في ذلك الصباح الذي تلا القرار، لم تطلق صفارات الإنذار، ولم تلمع السماء بوهجِ القذائف. كانت المدينة ساكنةً كأنها تلتقط أنفاسها الأولى بعد غيبوبةٍ طويلة. غزة، المدينةُ التي تُشبه جرحا مفتوحا في خاصرة البحر، اغمضت عينيها قليلًا لتسمع صدى الحياة، بعد أن طغى لوقت طويل صوت الحديد على أصوات البشر. وقف إطلاق النار… كلمات تبدو بسيطة في بيانات السياسة، لكنها في شوارع غزة معجزة. في حي الشجاعية، جلس أبو خالد أمام بقايا بيته، يضع حجارة فوق أخرى كمن يعيد ترتيب الذاكرة. قال وهو ينفث دخان سيجارته ببطء: "مش مهم البيت… المهم الولاد بخير. الباقي بيتعمر." كانت كلماته تشبه اعترافًا بالهزيمة والنصر في آن واحد. النصر هنا هو أن تظل حيا، أن تبقى قادرا على قول "الباقي بيتعمر". في المستشفى المقابل، كانت أمٌّ... في المستشفى المقابل، كانت أمٌّ تُمسك بيد طفلها الذي فقد إحدى ساقيه..لم تبكِ. كانت تنظر إليه بعينٍ تفيض بالحنان والصلابة، كأنها تعلمه أول دروس البقاء: "رح تِمشي، يا يما، رح تمشي تاني، حتى لو على ضوء الحلم." في تلك اللحظة، لم يكن وقف إطلاق النار مجرد اتفاقٍ بين طرفين متحاربين، بل كان مساحةً صغيرة من الكرامة، تتنفس فيها الأمهات، وتستعيد فيها الإنسانية وجهها الذي غطّاه الغبار. في سوق مخيم النصيرات، عاد الباعة ببطء، ينفضون الرماد عن أكوام الخضار اليابسة. طفل يحمل سلةً من النعناع الأخضر ويصيح بصوتٍ مرتجف: "ريحوا قلوبكم… ريحة النعناع رجعت!" ضحك الناس، وكانت تلك الضحكة أولى مظاهر الهدنة، لا تُشبه أي شيء سوى عودة الروح إلى جسد مُنهك. لكن الهدوء في غزة ليس مثل الهدوء في المدن الأخرى.هو هدوء حذر، كأنك تمشي على أرضٍ من زجاجٍ مكسور.الكل يخاف أن تنكسر الهدنة مثل حلمٍ لم يكتمل.حتى البحر، ذاك الذي طالما حمل أحلام الغزيين، بدا مترددا في مده وجزره، كأنه ينتظر أن يتأكد من أن الحرب نامت حقًا. في المساء، صعدت أصوات الأذان من المآذن المهدمة، واختلطت برائحة الغبار والمطر الخفيف.كان المشهد مزيجا من الخراب والرجاء.عجوزٌ تسند ظهرها إلى جدار نصف قائم، ترفع يديها إلى السماء وتقول: "يا رب، خلّي هالليل يعدّي بلا نار." دعاؤها لم يكن سياسيا ولا شعاراتيا؛ كان نداء من قلبٍ ذاق كلّ أشكال الفقد. كان صوتها أشبه بتراتيل الأرض حين تستجدي السلام. ما بعد القرار الناس يعرفون أن وقف إطلاق النار ليس نهاية الحرب. هو فقط استراحةٌ بين جولات الألم، لكنه أيضا مساحةٌ لزراعة بذورٍ صغيرة من الأمل.في المدارس، يحاول المعلمون جمع الأطفال تحت السقف المتصدع ليكملوا الدروس من جديد، وفي الورش الصغيرة، يعيد الحدادون طرق الحديد ليصنعوا أبوابا جديدة لبيوت بلا جدران. المدينة تتنفس، نعم، لكنها تتنفس من رئةٍ واحدة.ورغم ذلك، لا أحد يفقد الأمل نهائيا، لأن في غزة، الأمل ليس ترفًا، بل فريضة حياة. فى النهاية بقى أن نقول ؛ وقف إطلاق النار ليس مجرد اتفاقٍ سياسي، بل لحظة إنسانية كبرى، تعيد تعريف معنى الوجود وسط الدمار.إنه تذكير بأن الشعوب، مهما نزفت، لا تموت، وأنّ في كل طفلٍ يبتسم رغم الركام، إعلانًا صغيرا بانتصار الحياة. غزة لا تطلب الكثير .. فقط هدوءا يسمح للحياة أن تستعيد نغمتها القديمة.وفي كل مرة يعلن فيها وقف إطلاق النار، يولد في هذه الأرض وعد جديد: