السيسى يصدر قانون الإجراءات الجنائية بعد معالجة أسباب الاعتراض    تحصين 2.2 مليون رأس ماشية ضد «القلاعية»    القاهرة والقليوبية تطلقان تجربة لإدارة المركبات المُهملة    رسمياً.. مجموعة ستاندرد بنك تفتتح مكتبها التمثيلي في مصر    فوز كبير ل «قائمة السودانى» فى انتخابات العراق    وزير خارجية أوكرانيا: نحن بحاجة إلى دعم شركائنا لوضع نهاية للحرب الروسية    الكرملين: الأسلحة النووية مفيدة للردع لكن الخطاب النووي خطير    بطولة العالم للكاراتيه تعود إلى أرض مصر بعد غياب 40 عامًا    منتخب مصر يواصل تدريباته استعدادا لمواجهة أوزبكستان وديا    موعد نهائى كأس السوبر المصرى لكرة اليد على قنوات أون سبورت    نجم منتخب فرنسا خارج مواجهة أوكرانيا    ديانج يدرس الاستمرار مع الأهلي رغم عرض سعودي مغري    مصرع شاب وإصابة آخر في تصادم دراجتين بخاريتين بالدقهلية    تفاصيل حفل افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي ال46    محافظ كفرالشيخ يتابع فعاليات المسابقة الفنية لمحات من الهند ببلطيم    مستشفى العجمي ينقذ شابا علقت يده في مفرمة لحوم    احذرى، فلتر المياه متعدد المراحل يُفقد الماء معادنه    منتخب مصر مواليد 2009 يختتم استعداداته لمواجهة الأردن    مركز أبحاث طب عين شمس يحتفل بمرور خمس سنوات علي إنشاءه (تفاصيل)    غرامة 500 ألف جنيه والسجن المشدد 15 عاما لتاجر مخدرات بقنا    بعثة الجامعة العربية لمتابعة انتخابات مجلس النواب تشيد بحسن تنظيم العملية الانتخابية    نائب المحافظ يتابع معدلات تطوير طريق السادات بمدينة أسوان    «المهدى بن بركة».. فى الذكرى الستين لاختفائه    محمد رمضان يقدم واجب العزاء فى إسماعيل الليثى.. صور    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    محافظ شمال سيناء يتفقد قسام مستشفى العريش العام    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    وزيرالتعليم: شراكات دولية جديدة مع إيطاليا وسنغافورة لإنشاء مدارس تكنولوجية متخصصة    الداخلية تكشف تفاصيل استهداف عناصر جنائية خطرة    صحفيو مهرجان القاهرة يرفعون صورة ماجد هلال قبل انطلاق حفل الافتتاح    طلاب كلية العلاج الطبيعي بجامعة كفر الشيخ في زيارة علمية وثقافية للمتحف المصري الكبير    سعر كرتونه البيض الأحمر والأبيض للمستهلك اليوم الأربعاء 12نوفمبر2025 فى المنيا    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    ضبط مصنع حلويات بدون ترخيص في بني سويف    ما عدد التأشيرات المخصصة لحج الجمعيات الأهلية هذا العام؟.. وزارة التضامن تجيب    أسماء جلال ترد بطريقتها الخاصة على شائعات ارتباطها بعمرو دياب    مكتب التمثيل التجاري يبحث مع المانع القابضة زيادة استثمارات المجموعة فى مصر    البابا تواضروس الثاني يستقبل سفيرة المجر    LIVE.. شاهد مباراة تونسX Tunisia موريتانيا Mauritania    محمد صبحي يطمئن جمهوره ومحبيه: «أنا بخير وأجري فحوصات للاطمئنان»    ذكرى رحيل الساحر الفنان محمود عبد العزيز فى كاريكاتير اليوم السابع    الرئيس السيسي يصدق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    نجم مانشستر يونايتد يقترب من الرحيل    حجز محاكمة متهمة بخلية الهرم لجسة 13 يناير للحكم    رئيس الوزراء يتفقد أحدث الابتكارات الصحية بمعرض التحول الرقمي    «المغرب بالإسكندرية 5:03».. جدول مواقيت الصلاة في مدن الجمهورية غدًا الخميس 13 نوفمبر 2025    عاجل- محمود عباس: زيارتي لفرنسا ترسخ الاعتراف بدولة فلسطين وتفتح آفاقًا جديدة لسلام عادل    الرقابة المالية تتيح لشركات التأمين الاستثمار في الذهب لأول مرة في مصر    «عندهم حسن نية دايما».. ما الأبراج الطيبة «نقية القلب»؟    عاجل- رئيس الوزراء يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين مصر ولاتفيا لتعزيز التعاون فى مجالات الرعاية الصحية    وزير دفاع إسرائيل يغلق محطة راديو عسكرية عمرها 75 عاما.. ومجلس الصحافة يهاجمه    «العمل»: التفتيش على 257 منشأة في القاهرة والجيزة خلال يوم    القليوبية تشن حملات تموينية وتضبط 131 مخالفة وسلع فاسدة    إطلاق قافلة زاد العزة ال71 بحمولة 8 آلاف طن مساعدات غذائية إلى غزة    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    رئيس هيئة الرقابة المالية يبحث مع الأكاديمية الوطنية للتدريب تطوير كفاءات القطاع غير المصرفي    18 نوفمبر موعد الحسم.. إعلان نتائج المرحلة الأولى لانتخابات النواب 2025 وخبير دستوري يوضح قواعد الفوز وحالات الإعادة    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



" ثقافاتٌ ورؤى " .. أ.د. أحلام الحسن ..رئيس القسم الثقافي.. " حينما تُنبتُ الذاكرة ُمخالبَها.. تُبيح بنسيان يكتُبُنا ..قراءة وجودية في قصيدة "مخالب النسيان" للشاعر "ناظم الصرخي" ..بقلم الناقدة الجزائرية "فاكية صباحي"
نشر في الزمان المصري يوم 18 - 10 - 2025


ستنسين المساءات التي أحيت حكايانا
وتنسين الذي كانا
ويغدو القلب بركانا
وترجمني سماواتي
بسجّيلٍ من العسْرِ
لأني من أضاع العمر في قبوٍ
من الحيرهْ
ودهليزٍ من الغيرهْ
وحوّط ريش طائره
بأطواقٍ من النارِ
وأرسى الحرف في أُفقِ الملاماتِ
دمي صوتي
وهذا طائر الغابهْ
يبادلُ ريشهُ الذهبي تحتَ رماد أوكارِ
يزوغُ بنظرةٍ حرّى لمن أسرى
يسابقُ صبْر سُنبُلةٍ بمضمارِ
ويُودِعُ عُتمَ أغنيةٍ بقيثارِ
يراهنُ عقربَ الزمنِ
بدهرٍ غير مؤتمنِ
نجومُ الصبح داميةً
شواظٌ أرَّقَ الأجفان
أدمى لذة الوسنِ
وأوتارٌ بدائيهْ
تسيّر ريحها عصفًا
لتعزف لحن أقداري
بحنجرةٍ هجائيهْ
هسيس الماء يرقبني
ويسألني
غصين البان من هذا ؟؟
ضفافي أصبحت أبْهى
وأشجاري به ولْهى
يعطّر غسْلُهُ داري
من الآلام خارطةٌ على وجهي
ودمعٌ غافلَ الأبواب والحارسْ
بصمتٍ فرّ من جدرانِ أجفاني
ليروي خديَ العاريْ
عصافيرٌ بلا مأوى
يناجي عرْيها الشجرهْ
وقد قُطِعت من الجذرِ
بفأسٍ قادهُ غصنٌ بعجرفةٍ
فأمسى خائنًا نكِرهْ
دعيْ لي حين تطويني المسافاتُ
ثماري من جنى القلقِ
ولوحات انتظاراتي
وأنغام ابتهالاتي
وقنديلًا يُشارِكنُي دُجى الأرقِ
وحزنًا رافقَ العمر
كظلٍ لم يشأ يرحلْ
ترامى ينشب الأظفار في حَدقَاتِ أسفاريْ
وعتّمَ بؤبؤ الشفقِ
دَعيْ لي مفردات العشق في تابوت أيامي
وحرفًا بات مصلوبًا على بابكْ
وأشعاريْ التي صلّتْ بمحرابكْ
فإني تهت في نفقيْ
وذرعًا ضقت من نَزَقيْ
دَعيْ لي بحرك المجنون
قد أنساكِ بالغَرَقِ
******
مقدمة:
تعتبر قصيدة "مخالب النسيان" صورة معمقة لتجربة وجودية في الذاكرة والغياب، وليست مجرّد خطاب وجداني عن الفراق.. لذا سوف تنطلق هذه القراءة من فرضية أنّ النسيان في النص ليس نقيضًا للتذكّر، بل كتابة ثانية يعيد فيها الشاعر تشكيل ذاته عبر البوح الشعري، ليُحوّل الوجع إلى أثرٍ جماليّ يرمم هشاشة الكائن البشري..
والملاحظ أننا من الوهلة الأولى نقف أمام ثنائية الذاكرة والنسيان التي سنحاور أبعادها الفلسفية كما بلورها كلّ من "برغسون.. نيتشة.. باشلار.. وهيدغر" لنكشف عن تداخل الوعي بالشعر، والرمز بالفكر، في بناء تجربة لغوية تتجاوز العاطفة نحو أفق وجودي أعمق..
وبذلك يصبح الخطاب الشعري مساحةً لترميم الذاكرة الجريحة، ومختبرًا لتوليد المعنى من رماد الغياب، حيث يُعيد الشاعر كتابة النسيان ليس بوصفه موتًا للذكرى، بل بوصفه خلاصًا شعريًّا يهب الحياة شكلًا جديدًا..
******
تطرح هذه اللوحة الشعرية النازفة التي بين أيدينا قضية نفسية قد تكون نتاج تجربة شخصية للشاعر أو هي معالجة لقضية ما.. ربما هزت مشاعره حتى يختزلها في هذه الأبيات.
وأول ما يلفت نظر المتلقي العتبة النصية المتمثلة في العنوان.. هذه العتبة التي لا أظن أن القارئ الحصيف قد يتجاوزها بسهولة حتى ينتقل إلى ما يليها؛ لأن الجراح التي تتفتق في صدور الآخرين أكيد ستنزف بقلوب الشعراء ليتقمصوا مشاعر أولئك الموجوعين ويخلدوها في كتاباتهم..
فالعنوان ينطوي على تناقض دلالي مقصود: لأن المخلب يحيل إلى الافتراس، بينما النسيان يحيل إلى الإمّحاء، ومن هنا نقف على السؤال الجوهري من المفترَس..؟ ومن المفترِس في القصيدة؟
فالنسيان ليس راحة بل عذاب، وليس انطفاءً بل اشتعالا آخر.. وبذلك نجد أن الشاعر يتحدث من قلب الجرح لا من خارجه، وهذا المشهد يُذكرُنا بمفهوم نيتشة عن "الذاكرة الجسدية" التي لا تمّحي، كما يذكرنا بألم برغسون الذي يرى أن الذاكرة ليست ما نحمله، وإنما ما يحمله فينا الزمن ذاته.
فالشاعر يريد أن ينسى.. لكن للأسف الشديد ذلك النسيان تجسد ماديا ليتحول من المحسوس إلى الملموس، بعدما صارت له مخالب نشبها بجسده ليبقى على قيد اللهفة والحنين وهو يراوح مكانه ..
وهكذا ندرك بأن عتبة النص ليست مجرد إشارة مرورية لصدر القصيدة، أو كوة ينفذ منها القارئ إلى المتن.. ثم يتجاوزها مباشرة.. بل هي لافتة تنبيهية يستطيع المتلقي من خلالها أن يبني، ويؤثث المشاهد التي قد تستقيم في ذهنه مسبقا.. قبل أن يسردها الشاعر متكئا على ما تعجّ به بحار عتابه الصاخبة بين الحنايا، بقوله مخاطبا تلك الشخصية الأنثوية التي لم يحدد ملامحها سلفا قائلا:
ستنسين المساءات التي أحيت حكايانا
وتنسين الذي كان
ليغدو القلب بركانا
سوف تنسين الأماسي التي أحيت حكاياتنا معا، وتنسين كل شيء كان بيننا
ليتحول القلب من مستودع الحكايات، ومُعطر المجالس بأفراحه إلى بركان..
فكيف يتحول القلب الرقيق إلى بركان ؟
إنه الوجع عندما يحاصر صاحبه ليُحيل كل شيء صوب عينيه إلى سواد مطبق، ويجعله يرى السماء برحابتها راجمة بحجارة العسر المتصلبة، ذلك العسر الذي ألبسته إياه ثوبا لحظاتُ الندم والحسرة، تلك اللحظات التي تجلّت مستقيمة تهش عنه غمائم النسيان، وبالتالي فهو يؤكد بكلمة تنسين بأنه لم ينس.. ولن ينسى..
وهذا ديدن الشعراء الذين تثقلهم الذكريات بحلوها ومرها لتبقى مستقيمة أمام ناظريهم.. غائرة كسهم رائش بين الضلوع.. متوهّجة كنار لا تريد أن تخبو..
وترجمني سماواتي
بسجيل من العسر
هنا تتحوّل الذاكرة إلى قوة كونية تعاقب الشاعر، وكأنّ استحضار الماضي هو الخطيئة الأولى.. فالنسيان لا يهب السلام، بل يجرّ الوعي إلى معركة مع ذاته.. إنّها أنثروبولوجيا الألم.. حيث يصبح الإنسان كائنًا يعيش فقط لأنّه يتذكّر، ويُعذّب لأنّه لا يستطيع أن ينسى..
