الخط السياسي العام في النمسا تجاه الجمعيات الإسلامية السياسية يظهر قدرًا كبيرًا من الصرامة الرسمية، وتوجهًا واضحًا نحو تفكيك البنى التنظيمية المرتبطة بفكر الإسلام السياسي، وتحديدًا جماعة الإخوان، التي تعد في نظر السلطات تهديدًا ثقافيًا وأمنيًا طويل الأمد. وفي ظل هذه التوجهات، يتوقع أن تواجه الجمعيات الإسلامية ذات الخلفيات الأيديولوجية رقابة أكثر شدة وتشددًا في منح التراخيص والتمويل، ما قد يغير من خارطة العمل الإسلامي المؤسسي في النمسا خلال السنوات القادمة. فيينا تمضي قدمًا نحو بناء نموذج رقابي جديد يهدف إلى مواجهة الإسلام السياسي، ليس عبر المواجهة المباشرة فقط، بل من خلال أدوات تحليل اجتماعي واستباق أمني. تُمثّل جماعة "الإخوان المسلمين" تهديدًا متجذرًا داخل المجتمعات الأوروبية، لا سيّما في ألمانياوفرنساوالنمسا، فعلى الرغم من الإجراءات المتعددة التي اعتمدتها الحكومات الأوروبية خلال السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ مطلع عام 2021، لا تزال الجماعة تُشكّل أحد أخطر التحديات الأمنية في القارة، نظرًا لقدرتها المستمرة على إعادة التموضع والتخفي تحت أغطية ثقافية ودينية، هربًا من الملاحقة الأمنية، وإجراءات تتبّع الأنشطة ورصد مصادر التمويل. وينظر غالبية الساسة والنشطاء إلى حركات الإسلام السياسي بوصفها تهديدًا مباشرًا لقيم الحرية والديمقراطية، كما أنها تُشكّل بيئة خصبة لتفريخ التطرف، وممارسة العنف، ونشر الفكر المتشدد داخل المجتمعات. وقد شكّلت أحداث فيينا الدامية التي وقعت في النمسا عام 2020 نقطة تحوّل في مقاربة المخاطر المرتبطة بهذه التنظيمات، لا سيّما بعدما أثبتت التحقيقات ارتباط المتهم الرئيسي في الهجوم بعدد من التنظيمات المتطرفة داخل البلاد، إلى جانب محاولات تنسيقية للالتحاق بتنظيم "داعش". على ضوء ذلك، أقرّت دول الاتحاد الأوروبي حزمة إجراءات ضمن خطة عمل متكاملة لمواجهة أنشطة التطرف والإرهاب، تضمنت آليات لتعزيز مراقبة الأنشطة، وتتبع مصادر التمويل، واستحداث أدوات للرصد الرقمي، فضلًا عن تعزيز الإطار التشريعي الناظم لمكافحة هذه الظواهر. تعود جذور شبكات جماعة الإخوان المسلمين في النمسا إلى ستينيات القرن الماضي، حين أسسها عدد من أعضاء التنظيم المصريين المهاجرين، من أبرزهم يوسف ندى وأحمد القاضي الذي لعب لاحقًا دورًا محوريًا في ترسيخ الوجود الإخواني في الولاياتالمتحدة. أما ندى فقد عمل على بناء إمبراطورية مالية عابرة للحدود، امتدت بين الشرق الأوسط وأوروبا، قبل أن يتولى رئاسة العلاقات الخارجية للتنظيم انطلاقًا من النمسا. ويُشار إلى أن قصره الواقع في منطقة "كامبيوني ديتاليا" اعتُبر بمثابة وزارة خارجية غير رسمية للتنظيم. في هذا السياق، استضافت فيينا في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 "منتدى فيينا الثاني لمكافحة التطرف"، الذي نظمته وزيرة الاندماج النمساوية سوزان راب، بمشاركة نحو 150 سياسيًا ودبلوماسيًا أوروبيًا. وقد ركز المؤتمر على تعزيز التعاون الدولي، سياسيًا ومهنيًا، للتصدي لشبكات الإسلام السياسي ومكافحة أنشطتها المتنامية في أوروبا. وفي أعقاب حظر