أنيسة عبود ثمة أشياء كثيرة لا نقدر أن نسيطر عليها أو نمسك بها إلى الأبد. مثل أسمائنا.. هوياتنا المكان الزمن أشواقنا الوجوه التى تحتل الذاكرة. الشكل الذى يلبسنا لون بشرتنا والهويات التى نحملها لتدل علينا. هناك من يختار لنا كل شىء، ونحن ننصاع لنبدو مهذبين مثل زميلى كامل الذى هجر حبيبته وتزوج فتاة اختارتها أمه، فبكى يوم عرسه بينما كانت حبيبته تختبئ تحت شجرة المانجو تبكى وتراقب العرس وتعدد الأطباق التى يوزعونها للمعازيم الذين أكلوا بشراهة لحم الثور الذى ذبحوه للعروس ثم فروا هاربين قبل أن يقدموا هداياهم للعرسين. عندئذ نامت القرية واستيقظت على همس خطير: «مريم مجنونة». تنهد وتابع محاورا أفكاره: أما حين نتمرد فإننا نصبح من العاقين المطرودين من رحمة قهوة الأمهات وخبز الآباء وعمامة الأجداد. ضحك ياسر وهو يستمع إلى نفسه بإعجاب قال وهو ينظر إلى الفضاء الخارجى عبر النافذة: كم أنت عظيم يا ياسر ما شاء الله. ثم رشف قليلا من قهوته وهو يتحدث إلى النافذة التى بدأ الغبش يتراكم على زجاجها نتيجة بخار الغضب الذى يخرج من فمه. كتب على دفتره الصغير الذى لا يفارقه: ثمة أشياء تأخذك بعيدا وتعيدك فى اللحظة الحرجة، بعد أن تكسرك أو ترميك فى قلب المعمعة ثم وقّع بأحرف غامضة تحت العبارة التى كتبها أعاد قراءتها مرات، ثم حذف ما كتبه. كان القلم ينزُّ حبرا أسود تساءل: لماذا لا أعرف أن أكتب إلا بالقلم الحبر؟ ابتسمت حبيبته وهى تشد الدفتر الصغير من يديه لترى ماذا كتب. أصر أن يبقى دفتره سرا من أسراره، لا يطلع عليه أحد. اتهمته بأنه يكتب لغيرها. سرح بعيدا بخياله، ثم ضحك بصوت عالٍ وهو يجلس وحيدا فى المقهى البحرى شعر وكأن الكرة الأرضية خلت من البشر التفت إليه النادل مندهشا فاضطر لأن يشرح له بأنه يتحدث إلى حبيبته ليلى، ثم يغمز بعينيه ويهمس: النساء شكاكات، يعتقدن أن الحب لعبة أو تسلية. وأن الرجل قادر على إعطاء قلبه كل يوم لامرأة جديدة مجنونات. «هيك الله خلقهن بنصف عقل». ابتسم النادل ومضى حاملا كؤوسه الفارغة التى تصدر رنينا خافتا بينما هو راح يكتب: الحب يعنى كما يقول المتصوفة: لا تحب حتى تنادى الحبيب يا أنا. أدار رأسه كأنه خائف من النوافذ التى حوله ثم راح يراقب هاتفه «معقول؟». تتلاطم فى أعماقه أمواج الذكريات الزمن قش يتفتت بين يديه. يكاد ينادى: "ليلى" لكن ليلى فى مكان آخر. اغرورقت عيناه بالدمع. همس بعد أن ملأ قلمه بالحبر. باعتنى ليلى.. بكل هذا الوضوح كتب تبقعت أصابعه بالحبر. رفاقه يعيبون عليه بأنه ما زال يكتب بالحبر. قالوا عنه بأنه رجل تقليدى. قطب حاجبيه وزم شفتيه «فليكن المهم أن يكون معى قلم وورق». طقس الكتابة بالنسبة إليه يستدعى أن يأتى بالمحبرة ويفتحها بهدوء حتى لا ينسكب الحبر على الطاولة يملأ القلم الباركر. اشتراه ذات يوم صيفى