لأني من أضاع العمر في قبو
من الحيرة
ودهليز من الغيرة
وحوّط ريش طائره بأطواق من النار
وأرسى الحرف في أفق الملامات
بعدما ينهي الشاعر عتابه يعود إلى نفسه حتى يوسعها جلدا.. ليخبر المتلقي صراحة بأنه قد أضاع عمره سدًى داخل قبو من الحيرة، تلك الحيرة التي سببتها الغيرة.. هذه الأخيرة التي كانت بدورها سببا رئيسا في تمرّد تلك الأنثى التي شبهها تشبيها صريحا بالطائر، وشبه نفسه ضمنيا بالقناص الذي أحاط ريشها بالنار إلى أن أحرقه.. وجعلها تنفلت من بين يديه حلما ظل يؤرقه، ويؤجج نيران الندم بين أضالعه، بعدما أغلق بيده أبواب الكلام.. ليسود ذلك الصمت المطبق بين الأليفين بمجرد أن صار الحرف لا يعرف غير آفاق اللوم والعتاب ..
وهذا دلالة على تصاعد الحوار الذي تمخّض عنه ذلك الجفاء.. ثم البعاد أي إن ذلك الحرف الشفيف الذي كان رسول الوصال بينهما، وكان الأداة التي جمعتهما تحت أفانين السعادة والحبور؛ قد تحول إلى عتاب متواصل جعلهما معا يفضلان الصمت على حوار متصاعد لا فائدة ترجى منه..
وفي هذا المقطع تحديدا تتجلى رؤى باشلار عن "شعرية الفضاء الداخلي" حيث كلمة، القبو، وكلمة دهليز ترمزان لرحلة الذات نحو داخلها.. فكل استعارة في القصيدة هي مكان للروح وكل مكان هو استعارة لزمن مفقود.. وبهذا المعنى فإن "مخالب النسيان" ليست مجرد قصيدة عن الفراق بل تجربة جمالية في الوجود نفسه تجعل من الكلمة أثرا وجوديا يكمل ما عجز الواقع عن قوله..
وكما نلاحظ فالشاعر يتموضع في النص كما لو كان كائنا يطارد ظله، لا يتكلم إلى الآخر بقدر ما يحاور ذاته المنكسرة بين التذكر والنسيان، فدهليز الحيرة.. وقبو الغيرة ليسا فضاءين نفسيين فحسب، بل رمزان لمتاهة الوعي المعاصر حيث تتكاثر الصور وتتناقض الأصوات داخل الذات حتى تفقد يقينها بذاتها..
ثم يعود الشاعر إلى التحدث عن حاله.. وما آل إليه بعدما تمزقت حبال الوصل ومضى كل واحد منهما إلى سبيله قائلا في لوحته الثانية:
دمي صوتي
وهذا طائر الغابة
يبادل ريشه الذهبي تحت رماد أوكار
يزوغ بنظرة حرّى لمن أسرى
إنه يصف ذاك الحطام المتمثل في دمه وصوته اللذين تفاعل معهما طائر الغابة، وهو يبادل ريشه الذهبي تحت ما تبقى من رماد تلك الأوكار، متفاعلا مع نجوى الشاعر وشكواه.. أي إن الطائر هنا وقف هو الآخر وراح ينبش ذلك الرماد بحثا عن تلك التي كانت هنا ذات وصال.. مما جعل ريشه الذهبي يكتسب لون السواد حزنا.. وأسًى..
ومن هنا ندرك أن تلك الأوكار كانت توقد نارا معينة قد تكون نار القرى.. أو قد تكون نار السعادة التي خمدت.. وصارت رمادا تأثر له طائر الغابة وهو يطارد بنظراته الحرّى ذلك الذي أسرى ليلا مقتفيا آثارا لا وجود لها..
أي إن الشاعر هنا يصور لنا حالة من التجاوب الوجداني بينه وبين الطائر.. تلك الحالة التي كان متأكدا سلفا من تجاوب المتلقي لها، وتفاعله معها ليعيشها معه بأحاسيسه ومشاعره وهو يتتبع أبياته المتوهجة بيتا.. بيتا..
