في زمننا اختلطت الأفكار وضاعت فيه الاتجاهات للدرجة التي أصبح لزاما علينا إعادة تعريف الثوابت التي هي معرفةٌ في ذاتها ودليل على غيرها ، لذا أصبح لكل منا دوره الذي لابد له ان يلتزم به ، فإن انتقص منه كانت الخيانة للأمانة وإن زاد عليه فإنه يكلف نفسه ما لا تطيق فلا يحقق شيئا مما أرهق نفسه به إذ أن كل منا محدود بطاقته وبوقته وعلمه وبإمكانياته الفكرية والحركية . ولما كانت السنوات الأخيرة معملا كبيرا للتجربة واستنتاج القواعد الحاكمة لعملنا فإن الاستمرار بمنهجية التجريب تعني أننا لا نستفيد من واقعنا ولا ماضينا ولا نعمل على تطوير مستقبلنا كما ينبغي له أن يكون وكما نريده لأنفسنا . كلنا يعترف اليوم بفشلنا على مدار سنوات أربع لم نحقق منها شيئا سوى التقدم على طريق مسدود ، بلا هدف ، بلا اتجاه ، بلا تخطيط ، بلا معرفة ، بلا شيء ، خضنا معركة المصير غير عابئين بتحدياتها ولا ملتفتين لأهوالها ، فخسر الوطن وخسرنا جميعا . لكن أهم ما خسرناه حقا هو ثقتنا بأنفسنا ، بإرادتنا ، بطموحنا ، خسرنا الكثير لكننا بعد لم ننهزم ولن ننهزم أبدا إن شاء الله . قد يتأخر الانتصار لعوامل داخلية تخصنا أو لعوامل خارجية يدبرها أعداؤنا لكننا أبدا لا نستسلم ولا نعترف بهزيمة . إن أول الخطوات لاستعادة زمام الأمور هي باستعادة ثقتنا بأنفسنا ، تحفيز قدراتنا ، شحذ هممنا والبدء في المراجعة . كيف تكون المراجعة ؟؟!! في البدء كانت الطليعة ، ثم أتت الجماهير . خرج الجميع ينادون بإسقاط النظام . وعجبا لأمر النظام . فقد تهاوت أركانه سريعا وتفككت روابط مؤسساته بصورة توضح الخلل الداخلي فيه وحتمية نجاح الثورة عليه . لكننا اليوم أمام أمرين .. أولهما أن الطليعة لم تقدم للجماهير بديلا جاهزا على المستوى الفكري والمؤسسي ليحل بدلا من السلطات المتساقطة . وثانيهما تلك الصورة الوهمية التي يصدرها لنا بقايا الأنظمة بإيحاء استعادة زمام الأمور وإحكام السيطرة وهزيمة الثورة في مهدها دون أن تحقق شيئا . وهنا يتوجب تفنيد الأمرين . فأولا لم يكن ابدا مطلوبا من الطليعة أن تقدم بديلا جاهزا للقيام بعملية الإحلال والاستبدال مباشرة وإلا فإن الطليعة تمارس استبدادا باسم الثورة على الجماهير الطبيعي هو أن تخلق الثورة بنفسها لنفسها نظامها البديل عن طريق الفرز المباشر للأفكار وهذا يستدعي العودة للبحث عن مفهوم الثورة . إذ أن الثورة بمفهومها الحقيقي هي قيام الجماهير بنفسها لحساب نفسها بعملية تغيير ثقافي واقتصادي وسياسي تام تتغير به البنية الكلية للمجتمع . فتكون هناك ثقافة جديدة تتناسب وروح الثورة ، ثقافة لا تعرف السلبية ولا الانهزامية ، ثقافة تدعو للعمل والإبداع ، ثقافة تتجاوز حدود الماضي بكل بؤسه وضياعه للمستقبل بكل تطلعاته وإمكانياته . تلك الثورة الثقافية ما زالت تختمر الآن وتستمر في تغيير المجتمع ، وإن كانت بطيئة ، بطيئة جدا ، إلا أنها تخوض معارك ضارية ضد الثقافة الرجعية المتجذرة في المجتمع وضد تلك الثقافات الواردة بكل ما يشوبها من نقائص تتنافى مع ثوابتنا . أما التغيير الاقتصادي فيتعلق بتغيير البناء الاقتصادي للوطن بأسره ، ليس فحسب إعادة توزيع الثروة وإنما إعادة إنتاجها وتنميتها في ضوء إمكانيات الشعب الثائر وطموحاته نحو المستقبل . كذا علينا تغيير كل علاقات الملكية وصورها وتجلياتها وتطبيقاتها واستحداث علاقات خاصة بالثورة تتفق مع ما تفرزه الثورة الثقافية . ثم يأتي التغيير السياسي تابعا للتغيير الثقافي