النمسا لشعارات جماعة الإخوان في الأماكن العامة عام 2021، توالت الإجراءات الحكومية لتعزيز اندماج المسلمين في المجتمع ومكافحة التطرف. وخصصت الحكومة النمساوية ميزانية قدرها 4.7 مليارات يورو لمكافحة الإرهاب، تضمنت تجهيز وحدات أمنية متقدمة للتعامل مع التهديدات المحتملة. وفي عام 2022، أعلن "مركز توثيق الإسلام السياسي" الحكومي تشديد الرقابة على أنشطة جماعة الإخوان داخل "المجلس الإسلامي" ومسجد "الهداية" في فيينا، وذلك بعد عام من إطلاق "خريطة الإسلام" التي صنّفت 623 مسجدًا وهيئة إسلامية خاضعة للرقابة، مع تتبّع علاقاتها المحتملة بالخارج. في أعقاب سقوط جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم في مصر عام 2013، دخل التنظيم في دوامة من الأزمات والتحولات البنيوية التي طالت امتداداته العالمية، لا سيما في أوروبا. وتواجه الجماعة اليوم تصعيدًا أوروبيًا متناميًا في الإجراءات الرامية إلى تطويق تمدد التيارات الإسلاموية المتطرفة داخل المجتمعات الأوروبية. لطالما اعتبرت الجماعة القارة الأوروبية بيئة حاضنة لنشاطها، حيث استطاعت على مدار ستة عقود، منذ تأسيس المركز الإسلامي في ميونخ عام 1954، أن تنسج شبكات مالية ومجتمعية معقدة تتغلغل في النسيج المدني الأوروبي، مستفيدة من هامش الحريات ومناخ التعددية. غير أن استراتيجية الجماعة في أوروبا تختلف جذريًا عن نشاطها في الدول العربية، إذ تتخذ شكل منظمات خيرية ومؤسسات مدنية غير مرتبطة علنًا بهيكل تنظيمي موحد، ما يصعّب على السلطات ضبط انتماءاتها وتحديد علاقتها بالتنظيم الأم. ورغم اختلاف البنى التنظيمية من دولة إلى أخرى، تجمع تلك الكيانات أهداف ومواقف متقاربة، تدعم بشكل غير مباشر أجندة الإخوان العالمية، ما يضعها تحت مجهر الحكومات الأوروبية التي باتت أكثر وعيًا بخطورة هذا التغلغل الناعم، في سياق أوسع من مكافحة التطرف العابر للحدود. تكشف المعطيات الحديثة عن تحول القارة الأوروبية إلى الساحة الأكثر حيوية في نشاط جماعة الإخوان المسلمين عالميًا، بعد تراجع نفوذها في العالم العربي، حيث يعتمد التنظيم الدولي، الذي يتخذ من لندن مقرًا له، على منظومة متشعبة من الجمعيات والمنظمات المدنية التي تعمل تحت غطاء قانوني، لكنها في الواقع تنفذ أجندات الإخوان السياسية والفكرية، وتنسق بشكل غير مباشر مع القيادة المركزية للجماعة. وتحظى أوروبا اليوم بتموضع استراتيجي داخل الهيكل الإخواني العالمي، حيث تنشط مؤسسات بارزة مثل المجلس الإسلامي البريطاني، والمركز الإسلامي في ميونيخ، والتجمع الإسلامي في ألمانيا، وغيرها. وتلعب هذه الكيانات دورًا محوريًا في تحقيق هدف "أستاذية العالم" الذي أرساه مؤسس الجماعة حسن البنا. أما على المستوى المالي، فتغيب الأرقام الدقيقة عن ثروة الإخوان، لكن المؤشرات تؤكد وجود إمبراطورية اقتصادية متعددة الأذرع، تشمل شركات "أوف شور"، واستثمارات مصرفية وتجارية واسعة، أبرزها في تجارة الأغذية الحلال، التي تقدر عالميًا بمليارات الدولارات. وتدار هذه الشبكات من شخصيات نافذة في التنظيم، على رأسها عبد الرحمن الشواف، ويوسف ندى، وأنس التكريتي. رقابة مشددة وتحولات مالية