من شارع المكتبات فى دمشق الذى ينتهى عند المتحف الوطنى. يشعر بالشوق إلى دمشق إلى ساحاتها وحدائقها إلى نهر بردى وجبل قاسيون الذى له رائحة ليلى ومواعيدها، وعرانيس الذرة المشوية، والصبارة الباردة التى تزين العربات الصغيرة المنتشرة ليلا على أطراف قاسيون. هناك كان ينتظر ليلى وهو يراقب – من علٍ - حى المالكى والمهاجرين والشيخ محيى الدين وأبو رمانة. كأن دمشق «شرشف مطرز بالنجوم». يبلع ريقه ويكزّ على شهقة حارة. تتلألأ الدموع فى عينيه، تغيم الرؤيا والزجاج فيخرج البحر من الذاكرة كأنه يمشى ويدخل المقهى حيث القوارب تأتى وتروح كما الزمن الذى يأتى ويروح. يشتم الغربة وليلى والشوق وينادى بحرقة «يا قاسيون». يفرك عينيه وكأنه يمزق الصورة. هو يدرك أن بينه وبين قاسيون بحر وطريق طويل وعمر مشكوك بخرز الأيام. يترك مكانه ويتمشى بين الطاولات ثم يصعد الدرج إلى سطح المقهى. يريد أن يرتفع نحو الأعلى فقد ضاقت روحه من القاع. فى الطابق العلوى للكافتيريا البحرية.. يجلس ويراقب. النادل يأتى ويسأل «أتريد قهوة؟». يلمح امرأة تعبر الشارع ومعها طفلة صغيرة. تشبه ليلى. حدق طويلا. انكمش جسده على الكرسى. تسارعت دقات قلبه. سمع صوت صديقه كامل يتساءل: «ألا يموت الحب يا ياسر؟». هه؟! همهم وهزّ رأسه. لا يموت الحب يا صديقى يتحول أحيانا إلى إحساس غريب لا يمكن تفسيره فتتوقع بأنه انطفأ أو يغدرك أحيانا بحيث تضيع منك الإشارات. وتظن بأنك ملكت نفسك وصرت مكتملا بلا محبوب. لكنه يتأجج بنظرة أو بكلمة، مثل الجمر الذى تحت الرماد حين تنفخ فيه الريح. تنهد وهو يتمتم: قد يختفى كغبش الصباح لكنه يظهر مرة أخرى فى غبش المساء. دائما للأشياء نقيضها. طلب قهوة مُرَّة مع أنه يحبها وسط. لأن «خير الأمور أوسطها»، بحسب قول للإمام على عليه السلام.. أحيانا يجد الموقف الوسط كما الموقف الرمادى، أو اللا موقف. ربما. لكن ليلى لم تتردد فى موقفها. حين انتهت من دراستها العليا وكان ياسر قد انتظرها وصرف عليها عمره وأحلامه. ثم بلحظة. نعم بلحظة قررت أن تشترى غيره، أو قررت أن تبيعه وتشترى فتى جديدا بسيارة جديدة. شعره أكثر طولا. وقامته أكثر قصرا «ليش هيك؟» سأله صديقه فردّ وهو يرمى قبعته على الطاولة بغضب ثم يتنحنح ويخفت صوته ويقول: «دفعت ثمنا باهظا لهذا الحب». كان الثمن خمس سنوات تركتها على باب بيتها. ومئات زجاجات العطر فى خزانتها وألف موعد سكبته فى السرافيس بين قاسيون وشاطئ البحر يحرك ياسر كرسيه بحيث يكون أقرب إلى الدرابزين.. يراقب أعماق الأفق كأنه يراقب أعماقه الغامضة. تشردق بالقهوة، ارتعشت يده حين عبرت مقابل شرفته امرأة حنطية اللون متوسطة القامة، تلبس منديلا أبيض ومعها حقيبة صغيرة لامعة حدق فى الحقيبة، قال: كأنى رأيت هذه الحقيبة فى بيتنا. تلفتت المرأة باتجاه شرفته غص بالقهوة. قال