حقَّقت السياسة الخارجيَّة السوريَّة خلال العقود الثلاثة الماضية إنجازات على صعيد إيجاد معادلات جديدة وامتلاك ديناميكيَّة في مواجهة التحديات السياسيَّة والأمنيَّة على المستوى الإقليمي، وكانت دمشق قد تمكَّنت من صياغة دورها الإقليمي في ظلّ سيادة نظام القطبيَّة الثنائيَّة ودعم الاتحاد السوفيتي (السابق) لها، مما مكن صانع قرار السياسة الخارجيَّة السوريَّة من تأمين هوامش مقبولة لتحركه السياسي على الصعيد الإقليمي، استطاعت سوريا وضع يدها على مفاتيح لها دور مهم في ضبط التوازنات الإقليميَّة وإدارة الصراع بطريقة جعلت منها لاعبًا إقليميًّا مهمًّا. وفي تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبروز القطبية الأحاديَّة الأمريكيَّة، واندفاع الإدارات الأمريكيَّة نحو فرض تسويات للصراع العربي -الإسرائيلي، من وجهة النظر الإسرائيليَّة التوسعيَّة، واجهت السياسة الخارجيَّة السوريَّة العديد من التحديات، ويعد تحالف سوريا مع إيران أحد الركائز الأساسية للدور السوري الإقليمي. وتجدر الإشارة إلى أن الورقة الإيرانية لا تزال ورقة كبرى في يد دمشق، فمن الخطأ الاعتقاد بأن دورًا إيرانيًّا يمكن أن يلعب في الشرق الأوسط من دون دمشق، الحليف الاستراتيجي لإيران؛ فسوريا مهمة لإيران في العمق العربي، مثلما إيران مهمة لسوريا في التوازن الاستراتيجي، وقد توجت هذه العلاقة التحالفية بتوقيع البلدين معاهدة دفاع مشترك في عام 2010، والوصول إلى نقلة نوعيَّة في العلاقات السياسيَّة والاقتصاديَّة والتجاريَّة والثقافيَّة، أبرزت مكانة العلاقة الاستراتيجيَّة بينهما على المسرح الإقليمي والدولي، خاصة في التصدي لسياسات الهيمنة الأمريكيَّة، والسياسات الإسرائيليَّة التوسعيَّة. مستقبل الدور الإقليمي السوري تجدر في البداية الإشارة إلى أن الولاياتالمتحدة معنية بألا يبقى النظام السوري شموليًّا، وأن تصبح سوريا دولة ديمقراطيَّة وتعدديَّة، لكن المؤكَّد أن ما يهمها أكثر من ذلك كله هو أن يغير هذا النظام سلوكه، وأن تتوقف دمشق عن السعي المتواصل لدور إقليمي في المنطقة، فتخرج من لبنان أمنيًّا وسياسيًّا، بعد أن خرجت منه عسكريا، وأن توقف تدخلها في الشأن العراقي، وغيرها من الملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط، بعبارة أخرى، تسعى واشنطن إلى تعديل النظام السوري وتطويره، وذلك بما يجعله صالحًا للتفاعل الإيجابي مع متطلبات الهيمنة الأمريكيَّة علي المنطقة. وعليه فمن المرجح أن تؤدي الأوضاع السياسيَّة والأمنيَّة المتدهورة في سوريا، بما في ذلك ما يرتبط بها من ضغوط أمريكيَّة متواصلة على دمشق -وبصرف النظر عما قد ينتج عنها من حيث سقوط النظام السياسي الراهن من عدمه- إلى إجبار دمشق على التراجع، ولو جزئيًّا، عن سياستها الإقليميَّة، والتخلي عن بعض طموحاتها التقليدية للعب أدوار في بعض الملفات الساخنة في الشرق الأوسط. ففيما يتعلق بالملف اللبناني فقد تضطرّ سوريا إلى الحد من دعمها "لحزب الله"، خاصة في ظلّ تنامي ضغوط الإدارة الأمريكيَّة عليها لإجبارها على التخلي عن دعمها للمقاومة اللبنانيَّة، وأيضًا في ظلّ ما يراه بعض المحللين سعيًا