مرتقبة في ظل تزايد الشكوك الأوروبية، يبدو أن الجماعة أمام مرحلة دقيقة من المواجهة مع السلطات الغربية، التي باتت تتعامل مع مؤسسات الإخوان كجسم موازٍ يحمل أجندات تتقاطع مع قضايا الأمن القومي والتطرف الديني. لذا تشهد جماعة الإخوان المسلمين اليوم واحدة من أعقد أزماتها البنيوية في أوروبا، مع تصاعد الجهود الأوروبية لمحاصرة أنشطتها ووضع قياداتها ومصادر تمويلها تحت رقابة مشددة، ما يهدد بانهيارات داخلية حادة وتفكك هيكلي يُفقد التنظيم قدرته على التحكم في مفاصل النفوذ والسلطة داخل شبكاته المنتشرة. وتتأثر الروافد المالية للجماعة بشكل مباشر بهذه الحملة، في ظل تضييق الخناق القانوني والأمني، ما يدفع بقيادات التنظيم إلى البحث عن ملاذات بديلة خارج أوروبا، في دول مثل ماليزيا، وغرب أفريقيا، وشرق آسيا، حيث يُعتقد أن البيئة الرقابية أقل صرامة. وبحسب تقديرات أمنية، تتعرض الجماعة للمرة الأولى لمواجهة أوروبية مباشرة، تهدد واحدة من أهم ساحاتها التنظيمية في الخارج، رغم العلاقات التي تربط بعض قياداتها بمسؤولين أوروبيين. غير أن الضغط الشعبي والسياسي داخل أوروبا بات يشترط التحرك ضد الجماعة كجزء من استراتيجية مكافحة التطرف التي أقرها الاتحاد الأوروبي نهاية 2020. وفي إطار الاستراتيجية الأوروبية لمكافحة التطرف، شُرعت سلسلة من الإجراءات الصارمة تمثلت في تشديد الرقابة على الجماعة، تتبع مصادر تمويلها، وفرض عقوبات قانونية مشددة. غير أن هذه الخطوات، على الرغم من جديتها، لم تحقق النتائج المرجوة بعد، ما يستدعي تعزيز أدوات التصدي عبر أربعة محاور رئيسية: تشديد الرقابة الشاملة على المؤسسات المرتبطة بالإخوان وحرمانها من التمويل الرسمي أو الخارجي، ومنعها من الاندماج المجتمعي. محاسبة المتورطين بعلاقات مع الجماعة في الشرق الأوسط، خاصة في ضوء إدراجها على لوائح الإرهاب في دول عربية، وتورطها في تمويل عمليات إرهابية. توسيع التنسيق الأمني مع الدول العربية الحليفة لرصد وتتبع نشاط التنظيم وشبكاته العابرة للحدود. إصلاح تشريعي وأمني يمنح الأجهزة الأمنية والاستخباراتية مرونة أكبر في التعامل مع التهديدات المرتبطة بالتنظيم. ورغم الجهود المكثفة التي تبذلها دول مثل فرنسا وبلجيكا، لا يزال خطاب الإخوان المتطرف فاعلًا داخل عدد من المنابر الإسلامية، مستغلًا شعارات الإسلاموفوبيا لاستدرار التعاطف، وتوسيع قاعدة التجنيد بين الشباب في الجاليات المسلمة. كما تعتمد الجماعة أساليب التضليل والتخفي، مع إنكار أي صلات تنظيمية مباشرة، ما يعقّد جهود كشف امتداداتها داخل أوروبا. لذلك، تُعد المواجهة الفكرية إلى جانب الأمنية ضرورة قصوى، خصوصاً في ظل استمرار "غسل العقول" الذي تمارسه الجماعة عبر أدواتها الناعمة داخل المجتمعات. ولا يُستبعد، في ضوء هذا المناخ التصعيدي، أن تتجه بعض العواصم الأوروبية إلى تصنيف الإخوان تنظيمًا إرهابيًا، خصوصًا بعد توثيق ارتباطاته بكيانات متطرفة، وتوسيع نطاق قرارات الحظر التي طالت مؤسساته ورموزه في عدد من الدول الأوروبية. ويبقى تجفيف منابع التمويل، وفق خبراء، السبيل الأنقع للحد من تمدد التنظيم، وتقليص قدرته على التأثير والنفوذ.