يسابق صبر سنبلة بمضمار
ويودع عتم أغنية بقيثار
يراهن عقرب الزمن
بدهر غير مؤتمن
نجوم الصبح دامية
شواظ أرق الأجفان
أدمى لذة الوسن
وأوتار بدائية
تسير ريحها عصفا
لتعزف لحن أقداري
بحنجرة هجائية
وها هو يسهب متحدثا عن حالته التي تأثر لها الطائر قائلا:
إنه يسابق صبر سنبلة ظلت مستقيمة تترقب السقي مثله أي إنه يستجدي منها صبرا يراه مستحيلا.. ومما لا شك فيه أن تلك السنبلة كانت موضع اهتمام أليفته الراحلة فربما كانت تساقيها وتراعيها كما كانت ترعى قلب الشاعر..
ويودع عتم أغنية بقيثار
نلاحظ في هذا السطر الشعري أن القيثار ينوبه من الوجع جانبٌ، ليضع الشاعر بين أوتاره أغنية معتمة.. يظل يرددها في خلوته مراهنا عقرب الزمن الذي أسرع الدوران، وجعله ينتظره متأملا.. لعله يعود به إلى الوراء.. إلى لحظة الصفاء التي انسفحتْ من بين أصابعه..
ولكن على ماذا سيراهن وهو يدرك سلفا بأن الزمن صار غير مؤتمن..؟؟
وقد تغيرت ملامح نجوم الصبح من لونها المتلألئ المنير؛ إلى لون الدماء بعدما صارت ترميه بحممها التي أرّقت جفونه، وهي كناية على السهد الذي تمكن منه، وأثقل كاهله، وعبث بلذة الوسن التي صارت بعيدة المنال..
فكيف له أن يستسيغ الحياة وهو يرى الصبح بتلك البشاعة.. وقد تحول أمام ناظريه إلى أوتار بدائية..
وأوتار بدائية
تسير ريحها عصفا
لتعزف لحن أقداري بحنجرة هجائية
ودون شك لن يغفل خيال المتلقي عن صوت الوتر البدائي الذي كان يُصدر ألحانا تمجّها الأسماع لعدم انسيابيتها بسلاسة ..
وبالتالي فإن الشاعر يواصل وصفه لحالته المزرية التي صارت أسواطها تجلده.. وهو يؤثّثُ ملامح قصيدته مشهدا.. فآخر..
فها هو وجه الصبح الذي من المفروض أن يكون متبسما.. ضحوكا قد تحول إلى شواظ من الجمر من جهة، ومن جهة أخرى تبدّى أمام ناظريه على شكل أوتار بدائية تنفخ ريحها العاصفة لتعزف لحن أقداره بحنجرة هجائية ..
وهي قمة تصاعد مشهد الوجع الذي جسّده وشخّصه على شكل وتر مزعج يعزف لحن أقداره وتصاحبه حنجرة الهجاء ..
وكلنا نعرف ماهية صوت الهجاء الذي يكون متعاليا دائما.. متبجّحا غير مراعٍ لمشاعر الآخرين
هسيس الماء يرقبني..
ويسألني
غصين البان من هذا
ضفافي أصبحت أبهى
وأشجاري به ولهى
يعطر غسله داري
يعود الشاعر إلى الطبيعة يحدثها.. يخاطبها.. يناجيها.. يأخذ منها ويعطيها؛ وهو يقلب صفحات الماضي عندما كانت أليفته تلك في بدايات حياتها كغصين البان.. ليسأله خرير الماء هامسا، عندما كان دفوقا بين يديه يسقي به غصنه الذي جمّل ضفافه؛ لتصير أبهى عندما كانت أشجاره تشهق توَلُّهًا به ..
وربما تكون ( تلك الأشجار) قد ناصبته العداء( أي أضمرت حقدا لغصين البان) وهي ترى الشاعر يهتم به أكثر؛ بعدما صار يراه عطر الدار التي لم تكن خاوية بل كانت ملأى بغيره.. غير أنه وحده من أخذ بتلابيب الشاعر، وملك عليه نفسه.. وبعدما كبر واشتد عودا امتطى صهوة الهجر وترك كل شيء يترقبه منتظرا.. بما في ذلك صوت الماء الذي ظل يتساءل عنه.. سؤالا لا يقل عما يضجّ به صدر الشاعر..
من الآلام خارطة على وجهي
ودمع غافل الأبواب والحارس
بصمت فر من جدران أجفاني
ومن الآلام خارطة على وجهي ودمع غافل البواب والحارس
يعود الشاعر إلى الحالة الذاتية التي آل إليها بعد الهجر الذي كان يصر على نسيانه.. وعبثا كان يحاول.. وفي السطرين الشعريين الآتيين – من الآلام خارطة على وجهي، ودمع غافل الأبواب والحارس- تتكشف سيميولوجيا الألم.. فالوجه هنا ذاكرة تُكتب عليها الجراح، والدمع خطاب بلا لغة، فكل ما تبقى من الإنسان هو أثر.. وشكل من أشكال التذكر المستحيل.. ومن هنا ندرك أنه في باطن كل شخص لوحة مشرقة يحاول أن يمرر عليها ريشته عله يسقطها بوهاد الذاكرة لتجرفها جداول النسيان، غير أن الأمر في هذا النص مختلف تماما.. لأن طلب النسيان هنا ما هو إلا دعوة ضمنية للتذكر.