إيرانيًّا لترسيخ وتكريس دورها في لبنان، بل ووراثة الدور السوري من خلال تزويدها ل "حزب الله" بالبطاريات المضادة للصواريخ. ويبدو أن واشنطن قد حرصت على استغلال ما تمرّ به سوريا من اضطرابات، وحاولت استخدام الورقة اللبنانيَّة للضغط على سوريا في محاولة منها لتقليص الدور السوري في لبنان، حيث قامت أخيرًا بإرسال مساعد وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة لشئون الشرق الأدنى "جيفري فيلتمان" إلى لبنان، وذلك ليجدد -خلال لقائه بالمسئولين اللبنانين- الموقف الأمريكي الواضح والمتعلق بأن تقييم واشنطن لعلاقتها مع الحكومة اللبنانيّة يرتكز على أساس بيانها الوزاري، وإشارته الواضحة إلى التزام لبنان بما يصدر عن المحكمة الدوليَّة. وبالنسبة لملف الصراع العربي -الإسرائيلي، فمن المرجَّح أن تواصل سوريا دعمها للقضية الفلسطينيَّة التي تعد أيضًا من ثوابت سياستها الخارجيَّة، إلا أنه من المتصور أنها سوف تتخلى عن علاقتها بحركة "حماس" ويرجع ذلك إلى مجموعة من الاعتبارات ترتبط بظروف سوريا الراهنة، والتي تتزايد معها احتمالات سقوط النظام السياسي السوري، كما ترتبط أيضًا برؤية "حماس" لمستقبل علاقتها بدمشق، فحركة "حماس" قد أدركت عقب المصالحة -التي تمت أخيرًا بينها وبين حركة "فتح" وبرعاية مصريَّة- أن ظروف سوريا الراهنة تدفعها إلى أن تنأى بجهود ومساعي المصالحة عن التأثيرات والضغوط السوريَّة والإيرانيَّة، وترى "حماس" أيضًا أن ما يحدث في سوريا الآن من صراع هو في بعض من أوجهه صراع بين نظام الحكم و"جماعة الإخوان المسلمين" السوريَّة، الأمر الذي يفرض على "حماس" -التي تتخذ من دمشق مقرًّا لقيادتها السياسيَّة في الخارج- أن تفكر جديًّا في احتمال أن تضطرَّ مستقبلا إلى مغادرة سوريا، وربما تجد "حماس" نفسها مستقبلا في مأزق أشد، إذا ما أدى تطور الأحداث في سوريا إلى ما يجعل إيران وحزب الله في تحالف مع نظام الحكم السوري ضد القوى المعارضة له، والتي منها -إن لم يكن في مقدمتها- جماعة "الإخوان المسلمين" السورية، وفي هذا السياق كانت قيادة كل من حركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" قد توجّهت إلى أمير قطر، الشيخ "حمد بن خليفة آل ثاني"، بطلب نقل مكاتب الحركتين من دمشق إلى الدوحة، في حال انهيار النظام السوري. وإذا انتقلنا إلى الملف العراقي، فمن المرجح أن يتقلص الدور السوري في العراق إلى أدنى حد ممكن، في ظلِّ ما لدى دمشق من قناعة بأن مشاركتها في أية ترتيبات أمنيَّة وسياسيَّة في العراق ستكون تكلفتها السياسيَّة والاقتصاديَّة كبيرة، ولن يتحملها الاقتصاد السوري الذي يمرّ في الوقت الراهن بأزمة طاحنة، هذا إلى جانب إدراك دمشق محدوديَّة تأثيرها في مختلف القوى السياسيَّة العراقيَّة -باستثناء فصائل المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة- مقارنةً بالتأثير الواسع لطهران في القوى السياسيَّة العراقيَّة المؤمنة بالمرجعيَّة الدينيَّة والسياسيَّة الإيرانيَّة. كما تدرك سوريا تماما أنه حتى لو تم الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق، فإن النفوذ الأمريكي سيظلُّ قويًّا ومؤثرًا، وأنه