متابعات :قبل خمسة أعوام، وفي الرابع عشر من ديسمبر لعام 2010، الأجواء في تونس "هادئة" كحال الدول العربية.. وفجأة وفي إحدى الأسواق الشعبية شرطية تونسية تصفع بائع خضار متجولا اسمه "محمد البوعزيزي"،.. وعلى غير المتوقع رد الشاب على الإهانة بإشعال النار في جسده أمام مبنى المحافظة تعبيرا عن شعور عميق بالإحباط والإهانة، "شرارة الربيع العربي تنطلق". وسيلة الاحتجاج من البوعزيزي رغم أنها غير مألوفة إلا أنها أشعلت الشرارة في هشيم الغضب الذي راكمته لدى التونسيين سنوات طوال لحكم الرئيس الهارب زين العابدين بن علي، ليتأزم الموقف ويزداد الغضب ويخرج مارد الشعب التونسي الذي لم يهدأ حتى انتقل إلى غالبية المدن التونسية ومنها إلى العاصمة ليهرب على أثرها بن علي. وولد محمد البوعزيزي عام 1984 في سيدي بوزيد، وتربى يتيم الأب في أسرة تعاني من ضيق ذات اليد، تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة بقرية سيدي صالح، ولم تسمح ظروفه المادية بإكمال دراسته، واضطر للعمل بائعا متجولا في سن مبكرة لإعالة أسرته التي تتكون من تسعة أفراد، أحدهم معاق. رسالة البوعزيزي لم تقبر في بلدته أو في دولته، لكن قُدِر لها أن تكون قاطرة الثورات العربية التي مرت في مصر وليبيا واليمن ثم سوريا. فتونس الخضراء وبعد 5 سنوات من انطلاق ثورة "الياسمين" لا تزال هي الواحة الوحيدة وسط صحراء الاستبداد العربي، وعلى خلاف نظيراتها العربيات، شهدت تونس بين عامي 2011 و2015 عملية انتقال سياسي منظم وسلمي مكنت البلاد من إنهاء تركة الرئيس الهارب بن علي، وإرساء دعائم نظام ديمقراطي وتعددي. حركة التغيير قادت حركة التغيير، فمنها كان ال "بوعزيزي" بائع الخضار الذي انتفض لكرامته، وحول حياة العرب إلى حلم بالجنة الخضراء.. جنة الحرية والديمقراطية بعد أن كادت المنطقة تكون الوحيدة في العالم التي يتحكم فيها مستبدون أصحاب عصا غليظة، وكأن الشعوب العربية كانت تنتظر تلك اللحظة الفارقة. وهاهي الأيام تمر والسنون تكر.. خمس سنوات على الترنيمة الأشهر عبر الفضائيات.. "بن علي هرب.." لتعلن للعالم نجاح ال "بوعزيزي" ونجاح كل مفجري الثورات، وبعد خمس سنوات يتوج هذا النجاح برئيس منتخب وبرلمان ودستور. ففي شارع الحبيب بورقيبة، وسط العامصة تونس، والذي تحول منذ ثورة الياسمين إلى "ساحة للحرية"، فملامحه اليوم تبدو مزيجاً من الفخر بكونه معقل الثورة التي أيقظت الديمقراطية.