والاقتصادي ليلحقهما ثم يسبقهما لدور القيادة لتسريع عملية التحول الثوري . فيكون التغيير السياسي قطيعة تامة بين الأسلوب السياسي الثوري وبين ما سبقه من أساليب أثبتت فشلها الذريع مما استدعى الجماهير للثورة عليها . لابد من استحداث أساليب للإدارة السياسية الثورية تختلف بصورة تامة عن سابقتها فلا نستطيع أن ندير الدولة بنفس الوسائل والأدوات والهيئات والمؤسسات التي كانت سببا في الانتكاسة . إننا حتى تلك اللحظة نعول كثيرا على التغيير الثقافي فما زالت الجماهير متفرقة بصورة لا تمكنها من إحداث التغيير الاقتصادي المطلوب الذي يرجح كفتها حين تشرع في عملية التغيير السياسي الكبرى . إن إحداث تلك التغييرات وحدها كفيل بأن نقول أن الثورة انتصرت ، وما دامت على الأقل محاولة التغيير الثقافي قائمة فإن الثورة لا يمكن أن نقول بأي حال من لاأحوال أنها قد بائت بالهزيمة . وهنا نعود لثانيا ، عن تلك الصورة الزائفة التي تتصدر المشهد بادعاء انتصار الثورة المضادة ، إن ما يحدث ببساطة هي محاولات بائسة من بعض الأشخاص الحقيقيين أو الاعتباريين من ذوي المصالح للتمسك قليلا بزمام الأمور بحثا عن منافذ شخصية لكل منهم تضمن لهم البقاء في ظل ظروف صعبة . وهم للوصول لغاياتهم يستغلون مكامن الضعف الذاتية فينا . فما هي مواطن ضعفنا ؟؟!! الكثير من المناقشات تتم حول أسباب تراجع الحراك الثوري لكن السبب الرئيسي يكمن في محورين أساسيين ، أولا غياب النظرية الثورية ، ثانيا غياب التنظيم الثوري . أما عن تلك النظرية الثورية فللأسف كان الكثيرون منا قد انساقوا وراء أباطيل الإعلام بأن تلك ثورة بلا أيدولوجية ، وهو قول صدق أرادوا به الباطل . فالثورة من يومها الأول لم تكن قد نادت بالانحياز لفكرة أيدولوجية معينة دون سواها لكنها تحدثت بوضوح عن العيش والحرية والكرامة والعدالة . وهنا نبحث في الأفكار المختلفة ، أي تلك الأفكار قد يجيب عن تلك النداءات الثورية ؟! أما الليبرالية بمفهومها الحقيقي ذو الطبيعة الرأسمالية الاستغلالية فلا يمكن أبدا أن تمثل الثورة بأي حال من الأحوال مهما توارت وراء أفكار الحرية المزيفة التي تدعيها في سبيل الوصول لأغراضها باستغلال مقدرات الشعوب ، ناهيكم عن فكرة المصلحة الفردية التي تقود فلسفة الليبرالية في كل مراحلها ، والمصلحة الفردية لا يمكن أبدا أن تنسجم مع فكرة ثورة الجماهير التي تعتمد فكرة المصلحة الجماعية كأساس للعمل الثوري . أما الشيوعية فلا يمكن أيضا أن تكون فلسفة للثورة العربية إذ تهتم بالمادة لتسبق بها الإنسان حين تستغل كل الإمكانيات في سبيل تحقيق رفاهية أجيال قادمة على حساب تلك الأجيال المعاصرة وهذا ما لا يتفق مع روح الثورة الآنية التي تطالب بالرفاهية لنا ولأبنائنا وليس لأبناء المستقبل فحسب . على أن البديل الجاهز في محيط وطننا العربي كان بديل الإسلام السياسي باتجاهيه الرئيسيين . أولهما إسلام الركود السياسي الداعي للخمول والخضوع والانصياع للحاكم كان فاسدا أو صالحا وهذا ملا يقبله الفهم السوي للدين نفسه ولا العقل والمنطق ولا روح الثورة . وكان هناك الإسلام السياسي الثورى الذي اتضح للجماهير عن تجربة زيف ادعاءاته وأنه لا يعرف من الثورة إلا اسمها حيث لا يمثل الثورة إلا في كونه تغييرا ، لكنه للأسف كان تغييرا هداما يؤخر الأمة ولا يقدمها ، يفرقها ولا يوحدها ، يضعفها ولا يقويها ، يتآمر عليها ويحقق مصالح أعدائها . وليس المجال هنا لدراسة افكار الليبرالية