يرافقها دمع مدرار قد غافل كل الأبواب..
فالشاعر يخبرنا ضمنيا بأنه كان يوصد على نفسه كل الأبواب ظنا منه بأنه قد نأى عن قيود الحزن والأسى، غير أن الدمع قد انتهك حرمة أسواره المنيعة -التي ظل يُشيّدها مكابرا لينفلت مدرارا من بين جدران الجفون التي كان يزمّها في صمت..
ويواصل حديثه إفصاحا لا ترميزا.. وما حاجته للرمز في مقام كهذا الذي تصطلي فيه الروح على جمر الفراق:
ليروي خدّيَ العاري
عصافير بلا مأوى
يناجي عريها الشجرة
وقد قطعت من الجذر
بفأس قادها غصن بعجرفة
فأمسى خائنا نكرة
فها هو يذكر أشجانه متحدثا عن ذلك الدمع الذي ظل ينهمر كغيث مطير يروي خدا عاريا كان يرقب عصافير وحيدة ظلت بلا مأوى.. بعدما رحلت تلك الأليفة التي كانت موضوع الشكوى والعتاب، فربما قد تكون امرأة تركت خلفها صغارا يحنّون إلى كنفها وهم عراة، وقد شبههم بالعصافير الصغيرة حينما تفقد شجرةً كانت هي المأوى بين الحر.. والقر، وقد اجتُثت من الجذور بفأس قادها غصن متعجرف..
و"العصافير بلا مأوى" تمثّل البراءة الضائعة أو الأحلام المنفية، والصورة هنا شديدة القسوة لأن تلك الفأس التي قطعت الشجرة قادها غصنٌ من صلبها (من صلب الشجرة ) فهذه صورة لخيانة عظمى كانت متربصة بتلك الشخصية الأنثوية التي شبهها الشاعر بالشجرة..
غير أن ذلك الغصن الذي قاد الفأس، وقطع الشجرة لم ينل الحظوة التي ربما كان ينتظرها بعد فعلته تلك.. بل صار نكرة موسوما بالخيانة التي دون شك لن تفارقه حتى الأبد..
وبالتالي فنحن هنا أما صورة للكشف كنوع من التطهير الداخلي أو "الكاثارسيس"، حيث تتحوّل الكتابة إلى عملية تفريغ وجداني مؤلم..
ثم يعود الشاعر إلى مخاطبة تلك الأنثى في المقطعين الأخيرين بعدما تيقن من هجرها.. وبعدها:
دعي لي حين تطويني المسافات
ثماري من جنى القلق
فالقلق هنا ليس اضطرابًا.. بل وعيًا عميقًا بزمن لا يُمسك به، فالحاضر نفسه يتسرّب من بين الأصابع، كما لو أنّ الوجود يعيش تأجيلا دائما..
فهذه الفكرة تستحضر أطروحات هيدغر عن "الوجود نحو الفناء"، حيث يكون الإنسان كائنًا يتوجّه إلى الغياب منذ ولادته، أما في البعد الشعري فالحضور يتماهى مع الغياب حتى يصيرا وجهين للحنين ذاته..
والملاحظ أن الشاعر قد أحسن استثمار العناصر الجمالية متكئا على ما يقضّ مضجعه ويؤرق جفونه؛ مؤكدا بأن المسافات سوف تطويه بعد ذلك الهجر ليختار الترحال مستجديا ذلك النسيان الذي أكد في العنوان بأنه يعيش بين مخالبه.. وها هو يخاطبها قائلا:
عندما تطويني مسافات الترحال دعي لي ما تدلى بين أغصان قلقي من ثمار، فهو يُشبّه القلق ضمنيا بالأغصان التي سوف تتدلى منها ثمارٌ أكيد سوف تكون أشد وطأً من القلق ..
ولوحات انتظاراتي
وأنغام ابتهالاتي
يرى"Marcel prous " بأن الأسلوب بالنسبة للكاتب تماما كاللون بالنسبة للرسام وأنه مسألة رؤية أي خيال..
