إلى التعريف بإمكاناتها وكسب أصدقاء من بين دول العالم النامى، يمثل بالنسبة لكثير من المحللين انطلاقة تبشر بقرب نهاية هيمنة دول وأحلاف بعينها ونهاية مؤسسات احتكرت صنع القرار الدولى. ●●● كانت نشأة البريكس تعنى كذلك أشياء أخرى. كانت تعنى تجديد آمال شعوب عديدة فى قدرتها على اختراق حواجز الفقر والتخلف. عشنا عقودا نجرب أنماطا للتنمية ونمتحن حقيقة الاستقلال الذى حصلنا عليه. بعضنا حصل على هذا الاستقلال بشق الأنفس والبعض الآخر وهو الأكثر عددا حصل عليه كمنحة من الدول المستعمرة، فجاء الاستقلال فى معظم الحالات مشروطا أو مقيدا، وفى الغالب مرتبطا بإرادة الدول العظمى. هذه الدول أعادت هيكلة الصيغة الاستعمارية والتسلطية لتتواءم مع ظروف العصر، ولكن بدون التفريط فى نظام الهيمنة. لذلك ساد الاعتقاد بين عديد النخب أن وجود البريكس كمجموعة دولية نشيطة سوف يدفع بدماء جديدة فى شرايين العالم النامى. اتضح فيما بعد، أو يتضح لنا الآن، أن «البريكس» خرجت إلى الحيز الرسمى والمعلن فى وقت «حراك» اجتماعى واقتصادى أوسع شمل بدرجات متفاوتة شعوب العديد من دول الجنوب، ابتداء من أمريكا الجنوبية مرورا بأفريقيا والشرق الأوسط ودول شرق أوروبا وانتهاء بآسيا. لا يعنى هذا أن ما يسمى الآن بثورات الربيع العربى تمثل حلقة من حلقات هذا الحراك، وإن كان جرى تفسيره من جانب بعض المحللين بأنه يعكس «حالة نهوض». وفى الوقت نفسه يصعب جدا النظر إلى هذه الثورات منفصلة عن سياق الانتفاضات التى كادت تغطى معظم أرجاء العالم، وبخاصة العالم النامى احتجاجا على تردى الأحوال الاقتصادية وتلاحق الأزمات المالية والتهميش فى الساحة الدولية. أذكر حالة الغضب التى سادت فى صفوف نخبة السياسة الخارجية المصرية حين تسرب خبر عن جهود بذلها سيلفا دى لولا الرئيس البرازيلى لدى المسئولين فى القاهرة فى محاولة لإقناعهم بمشاركة بلاده فى الانضمام إلى مجموعة البريكس. سمعنا وقتها أن مبادرته قوبلت بالاستهانة، بل وقيل إن الزعيم البرازيلى طاله بعض عبارات السخرية. فى ذلك الوقت كان رأس النظام المصرى متمسكا بأسلوب الحذر الشديد بل المبالغ فيه فى إدارته لسياسة مصر الخارجية، وهو الحذر الذى تسبب فى نشر الإحباط بين عناصر الدبلوماسية المصرية، ثم انتقل هذا الإحباط إلى المحللين السياسيين والإعلاميين فانحسر الاهتمام بالسياسة الخارجية وتدهورت مكانة مصر وسمعتها فى وقت كانت دول ناهضة كالبرازيل والهند والصين تثبت وجودها فى الساحة الدولية وتستفيد من هذا الوجود فى تحسين أدائها الداخلى. ●●● اللافت للنظر فى مجموعة البريكس الاختلافات الشاسعة بين أعضائها. فى الصين مثلا يتركز اهتمام الطبقة الحاكمة على عمليات تغيير هياكل الصين الاقتصادية مع الإصرار الأكيد على عدم المساس بالهياكل السياسية، وان وقع مساس فبتدرج ملموس. هذا الإصرار فى التعامل مع المتغيرات السياسية فى الصين يقابله إصرار مماثل، وإن أقل حدة، فى روسيا. بمعنى آخر، لا أتوقع أن يكون لموضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان مكان لائق فى جدول أعمال قمة البريكس الراهنة أو فى قمم قريبة أخرى، وسوف يستمر الفهم المتبادل قائما حول مبدأ عدم التدخل فى اختيارات السياسة الداخلية فى دول المجموعة، بينما يستمر التفكير والتعاون والتفاوض حول البدائل الاقتصادية. لا أتصور مثلا أن تتولى الحكم فى الصين