في قرية صغيرة وادعة تدعى الحصص مركز شربين بمحافظة الدقهلية ، حيث كان صدى ضحكات الأطفال يختلط بأنين الحقول، وحيث تحلم الأمهات لأبنائهن بمستقبل يليق ببراءتهم، سقطت براءة أخرى ضحية الغضب… وسفكت زهرة من زهور العمر على قارعة الطريق. لم يكن "زياد" سوى فتى في الرابعة عشرة، يحمل حقيبته على ظهره ويمسك بقلمه كمن يحمل مفاتيح الغد. لم يكن يعلم أن القدر يخبئ له نهاية قاسية، لا تشبه أحلام الصغار الذين ينتظرون جرس المدرسة لينطلقوا إلى الحياة. لحظة غضب، كلمة خرجت بلا حساب، نظرة مستفزة، ثم يد مرتعشة أمسكت ب"مفك" لم يخلق ليقتل، فصار سلاحا ينهي حياة لم تبدأ بعد. وفي لحظة واحدة، انقلبت القرية رأسا على عقب. هرع الناس إلى المكان، والدهشة تسبق الخوف، والألسنة تلهج ب"يا ساتر يا رب". أما الأم، فقد هرولت نحو المستشفى، تتشبث بخيوط الأمل كمن يمسك بالماء بين أصابعه. لكن الجواب كان صمتا باردا، وجسدا ساكنا كأنه نام إلى الأبد. لم يكن الحادث مجرد مشاجرة عابرة بين تلميذين؛ كان طعنة في قلب مجتمع بدأ يفقد توازنه، حيث صار الغضب أسرع من التفكير، والسلاح أقرب من العفو، والموت ممكنا بين أيدي الصغار. كيف تحوّل "المفك" من أداة تصلح العطب إلى آلة تزرع الفقد؟ وكيف صار الكلام شرارة تشعل نارا لا تطفأ إلا بالدم؟ وقفت القرية على أطلال الحادث، يختلط الحزن بالدهشة، والناس يتهامسون عن زمن تبدلت فيه القيم، وعن طفولة تسرق من بين مقاعد الدراسة. لقد رحل زياد، لكن صدى اسمه باق، يهمس في ضمائرنا جميعا.. علموا أبناءكم أن الكلمة يمكن أن تجرح أكثر من السكين، وأن الغضب لحظة، لكن الندم عمر. لم تكن مأساة زياد حادثة عابرة تسجل في دفاتر الشرطة، بل جرس إنذار يدق في ضمائرنا جميعا. إنها دعوة قاسية، لكنها صادقة، لنلتفت إلى ما نزرعه في نفوس أبنائنا، وما نحمله إليهم من كلمات وسلوك ومشاعر. لقد غابت عن كثير من بيوتنا لغة الحوار، وحل محلها الصراخ أو الصمت البارد. وغابت عن مدارسنا مساحات الرحمة، فصار التلميذ يكافأ على تفوقه في الدرجات لا في الخلق. نحن من جعلنا الغضب سلاحا، والاختلاف حربا، والضعف عارا. إن ما حدث في شربين ليس جريمة طفل في لحظة تهورٍ فحسب، بل مرآة تعكس غياب التربية العاطفية، وانطفاء دور المدرسة والبيت معا. علينا أن نعيد بناء الجسور بين القلوب الصغيرة قبل أن نزرع في عقولها المعارف، وأن نعلم أبناءنا كيف يواجهون الخلاف بالحوار، لا بالحدة، وكيف يربحون كرامتهم دون أن يخسروا إنسانيتهم. رحم الله زيادا، وجعل من قصته درسا لا ينسى، لعلنا نصحو قبل أن يزهق طفل آخر في لحظة جنون. فالأوطان لا تبنى بالحجارة وحدها، بل تبنى بقلوبٍ تعرف كيف تحب، وكيف تغفر، وكيف تمسك يد الحياة بدل أن تجرحها.