والشيوعية والإسلام السياسي بمدارسهم واتجاهاتهم وميولهم وتفنيدها ونقدها ، وإنما نبحث عما تطلبه الجماهير . الجماهير طالبت بوضوح وبقوة بحقها في الحرية والعيش بكرامة في ظل نظام ديمقراطي حقيقي لدولة تقوم برعاية مصالح مواطنيها عن طريق ملكيتها لوسائل الإنتاج التي تمنع الاستغلال والاحتكار وكل وسائل التفريق بين المجتمع طبقيا أو طائفيا ، ولما كان كل قطر عربي انعكاسا للآخر فقد توالت التحركات الثورية على امتداد الوطن العربي لأن الوطن العربي يدرك جيدا أن لا مناص من عمل ثوري عربي موحد وهنا تبزغ الاشتراكية العربية كحل وحيد لفلسفة نظرية للثورة العربية . ونحن إن وصلنا لتلك المرحلة من الإدراك البسيط لحتمية تبني الاشتراكية العربية كحل ثوري وحيد وشامل للثورة العربية فإننا نبحث بعد ذلك عن هذا التنظيم العربي الثوري القادر على تبني تلك النظرية وتمكينها . فما هو التنظيم الثوري ؟! من الأخطاء الجسيمة أننا تصورنا أن أحزاب ما قبل الثورة قادرة على تمثيل الثورة ، ولما أدركنا خطأ هذا التصور وقعنا في الخطأ الثاني ، وهو تصور أن أحزاب جديدة ذات بناء تنظيمي وحركي يطابق ويشبه أحزاب ما قبل الثورة يمكن أن تمثل الثورة بحال من الأحوال . ثم وقعنا في الخطأ الثالث وهو خطأ متوارث للأسف ، ألا وهو بناء تنظيمات ثورية عربية على أسس أقليمية ، وتلك عبثية نكررها منذ لم نعي معنى ومفهوم الاستعانة بالممكن واستغلاله للوصول إلى ما هو مطلوب ، فإن كان الممكن في مراحل سابقة هو بناء تنظيمات تجمع أبناء الخط الثوري لكن في إطار منفرد داخل كل قطر ‘ فالهدف منها هو الحفاظ على الفرد الثوري بأفكاره وتأهيله لنشر فكرة الثورة ، لكن بعد حدوث الثورة نفسها فإنه لم يعد سوى ممكن واحد فقط ، ألا وهو تجاوز القطرية والطائفية والتعددية والتشرذم لبناء تنظيم ثوري عربي موحد متجاوزين الخلافات القطرية الضيقة الناتجة عن تضارب مصالح النظم الحاكمة قبل الثورة . على كل حال فإن التنظيم الثوري لن يكون إلا نتيجة تفاعل مكونات الثورة الفردية والجماعية ، النظرية والحركية ، السابقة واللاحقة ليكون تنظيما جماهيريا يعتمد مستويات تنظيمية مختلفة تماما بمسئوليات تنظيمية ورؤى فكرية وتكتيكات حركية مختلفة تماما وبإطار ممارسة وإمكانيات مختلفة تماما وعلى امتداد قومي عربي حقيقي لا إقليمي . كل تلك كانت أخطاؤنا ، فهل تجاوزنا الوقت ولاأحداث أم ما زالت الفرصة سانحة لتدارك الخطأ ؟! ما دمنا في مرحلة التغيير الثقافي الثوري فإننا ما زلنا في اوج الإمكانية لاستعادة المبادرة إن كنا صادقين مخلصين مع أمتنا ومع أنفسنا . فكيف يتم البناء ؟؟!! البناء الثوري مكون من عنصرين ، أولهما الفرد ، وثانيهما التنظيم . أما عن الفرد فبناؤه يعتمد على أربعة أولويات تتوازى سويا وتمل معا لخلق الفرد الثوري العربي الذي يمكن أن نعتمد عليه . الأولى البناء العقائدي الأيدولوجي ، وهو بإدراك وفهم كل أبعاد نظريته الثورية العربية وتحليل تطبيقاتها وممارساتها ومناقشتها والمشاركة الجادة في تطويرها بما يتناسب مع الواقع وتحدياته والإمكانيات الموجودة والمعوقات . الثانية البناء الأخلاقي ، فلا يمكن أن يكون الفرد الثوري العربي كاذبا أو منافقا أو فاسدا أو غيرها من الصغائر التي تدنس الفرد العادي فما بالنا بالفرد الذي أخذ على عاتقه بناء مستقبل الأمة ، فليكن السعي للمثالية والعمل بها هو الهاجس الذي يراود الفرد الثوري العربي في كل تصرفاته الخاصة والعامة . أما الأولوية