لنفسه: عيناها مثل عينى أمى. حركت المرأة يدها باتجاهه تراجع قليلا إلى الوراء. كاد يصرخ «أمى، أين كنتِ.. انتظرينى لأحكى لك عما جرى لى». تابعت المرأة سيرها بهدوء. حدق فى ملامحها تنهد بحزن. قال بصوت مرتعش: «لا هذه ليست أمى. هذه ليست أمى.. أمى بيضاء طويلة القامة. ترتدى الثياب المزركشة بالعطر لو أنها أمى كانت سمعتنى ورأتنى بقلبها» تنهد: «لماذا جاءت الآن وكيف؟ لقد مات أبى من زمان وتبعته أمى بعد معاناة مريرة مع الوحدة والألم». أمسك بالنادل من يده وراح يحكى له: «أبى لا يعرف أنى أغرق فى الحزن وأن آلاف المجازر لا تزال معلقة فى رأسى، ورأسى يكاد ينفجر». يضغط على رأسه بكلتا يديه، ثم يخفضه إلى الأرض كأنه يتفقد خيط دماء يجرى كجداول صغيرة منذ كليب حتى مجزرة غزة. يغرق فى هاتفه. يشعر بالغضب من الصور المركبة التى قذفه بها الفيسبوك. الهاتف يرن، يرد بصوت مبحوح: «من الذى يتكلم؟! آلو» إنها ليلى التى يحفظ صوتها غيبا سمعها تقول: «يبدو أنى أخطأت».. ناداها بصوت عال: «لا أنا هو. أنا هو يا ليلى الذى انتظرك، ومشى شوارع المدينة شارعا شارعا وهو يبحث عنك». غير أنها أغلقت السماعة لم تعرفه. قال لنفسه بكل الأسى: «طبيعى أن نتغير بين أنّة وأنّة للزمن.. وأن تتغير أصواتنا ومواقفنا، لكن خطوط القلب لا تنقطع». يعود إلى قهوته ليراقب شابا وسيما يصفف شعره بعناية ويمشى كمن يرقص. لا بد أنه على موعد مع امرأة. المرأة وحدها هى التى تغيِّر فى الرجل.. تغيِّره شكلا ومضمونا.. إما إن تجعله أميرا، وإما أن تجعله حقيرا. ضحك كأنه قبض على جائزة. فرح بنفسه لشدة حكمته ونباهته.. لكنه تساءل بحيرة وهو يكتب فى دفتره الصغير: اليوم رأيت سيدة تمشى ببطء وتشد حقيبة يدها إلى خصرها وترنو للشرفات بنظرات هائمة. أؤكد بأنها ترتدى ثيابا من البالة. أؤكد أنها لم تشرب قهوة بعد. لا بد أنها تشاجرت مع زوجها من أجل البن منذ قليل. شعرها منفوش والعالم لا يعنيها. كأنها مجرد جسد يتحرك على رصيف الحياة هدفها الوصول إلى نقطة معينة، وربما لا تريد أن تصل أبدا. تبع المرأة شابٌ جميلٌ يمشى برِجل واحدة. كان يتكئ على عكاز مزدوج. امتلأ قلبى بالدموع.. أردت أن أقول له: أنا أحبك. ما إن استدار الفتى الجميل حتى ركضت خلفه طفلة صغيرة لها جديلتان طويلتان سوداوان مثل الليل. نادته: بابا.. خذنى معك. رشف قهوته وتابع الكتابة فى دفتره الصغير: «كنت أريد أن أناديه خذنى معك. فى لحظات ما نريد أن نعود أطفالا. نتمنى أو نتخيل أن نعود أطفالا حتى نهرب من الواقع المُر. ها هى مدرستى لا تبعد سوى أمتار عنى. هذه المدرسة أخبئ فيها طفلا متمردا جميلا يغنى "من قاسيون أطل يا وطنى» لكننى أناديه كثيرا: يا. يا. لكنه لا يرد بالرغم من أنى أسمع صوته فى نشيد حماة الديار صباحا، وأرى رفاقه عمرو ودينا وسوسن وباسل