فمن ثورة تونس، انطلقت الشرارة إلى دول عربية عديدة، وشهد العالم في 2011 قصة أشبه بالخيال، فثورة تكتمل هنا لتبدأ في بلد آخر، وتعطي درساً للغرب عن قوة الشعب العربي، الذي إن أراد أن يُغير الحياة يوماً فلا بدا أن يستجيب القدر. سقوط بن علي فتونس هذا البلد الصغير في مساحته وعدد سكانه، الكبير في طموحاته وإرادة أبنائه، يسجل تاريخاً جديداً للمنطقة، تكون الحُرية والديمقراطية فيه لإرادة الشعب، الذي رسم مُستقبله بنفسه وصنع التاريخ لأجياله. فتونس التي نزعت حريتها بيديها، حينما خرجت لتُسقط رئيسها الديكتاتوري، زين العابدين بن علي، الذي حكم تونس بعصاً من حديد منذ عام 1987, ليستمر حُكمه حتي 2011 حين هرب إلي السعودية إبان الثورة. تمر الآن بفترة عصيبة خاصة بعد أن شهدت أراضيها عدة تفجيرات متتالية، أعقبها فرض لحالة الطوارئ. وقبيل هروب بن علي بساعات، ظهر المخلوع خلال آخر خطاب له كرئيس للجمهورية التونسية مهزوماً ضعيفاً مرتبكاً، كان يستجدي الكلمات لتنقذه من ورطته التاريخية، وأمطر الشعب بوعود يعلم أكثر من أي شخص آخر أنها واهية وزائفة ومنتهية الصلاحية . وأكثر الكلمات التي رددها خلال الخطاب فهمتكم . .الكرطوش (أي الرصاص) الحي غير مقبول . . سيحاسبون نعم سيحاسبون . . بكل حزم . وبعدما تأكد هروب بن علي، لم يهدأ الشارع التونسي فقال كلمته، وظل يهتف بصوت عالي"بن علي هرب . . تونس حرة . . ارفعوا رؤوسكم ولا تخافوا ثانية . . الشعب التونسي حر . . الشعب التونسي العظيم . . المجد للشهداء . . الحرية ، كلمات ألهبت الجميع. فامتلأ الشارع التونسي بعدها بالأعلام الحمراء. بعدما أسقط الشعب التونسي بن علي، تونس كتبت تاريخها الديمقراطي الحديث، في عدة محطات سياسية متسارعة، ففي ال 14 يناير2011 غادر بن علي القصر الرئاسي والوزير الأول محمد الغنوشي يصبح رئيساً مؤقتا. وفي 15 يناير، أكد المجلس الدستوري عدم دستورية رئاسة الغنوشي ويولّي رئيس البرلمان محمد فؤاد المبزع منصب رئيس الجمهورية مؤقتاً. وفي ال 17 من يناير، جرى تشكيل حكومة جديدة برئاسة راشد الغنوشي، تلتها تظاهرات عارمة تطيح حكومة الغنوشي الأولى ليعيد تشكيل حكومة ثانية قبل أن تعود الاحتجاجات وتطيحها ويسقط قتيلان. حركة النهضة أما في 7 مارس 2011، فقد تولى الباجي قائد السبسي تشكيل حكومة جديدة علي أسرها، أنتخب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، الذي فاز حزب النهضة بغالبية مقاعده. وقبل أن يُعلن عن تشكيل ما يعرف بحكومة "الترويكا" التي تولت مهامها في ديسمبر2011 ، بدأت ملامح الأزمة تظهر مجدداً في سعي حركة النهضة إلى تغيير ملامح الدولة قبل أن تنتهي باستقالة الجبالي، إثر اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد ليتم تشكيل حكومة ترويكا ثانية برئاسة علي العريض في مارس 2013. ورافقت العثرات حكومة العريض التي قوبلت بحركة واسعة من الاحتجاجات والمطالب الاجتماعية، وفي يوليو من العام 2013، تم اغتيال المعارض البارز محمد البراهمي ليتأجج من جديد الغضب الشعبي ضد حركة النهضة. وبعد حوار دعا إليه الاتحاد العام التونسي، تصدرت المشهد حكومة كفاءات مستقلة غير حزبية برئاسة مهدي جمعة، وهي حكومة نجحت بتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية، جاء علي أسرها الباجي قايد السبسي رئيساً للجمهورية على حساب المنصف المرزوقي. وبعد فوز السبسي برئاسة تونس، كثرت الاحتجاجات العمالية حتى أن تونس لم تهأ يوما بدون تظاهرات. تفجيرات باردو وفي الأيام الأخيرة، تعرضت بعض المناطق التونسية لعمليات إرهابية، كما الحال في هجوم متحف باردو واحتجاز رهائن في 18 مارس2015 ، وخلفت الحادثة 20 قتيلا وجرح 42 آخرين وهو ما مثل صفعة قوية للسياحة التونسية، وتبنى الهجوم تنظيم الدولة الإسلامية " داعش". ولم يكن باردو آخر الأحزان لتونس فبعدها بثلاثة أشهر تحديدا 26/06/2015 تعرضت تونس لضربة هي الأكثر دموية في تاريخها الحديث، حين استهدف هجوم سياحا في فندق بولاية سوسة على الساحل الشرقي التونسي، وأوقع 37 قتيلا وإصابة 36 آخرين. وأبى العام أن يمر دون أن يبصم الإرهابيون بصمة جديدة كإعلان أنهم لن يغيبوا عن تونس، فقد قُتل 12 من عناصر قوات الحرس الرئاسي في العاصمة التونسية في انفجار استهدف حافلتهم كانت تقلهم 24 نوفمبر 2015. وبعد التفجيرات الأخيرة التي تعرضت لها تونس، أعلن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي حالة الطوارئ في البلاد، وفرض حظر التجوال في بعض المناطق بالعاصمة تونس.