الثالثة فهي البناء المهني ، فلا يمكن أن نقبل أبدا أن يكون التقدم الشخصي على المسار السياسي سببا في التراجع على المستوى المهني ، فلا يكون الفرد الثوري العربي عالة على غيره أو نموذجا مهنيا فاشلا أو متأخرا ، بل عليه دائما وأبدا أن يكون طالبا متفوقا وعاملا ماهرا وموظفا مثاليا ليكون نوذجا مشرفا يحتذى به بصورة تدعم مواقفه السياسية العامة . أما عن الأولوية الرابعة فهي البناء الحركي ، وهي تدريب وتأهيل الفرد الثوري العربي ليقوم بدوره في نطاق إمكانياته وقدراته دون تفريط ودون تكليف نفسه ما لا يطيق ، فيقوم بما يناسبه بعد تدريبه على كل ما يلزم العمل السياسي الثوري من عمل تثقيفي وعمل جماهيري وإعلامي وتنظيمي وإداري وغيرها ، ليكون الشخص المناسب في مكانه المناسب . وهنا نصل للنقطة الأخيرة في طريقنا ، بناء التنظيم الثوري . فما الذي كان يمنع قيام هذا التنظيم من قبل رغم تعدد المحاولات وضرورة وجوده لضمان مستقبلنا ؟! كانت الخشية أن يكون تنظيما نخبويا منفصلا عن الجماهير أو يكون تنظيما لفئة تدعم مصالحها تحت ادعاء الثورية ، أو عدم وجود إمكانية الحشد الجماهيري العام لتبني التنظيم الثوري العربي تنظيما ممثلا للثورة ، كما كانت الخشية من حدوث فراغ تنظيمي في حال حل الكيانات الثورية القطرية بانتظار تدشين التنظيم الثوري العربي . وأبدأ الرد على هذا من حيث انتهيت ، فلا فراغ تنظيمي ولا غيره قد يحدث حين تحل تلك الكيانات نفسها إذ وجودها كعدمه بالنسبة لقضية الثورة العربية بمفهومها الكلي ، فلا هي تمثل الثورة العربية ولا تمثل إلا نفسها ، فالثورة لن تخسر من حل تلك الكيانات شيئا ولن يحدث انفراط للعقد التنظيمي ولا تأخر للمجهود الحركي ، فالحقيقة الأكيدة أن التنظيمات القطرية لا تعرف الانتماء التنظيمي بسبب غياب الالتزام العقائدي والأخلاقي والحركي . أما فكرة الحشد الجماهيري لتبني التنظيم فهي عملية تلقائية ستحدث إن آمنت الجماهير بالتنظيم واقتنعت به وبإخلاصه وتيقنت من إمكانياته وقدراته . أما أن يكون التنظيم نخبويا أو فئويا فالواقع يدحض هذا التصور إذ لم يعد للنخب ولا للمجموعات الفئوية الفوقية مكان بين الجماهير فلا تسيطر عليها ولا توجهها فقد نضجت الجماهير بما فيه الكفاية ، كما تقاربت الكوادر في كل الأقطار العربية فكريا وإنسانيا عبر وسائل الاتصال والنقل بصورة لم تكن متاحة للأجيال التي سبقتنا . كان هذا مدخلنا لنؤكد إمكانية بناء التنظيم الثوري العربي ، فكيف يتم البناء ؟؟!! بناء التنظيم الثوري العربي الموحد لن يكون إلا بوحدة مكوناته فكريا وترابطهم إنسانيا ولإتمام ذلك الأمر كنا قد طرحنا من قبل ونجدد طرحنا لفكرة الأكاديمية التعليمية للعلوم السياسية تحت مسمى أكاديمية ناصر للعلوم السياسية لتدريب وتأهيل الكادر الثوري العربي ليقوم بما هو منوط به القيام به . وبعد التوحد فكريا وإنسانيا ستكون الدعوة تلقائية لجمع كل خريجي الكيان التعليمي في تنظيم سياسي واحد ينخرط فيه كل خريج تبعا لإمكانياته وقدراته وميوله واحتياج التنظيم له . الفكرة بسيطة جدا ، وهي لفرط بساطتها قد لا تجد من يؤمن بها إلا من يؤمن بمجد تلك الأمة وبإمكانيات أبنائها . كانت تلك رؤيتي للطريق من حيث كنا ومن حيث نقف إلى حيث ينبغي أن نتوجه ، قد يتفق مع البعض في ما رأيت أو في بعض مما رأيت وقد نختلف إلا أن إيماني ورجائي لن ينقطعا أبدا بأن هذه الأمة قادرة على أن تصنع مستقبلها كيفما يريد أبناؤها لا كما يريد أعداؤها .