قريبا قيادة سياسية تقدم على «تحرير» السياسة الداخلية سواء بتخفيض سيطرة الحزب الشيوعى الصينى أو بالسماح بإقامة أحزاب سياسية حقيقية. ولا أستبعد أن تلجأ هذه القيادة السياسية إلى إتخاذ إجراءات «عسكرية» لقمع اضطرابات اجتماعية أو سياسية. كذلك لا أتصور أن يأتى يوم قريب يغضب فيه العسكريون الهنود على الطبقة السياسية الحاكمة فيتدخلون لحماية مصالح المؤسسة العسكرية أو بحجة القضاء على الفساد أو الاضطرابات المحلية فيقيمون حكما عسكريا أو يساندون حكما ديكتاتوريا. فى الحالتين، حالة الصين إذا تحولت بوتيرة أسرع على طريق التحرر السياسى وحالة الهند إذا حلت فيها حكومة استبدادية عسكرية أو مدنية، سيكون الاحتمال الأقوى هو «الانفراط القومى». أما الروس فيجربون نمطا ثالثا وهو الاحتفاظ بكل معوقات الرئاسة القوية فى ظل نظام تعددى يخضع للتوجيه من جانب قمة السلطة. كذلك تطرح البرازيل نموذجا مختلفا أفرزته تجارب الإصلاح التى وفرت الانتقال من حكم العسكر والكنيسة إلى الحكم الديمقراطى. نلاحظ بطبيعة الحال شدة الاختلاف بين الثقافات السياسية فى دول المجموعة، إذ تختلف الثقافة السياسية فى مجتمعات أمريكا اللاتينية المتأثرة بدور الزعيم ومكانة العسكر والكنيسة عن الثقافة السياسية المتوارثة فى الصين والمعتمدة على احترام كبار السن ورموز الادارة والتقاليد الكونفوشية فى الطاعة والتمرد على حد سواء وكلاهما يختلف عن الثقافة السياسية الهندية المركبة من عناصر متعددة منها المحلى ومنها الاجنبى ومنها ما يعتمد تقاليد التراتيب الطبقية المقدسة والتراث الدينى، بوذيا كان أم هندوسيا أم إسلاميا ومنها ما يعتمد ديمقراطية ويستمينستر. ●●● لم تنشأ بعد فى دهاليز مجموعة البريكس طبقة استشارية من الأكاديميين والمنظرين، كما هو الحال فى الاتحاد الأوروبى وحلف الأطلسى ومجموعة الآسيان. لذلك نجد صعوبة فى التعرف على خطط المجموعة بالنسبة للمستقبل ونظرتها للعالم الخارجى. بدأنا مؤخرا نسمع عن أن المجموعة تفكر فى أن يكون لها مصرف للتنمية المشتركة ويتردد أن الصين تريد أن تقوم بإدارته وتوجيه سياساته، وهو ما ترفضه الهند وروسيا. وأتصور أن تسفر القمة الراهنة عن أفكار محددة تتعلق بإقامة مؤسسات وأجهزة بيروقراطية كالحال فى تكتلات أخرى. ●●● أتوقع. وآخرون يتوقعون، أن ينعكس نجاح البريكس أو فشلها على مستقبل تجربة قمة العشرين. هذه التجربة، مثل تجارب أخرى، كان الهدف منها تمديد عمر النظام الاقتصادى العالمى الذى أثمرته اتفاقات ما بعد الحرب العالمية الثانية. بمعنى آخر سوف يعنى نجاح مجموعة البريكس فى وضع أسس تغيرات هيكلية جديدة فى النظام الاقتصادى العالمى سقوط التجارب «التجميلية» التى أدخلت على هذا النظام ومنها قمة العشرين. هنا لا يجوز أن نغفل حقيقة مهمة، وهى أن البريكس فى حد ذاتها أحد إفرازات النظام الاقتصادى القائم، وليس بديلا أو نقيضا له. بمعنى أنها لا تستطيع الانفصال عن النظام القائم أو الانقلاب عليه رغم كل الانتقادات الموجهة له، وبخاصة فى ظل الأزمة الراهنة فى النظام الرأسمالى. أقصى ما يمكن أن تقوم به المجموعة هو أن تقود عملية تصحيح كبرى معتمدة على حالة الضعف المستشرى فى اقتصادات الغرب، وعلى الإمكانات المتصاعدة لدول المجموعة وسمعتها كتكتل ينفذ سياسات تنموية واعدة ويقفز بشعوبه خطوات سريعة وواسعة نحو التقدم بتكلفة غير باهظة. المصدر الشروق