منذ بداية الأزمة السورية قبل حوالي سبعة أشهر, تحولت تطوراتها وانعكاساتها الإقليمية والدولية إلى هواجس مؤرقة على لبنان: سياسيا وأمنيا، والأهم من ذلك اقتصاديا وماليا. فقد ولى الزمن الذي كان فيه القطاع المصرفي اللبناني, من أبرز المستفيدين من الأزمات والاضطرابات على ساحة الشرق الأوسط, وذلك بفعل نشوء نظام رقابة مالي وسياسي أمريكي تحت عنوان مكافحة "الإرهاب المالي". وربما كان ما رشح في الأيام الأخيرة عن تشدد المصارف اللبنانية في التعامل مع الزبائن والمتعاملين السوريين, هو أوضح مؤشر على هذه الهواجس, التي تنامت مع تشكيل حكومة رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي, الذي يمتلك فيها حزب الله وحلفاؤه الثقل الأكبر فيها. قيود و عقوبات وترافق مع تشكيل الحكومة صدور تقارير صحافية وسياسية ومالية, تتحدث عن احتمال فرض واشنطن قيودا أو حتى عقوبات على عدد من المصارف اللبنانية. وكانت الأزمة التي أثيرت حول المصرف اللبناني الكندي, والكلام عن تورطه في صفقات غسيل أموال وعلاقات مع حزب الله, الذي تعتبره واشنطن منظمة ارهابية, شكلت مسار قلق لدى القطاع المصرفي اللبناني, من احتمال تعرضه لعقوبات أمريكية. ومنذ ذلك الوقت سعى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير المالية محمد الصفدي وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة طمأنة الأمريكيين والأجانب عموما بشأن سلامة القطاع المصرف, والأمر نفسه بالنسبة إلى المودعين والمتعاملين، خصوصا كبار رجال الأعمال. وبحسب سلامة فإن حجم القطاع المصرفي يبلغ ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد اللبناني. وكان الرئيس ميقاتي قد أعلن أن لبنان سيلتزم بأية عقوبات قد يفرضها مجلس الأمن الدولي على دمشق، في حين أعلن الصفدي أثناء زيارته الأخيرة إلى واشنطن, أن "لبنان لن يكون الرئة المالية لسوريا". ورغم نفي حاكم المصرف المركزي رياض سلامة الأنباء عن تدخل السفارة الأمريكية في لبنان لدى المصارف اللبنانية للتحقق من ودائع أكثر من 120 شركة وشخصية سورية في تلك المصارف, فإن الصحف اللبنانية نقلت عن مصادر مصرفية متعددة تأكيدها أن موظفين من السفارة زاروا مصارف لبنانية عدة في مهمة التحقق هذا. حذر من المتعاملين السوريين وكان هذا هو الدافع وراء إقدام مصارف لبنانية على الامتناع عن فتح حسابات لعملاء سوريين بالدولار الأمريكي. وهو ما أكده سلامة بطريقة غير مباشرة, عندما قال ردا على سؤال في هذا الشأن "إن الدولة السورية نفسها قررت عدم التعامل بالدولار"! ومع أن القانون واللوائح المصرفية تحظر التمييز بالتعامل مع عملاء المصارف، إلا أن سلامة برر ذلك بالقول إن هذه مؤسسات خاصة, ولديها بعض الهامش ومن أجل التصرف لحماية نفسها وعملائها ومن أجل الحذر وتجنب الوقوع في أي مشكلات. وطبعا المقصود تجنب الوقوع مستقبلا في أي خطأ يعرض المؤسسات المالية لمشكلات مع الأمريكيين أو الأوروبيين. ويقدّر حجم الودائع السورية بالمصارف اللبنانية بثلاثة مليارات دولار من أصل حوالي 103 مليار دولار تشكل إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية. وتؤكد المصادر المصرفية أن هذه المصارف لم تشهد تدفقا غير اعتيادي, اتى من عملاء وزبائن سوريين منذ بدء الأزمة في سوريا, برغم أنباء كانت تحدثت عن تدفق حوالي 20 مليار دولار من سوريا إلى لبنان. وهو ما نفاه القطاع المصرفي مؤكدا أن الكتلة المالية من القطع الأجنبي في السوق السورية كلها لا تصل إلى هذا الرقم, كما أن القيود التي فرضها المصرف المركزي السوري على خروج العملة الأجنبية, تعيق تماما حصول هذا. ومن الواضح أن تحرك السفارة الأمريكية لدى المصارف اللبنانية, أثار موجة من القلق لديها, جعلها تتشدد لدى زبائنها السوريين وبالأخص في تعاملهم بالدولار. ويظهر أن الخشية الأساسية لهذه البنوك من أن يكون المتعامل غطاءً أو واجهة لشخصيات أو شركات سورية مشمولين بالعقوبات الأمريكية والأوروبية. ووصل التشدد لدى المصارف إلى الامتناع عن التعامل مع لبنانيين على خلفية أن يكونوا من حملة الجنسيتين السورية واللبنانية, في ظل غياب أي وسيلة للتأكد من جنسية هؤلاء أو من كونهم واجهة لجهات سورية. وقامت بعض المصارف، التي تخشى أنها تفتقر إلى الغطاء السياسي الأمريكي، بإجراء ما يمكن وصفه ب "حملة تطهير عرقي" للحسابات, العائدة لسوريين أو المشتبه بأنهم سوريين. ويتحدث الإعلام اللبناني عن وجود لائحة "مشتبه بهم" سوريين غير رسمية لدى المصارف, إضافة إلى لائحة من 120 شخصية وشركة مشمولة بالعقوبات الأمريكية والأوروبية. ويبدو أن الضغوط تتزايد بشكل كبير على المصارف اللبنانية التي لها فروع في سوريا, التي لا تستطيع أن تمارس أي تمييز بحق الزبائن والمودعين. وتملك خمسة مصارف لبنانية فروعا في سوريا, تمثل ثلث القطاع المصرفي الخاص في سوريا. ورغم أن المصارف اللبنانية كانت تتوقع نتائج كبيرة من دخولها السوق السورية إلا أنها لا تخفي الآن استعدادها للانسحاب منه, في حال تكثفت الضغوط الأمريكية والدولية, ولو أدى ذلك بها إلى خسائر مؤلمة. ومع أن حاكم المصرف المركزي رياض سلامة أعلن أن المركزي لم يصدر أي تعليمات بشأن التعامل مع الودائع والمودعين السوريين, في ما عدا الشخصيات والجهات والمفروض عليها عقوبات, إلا أن المصرف المركزي يمارس سياسة غض النظر عن اجراءات المصارف, في هذه الظروف, خشية إغضاب الأمريكيين وأيضا خشية إغضاب دمشق، وفي ذلك حسابات سياسية وليس مالية فقط. وقد أعلن سلامة أنه لم يسمع لدى زيارته الأخيرة لواشنطن عن "أي تهديدات أمريكية" للقطاع المصرفي اللبناني, لكن يبدو واضحا أن سلامة والحكومة اللبنانية لا يملكان ما يطمئن القطاع المصرفي من عدم تعرضه مستقبلا لإجراءات أمريكية أو دولية, ليس فقط لأسباب مصرفية محتملة, بل ربما لأسباب سياسية تتعلق بمواقف لبنان الرسمية من دمشق, وربما لأسباب تتعلق بالرغبة في تشديد الخناق على الحكومة السورية