وبالتالي فالأسلوب هنا عند الشاعر ناظم الصرخي يعتمد على التشكيل، حتى إن المتلقي يشعر وكأنه يرى صورا مرسومة تتسلسل تباعا لتكمل الواحدةُ منها الأخرى.. فها هو يجتر لوحات انتظاره تلك التي اختزلت مشاهد عدة لا تريد أن تفارق خياله.. ليستحضرها وهو يقف على ربوة الوداع الأخير، طالبا من تلك المرأة أن تترك له لوحاته كأنيس لقابل أيام الوحدة تصحبها أنغام ابتهالاته عندما كان يبتهل إليه تعالى داعيا إياه ألا يطيل ذلك الفراق..
قنديلا يشاركني دجى الأرق
وحزنا رافق العمر
كظل لم يشأ يرحل
ترامى ينشب الأظفار في حدقات أسفاري
وعتم بؤبؤ الشفق
مازال الشاعر يسرد عليها طلباته الأخيرة المتمثلة في رجاء لا يزال ينتظر من ورائه أملا رآه ضئلا وهو يقول:
لا تطفئي كل قناديلي.. بل دعي لي قنديلا واحدا يحمل معي أثقال دجاي.. ويشركني كأس التسهد …
دعي لي حزنا رافق العمر.. وهو تصريحٌ منه بأن عمره كله قد انقضى بين فكي الأشجان لتبقى (تلك الأشجان) كظل يلازمه ولا يرضى عنه بديلا.. متراميا بين خطاه.. ناشبا أظفاره في حدقات أسفاره.. تلك الأسفار التي اختارها راضيا حتى ينسى ..
ولكنه للأسف الشديد لم يستطع.. لأن الذكرى هنا حاضرة ٌ بين كل خطوة وأخرى.. وهو يستجدي أليفته طالبا منها ألا تقطع آخر خيط من خيوط الأمل ..
وهنا نقف على جمالية الصور البلاغية المتمثلة في تجسيد الظل الذي جعل له أظفارا.. إضافة إلى الانزياح الدلالي لكلمة الحدقات، التي استعملها الشاعر في غير موضعها مشخصا الأسفار بعدما رسمها على هيأة شخص له حدقات..
كما استعار كلمة بؤبؤ من العين لينسبها إلى الشفق في سبيل الاستعارة المكنية..
دعي لي مفردات العشق في تابوت أيامي
ويختم الشاعر مقطعه الأخير بما ظل يرجوه منها.. وهو يخبرها به ضمنيا.. فأحواله في غيابها صارت أكبر من أن تصورها لغته الشفيفة، ليبدأ سرد ما آل إليه وكأنه تيقن من عدم عودة أيام الوصال.. واستصعب النسيان متأكدا من كونه سوف يظل على أطلالها واقفا منتظرا، محدثا طيفها الذي يأبى فراقه مستكملا نجواه:
دعي لي مفردات العشق.. تلك المفردات التي كانت تسمعه إياها.. وهو يطلب منها أن تتركها له في تابوت أيامه ..
وبذلك فهو يخبرها ضمنيا بأنه قد صار جسدا بلا روح، وهو يرى نفسه قد انتهى لتتحول أيامه من دونها إلى تابوت، وهي كناية على ضيق العيش بعدها.
وحرفا بات مصلوبا على بابك
ورغم القطيعة.. ورغم قسوة تلك الأليفة إلا أنه لا يزال مصرا على عدم التجرد من تلك الحروف التي كان يبعث بها إليها، وكانت تصدها لتبقى مصلوبة على بابها..
وها هو يرفض أن يتخلى عنها.. لتبقى رفيقة دربه وفاءً..
وأشعاري التي صلت في محرابك
ويعود من جديد ليصرّح بتلك الأشعار التي وقعها إليها وحدها.. وما زال يصر على الاحتفاظ بها.. ويطلب منها ألا تحرمه إياها لأنه ما زال يحن إلى أيام خلت،
وبقي أريجها يعطر حاضره المفرغ من تفاصيل أليفته..
فحين يقول: "وأشعاري التي صلت بمحرابك" فهو يضع الشعر موضع الطقس فيتحول النص إلى نوع من أنواع العبادة الجمالية التي تطهّر الذاكرة بالقول..
فإني تهت في نفقي
وذرعا ضقت من نزقي
دعي لي بحرك المجنون
قد أنساك بالغرق
حين يقول الشاعر "قد أنساكِ بالغرق" فهو لا يعلن نسيانًا، بل اعترافًا بأنّ النسيان نفسه شكلٌ آخر من التعلق، غرقٌ في المعنى بعد انطفاء الحضور، وما هذا البوح سوى فعل مركزي يربط الذات بالزمن.. فالشاعر يُسائل اللغة كما يُسائل ذاته.. وبالتالي فالكتابة هنا ليست وسيلةً للتعبير، بل أداة للنجاة، ومحاولة لخلق نظام جديد في وجه الفوضى الداخلية.