من المستبعد أن تترك واشنطن هذا البلد الغني بالنفط لدول الجوار والدول الإقليميَّة تسيطر عليه وتتحكم في مقدراته الاقتصاديَّة والسياسيَّة. من ناحية أخرى، من المتوقع أن تنعكس الأزمة السوريَّة الراهنة سلبًا على التعاون الاستراتيجي بين سوريا وتركيا، فمن الواضح أن أنقرة، في ظل ما تحمله الأزمة السوريَّة من مخاطر تقويض مصداقيتها الإقليميَّة والدوليَّة، قد شرعت في مراجعة حساباتها فيما يتعلق بعلاقتها بالنظام السياسي السوري، وهناك العديد من المؤشرات التي تدلل على ذلك، منها الانتقادات اللاذعة التي وجهتها أنقرة للنظام السياسي السوري فيما يتعلق بتعاطيه مع المظاهرات والاحتجاجات من خلال استخدامه للقوَّة المفرطة، وقد لوحظ أيضًا الحذر التركي في التعامل مع ملف الأزمة السوريَّة وما دار من سجالات إعلاميَّة سياسيَّة في أنقرة حول التعاطي التركي ب "قفازات" مع الملف السوري، والإيحاءات بأن تركيا على استعداد للتعامل مع نظام حكم مختلف في سوريا. وقد سمحت أنقرة "لجماعة الإخوان المسلمين" السوريَّة بالتحرك في إسطنبول ولمراقبها العام بالإدلاء بتصريحات، فقد تناقلت وسائل إعلام تركيَّة أن "رياض الشقفة"، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين السوريَّة، قد صرَّح بأن "جماعة الإخوان تدير المظاهرات في سوريا، وتشارك فيها بفعالية وبأعداد كبيرة، وبأنها لن تقف قبل إسقاط النظام" كما بذلت أنقرة في الفترة الأخيرة جهودًا للانفتاح على كل من "حزب الله" و"حماس"، متجاوزة سوريا وإيران، ومتطلعة لكي تكون المحاور مع الحركتين رغبةً منها في تعزيز دورها التفاوضي وتحسين صورتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، وإلى جانب ذلك فإن حكومة حزب "العدالة والتنمية" قد أضحت خلال السنوات الأخيرة تعاني ارتفاع أصوات المعارضة الداخليَّة، التي انتقدت الانفتاح الواسع للحكومة على سوريا، والذي ارتأته المعارضة أنه قد ينعكس سلبًا على سياسات أنقرة ومصالحها الإقليميَّة، ويبدو أن أنقرة قد وصلت إلى قناعة بأن النظام السوري لن يصمد طويلا، وأن سوريا المقبلة مختلفة تمامًا. تبقى مسألة أخيرة تتعلق بمدى تأثير الظروف السياسيَّة المتدهورة واحتمالات سقوط النظام السوري في مستقبل التحالف بين كل من سوريا وإيران، فمن المتصور أن الأزمة الراهنة لن تؤثر في هذا التحالف نظرًا لارتباطه بمصالح استراتيجية لكلا البلدين، فهو يمنح سوريا أهميَّة على الساحة العربيَّة، ويمثل عنصر توازن لها في المنطقة أمام إسرائيل والعراق، وبالنسبة لإيران، فإن سوريا تمثل لها أهمية كبرى في العمق العربي، وتساعدها في تحقيق مشروعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، القائم على بناء دولة قوية قادرة على تحقيق نفوذها من لبنان إلى أفغانستان، وتكون هي المرجعيَّة والقائدة لشعوب المنطقة. ولعلَّ الموقف الإيراني الأخير من الأوضاع في سوريا قد عكس المدى الذي يمكن أن تذهب إليه طهران لحماية النظام السوري ومنعه من السقوط، وهو خير دلالة على عمق ورسوخ التحالف بين البلدين، والذي من الصعب أن ينفرط عقده أو يكون مجالا للتأثر بأية ظروف سياسيَّة. المصدر: الإسلام اليوم