كأننا فى زمن انقلبت فيه الموازين، وصار التافه نجما، والهازل سيّدا، وصوت الحكمة هامسا يتيه بين ضجيج "التريند". أمةٌ كانت تُضرب بها الأمثال فى الريادة، باتت تُصفّق لمن ترقص على شاشة هاتف، وتمنح ملايين المشاهدات لمَن يلتهم صحن مكرونة أو قطعة لحم أمام الكاميرا، وكأننا لم نعرف يوما أن الفكر غذاء العقل، وأن الفن رسالة، وأن الكلمة الطيبة ميراث الشعوب الحية. المصري الذى كان يملأ الدنيا فكرا وأدبا، يُلهيه اليوم "مقطع قصير" لا يتجاوز دقائق معدودة، فيه من الابتذال ما يكفى لطمس بريق العقول. صارت المعايير مختلة: يُقاس النجاح بعدد الإعجابات والمشاهدات، لا بما يُضيفه المحتوى من قيمة أو يتركه من أثر. صارت الشهرة رخيصة تُشترى برقص على أنغام هابطة أو "مقلب" سخيف فى شارع. إنها التفاهة حين تقتات على أوقاتنا، وتسرق وعينا، وتستنزف طاقات شبابنا. وما هو أخطر أن هذه "المنصات" لم تعد مجرد وسيلة ترفيه، بل أصبحت مصنعا لتصدير قدوات مشوهة، يُقلّدها الجيل الناشئ دون تمييز، ظانا أن طريق المجد يبدأ من "رقصة" أو "لقمة". غير أن ما يدعو للأسف أكثر من صُنّاع هذا الهراء، هو جمهورٌ غفير يصنع لهم العروش، يرفعهم إلى قمة "التريند"، بينما يُدير ظهره لمن يُنتج فكرا أو علما أو فنا راقيا. هكذا يتجلى المرض الاجتماعى: التفاهة ليست فى مَن يُقدّم المحتوى وحده، بل فى ملايين الأيدى التى تكتب إعجابا، وملايين العيون التى تتابع بوله. والسؤال يا سادة :أليس الأجدر بنا أن ندعم الباحث الذى يسهر الليالى ليُضيف سطرا جديدا فى كتاب العلم؟ أو الفنان الذى يُجاهد ليُقدّم عملا يحمل رسالة؟ أليس الأجمل أن نجعل من شاشاتنا نوافذ تُطلّ على عوالم الفكر والثقافة، لا على أطباق "السوشى" و"المحشى" و"الكيك"؟ فى النهاية بقى أن أقول ؛ يا أبناء وادى النيل، حذارِ أن نترك التفاهة تسرق منّا ما تبقّى من بريق. فالأمم لا تنهض بالضحكات المصطنعة ولا بالرقص على الهامش، بل تنهض بالعلم والفن والفكر، بالعمل والإبداع والإيمان بالرسالة. فلنجعل من وعينا منبرا، ومن اختياراتنا ثورة ضد التفاهة. عندها فقط، سنعود كما كنا: شعبا يُعلّم الدنيا قيمة الإنسان وقيمة الحياة.