وتأتي النهاية صادمة نوعا ما باعتراف الشاعر بأنه تاه في نفقه.. فأي نفق هذا الذي قيده أخيرا..؟؟
وهذا دليل قاطع على قمة توتر الأحاسيس.. مع شدة القلق وهو يصرح بنزقه الذي ضاق به ذرعا؛ بعدما اتبع مشاعرَ ربما قد تكون كاذبة أو هي من جهته فحسب..
وبالتالي فهو يطلب منها أن تترك له بحرها المجنون.. مصرحا بجنونها الذي يتمنى أن يغرق بين أمواجه لعله يصحو يوما ويجد نفسه قد شفي منها بالنسيان.
******
مجمل القول
نلاحظ أن لغة القصيدة جاءت منضدة بأحاسيس وجدانية، معتمدة على اللفظ المباشر ذي الدلالة الصادقة؛ من حيث المشاعر والأحاسيس التي تبوح بمكنون صاحبها، وتعبّر عما يختلج بين حناياه ليُخرج تلك الآهات الكامنة بصدره، وهو متيقن بأن المتلقي سوف يحملها معه أو يعيش تفاصيلها حرفا.. حرفا.. ونزفا نزفا..
ولقد اتكأت القصيدة على بعض الانزياحات الدلالية، والصور البلاغية المتناثرة بطريقة هادئة بين الأبيات التي هذّبها الشاعر ببحر الوافر وقد تأسست على إيقاع متوتر يتنقل بين التفعيلة والتقطيع الداخلي للعبارة المكررة كقوله: "دعي لي"..
وكانت الصور تتسلسل طيعة غير مصطنعة وكأنها زبدة لمخيض الوجع الذي شكلها على مقاس معين ليستسيغها القارئ، وهو يتتبع أبياتها بهدوء كأنه ينتظر مع الشاعر بصيصا من النور، وبدءا من البيت الأول تستوقفنا الموسيقى بتأثيرها الفعال في بلورة الحس الجمالي لهذا النص معتمدة على تلك الأصوات اللغوية المتناغمة لتُخرج ما اكتنف الحالة الشعورية المكتنزة على وتيرة واحدة لم ينطفئ أوارها من أول حرف إلى آخر كلمة..
وهذا بطبيعة الحال لا يكون إلا بالإيقاع الداخلي والخارجي الذي تؤسسه الحروف والكلمات وتشيده الدلالات والإيحاءات، وعندما نقف على حرف نهاية النص ندرك أن الشاعر لم ينس أليفته.. ولن ينسى ولكنه استعاد ذاته من خلال فعل النسيان، لأنه لا يبكي على زمن مضى، ولا هو بصدد تحضير نشيد وداع يُقال بعد انطفاء الحنين، بل هو في صدد مواجهة صامتة مع كائن غامض اسمه النسيان، ومن هنا ندرك أن القصيدة ليست تجربة شعورية فحسب بل رحلة وجودية تتقاطع فيها اللغة مع الفقد، ويتحول فيها الحنين إلى سؤال فلسفي عن معنى البقاء.. عن جدوى التذكر.. وعن المصير الذي تؤول إليه الذاكرة حين تصاب بالاحتراق.
******
خاتمة:
لقد كانت الأبيات غنية بالتوتر الوجداني والرمزي تنهض على ثنائية ضدية تتمثل في الذاكرة والنسيان، الوجد والغياب، وتمزج بين لغة صوفية مأزومة، وخيال رمزي يتوسل عناصر الطبيعة لتصوير التجربة الداخلية.. فالمخالب التي كانت تنهش ذاكرة الشاعر أصبحت أداة للكتابة في النهاية حيث انتقلت القصيدة من مأساة العاطفة إلى ميتافيزيقا المعنى، والنسيان هنا لم يعد خصما للذاكرة بل شرطا لدوامها، لأن الذاكرة من دون نسيان تتحول على عذاب أبدي..
إن ما كتبه الشاعر"ناظم الصرخي" في النهاية ليس مرثية، بل خلاصا شعريا من عبء الذاكرة، ونوعا من الفداء الجمالي الذي يجعل النسيان طريقا إلى التجدد.. لأن القصيدة في جوهرها دعوة لترك الماضي حتى ينسى نفسه فينا.. كي نستطيع حمل القلم من جديد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.