وسميرة خارجين من الباب باتجاه بائع كعك البريوش بالسماق. أف.. قهوتى مُرَّة جدا هذا الصباح.. دراجات نارية توقظ الصمت، صوتها يدل على الفقر والشقاء. هكذا نحن خُلِقنا أشقياء ونموت أشقياء. لا تسمع بنا سوى المقابر. هى هكذا الحياة، تلمنا وتبعثرنا بلحظة.. طعم القهوة صار بلا طعم. يتأفف. يشعر بشوق غامر للهروب إلى الوجوه التى تجتاحه الآن. أمه، جيرانه، حبيبته. وجوه عبرت وعكرت صفوه. يشعر بالعجز لأنه لا يقدر أن يقبض على أحلامه وخيالاته كأنها تعانده وتنوى الهروب بعيدا عنه يكتب: هل خلقنى الله لأبقى فى الوسط. لست فى اليمين ولا أنا فى اليسار. الوسط ضيق علىَّ. الزمن الذى أعبره ليس خيطيا ولا لولبيا. إنه زمن ثالث مختلف عن أزمنة المدينة. البحر أمامى والزمن ورائى. وهذه الشرفة بين يدى. قهوتى بردت والذين فى أعماقى ما زالوا يجولون ويصولون ويحرموننى من السكون.. أحسد اليمامة التى غطت على نافذة الجيران.. سمعت إطلاق نار قريب. فزعت اليمامة وأنا فزعت. اندلقت القهوة من يدى. استغربت كيف تأثرت.. عادة نحن نأكل أصوات الرصاص وننام مع القذائف، ونحلم بحذاء أمريكى من البالة عادة تصير الأشياء معتادة فتموت الدهشة ونتحول إلى آلات عصرية تتحرك كالروبوت. شطب الفقرة الأخيرة بعد أن تأملها طويلا. تلفت حوله وهو يسترخى فى كرسيه غير عابئ بالعابرين، لكنه ارتجف حين وجدهم كلهم أمامه. دفعوه بقوة، وأخذوا كرسيه، المرأة شربت قهوته. والطفلة صارت تبكى. لم يعد له مكان ولا قهوة ولا طاولة. هرب إلى الداخل. كان يلهث متعبا. ما بك.. خير؟ سأله النادل. تعال أرجوك. قال متوسلا. وهو يتجه إلى زاوية مغلقة وينادى بغضب: «أغلق النوافذ. أغلق كل الأبواب. لم أعد بحاجة إلى إطلالة على هذا العالم». اندهش وقال بحزن: «لا تزعل. يبدو أنك مصاب بحساسية مثل جارنا الدكتور عدنان الذى أغلق شرفاته ونوافذه البحرية بالأمس، لأنها تطل على زمنين متناقضين بحسب رأيه». قال النادل خجلا: «أنا لا أعرف ماذا يقصد. وما هى هذه الحساسية، لكنه كان غاضبا وهو يقول للنجار أن يغلق حتى نوافذ أحلامه. أنا لم أرَ نوافذ الأحلام. ربما هى نوافذ سرية لا يراها إلا أصحابها.. وقال بأنه لا يحتمل رؤية الزمن الثالث يدخل عنوة». وقف ياسر مندهشا. تابع النادل وهو يضع يده على كتفه ويقول: «عفوا أستاذ.. جارتنا الفنانة التشكيلية التى تجلس هناك على تلك الطاولة دوما وتطلب القهوة الحلوة جدا، وترسم لوحات مائية وتبيعها على الكورنيش، سمعتها تقول بأنها أغلقت كل النوافذ فى لوحاتها وقالت بأنها لا تحتمل أبدا الزمن الثالث الذى يتسرب من الضوء والألوان ويدخل الدماغ فيعيد الذاكرة إلى الوراء بعيدا فى الزمن». طفرت دمعة ياسر وقال بخشوع وارتباك: أنا أيضا لا أحتمل. ثم أغلق دفتره وأغمض عينيه وهمس. «انتهينا. افتح النافذة، هل انقشع الغيم؟».