في كل بيت، هناك معركة صامتة تدور بين الآباء والشاشات. هاتف صغير يلمع في يد الطفل، لكنه يخطف من عينيه بريق الطفولة، ويختزل العالم في شاشة لا تتجاوز راحة الكف. نحن لا نبالغ حين نقلق، ولا نخطئ حين نغضب، لكن كثيرًا ما ننسى أن الأمر لا يُحل بالصوت العالي، ولا بالحرمان المفاجئ، بل بالفهم، ثم الحكمة، ثم تقديم البدائل. الطفل لا يتعلق بالهاتف لأنه متمرّد أو عنيد، بل لأنه وجد فيه ما لم يجده في محيطه: تفاعلًا، ألوانًا، مغامرةً، وربما هروبًا. حين نُدرك هذه الحقيقة، نتوقف عن محاربته، ونبدأ في إعادة تشكيل يومه، لا في انتزاع لحظاته. لِمَ لا نبدأ بالاتفاق؟ أن يكون للهاتف وقت معلوم، كأنّه وجبة خفيفة في يوم مزدحم بالنشاط، لا طعامًا رئيسًا يُشبع منه طوال الوقت. نخبره أن الهاتف ليس شرًّا، لكنه يحتاج إلى تنظيم. نستخدم تطبيقات بسيطة تضبط الوقت بدلًا من أن نصرخ في كل مرة، فنكون شركاء في النظام لا حرّاسًا على بوابة الحرمان. ثم نخفف الجرعة، لا فجأة، بل بالتدريج. ومع كل خطوة، نمد له يدًا تحمل بديلاً جميلًا: لعبة تركيب تحفّز خياله، مكعبات ملوّنة يبني بها أشكالًا من وحي عالمه، قصة تسكن مخيلته، أو صلصال يصنع منه كائنات تشبه أفكاره. نمنحه شيئًا يلمسه، يشكّله، يضحك معه، لا مجرد أمرٍ بالابتعاد. وما أجمل أن نكون نحن البديل. نلعب معه لا لنُلهيه، بل لنشاركه ضحكًا يُذكّره أن الحياة خارج الشاشة أدفأ. لحظة يمسك فيها أيدينا أهمّ من كل المقاطع التي تمرّ عليه في صمتٍ بارد. علينا أن نحكي له أيضًا، لا لنخيفه، بل لنعزز وعيه. نقول له بلغة القلب: "أتعلم لماذا نتعب حين نُكثر من الهاتف؟ لأن العين تحتاج إلى الراحة، ولأن النوم يحب الظلمة والهدوء، لا الضوء الأزرق." أو نروي له حكاية طفل ظل ممسكًا بهاتفه طوال الوقت، حتى نسي كيف يرسم، وكيف يركض، وكيف يضحك. نرتّب له يومه كأنّه لوحة جميلة: وقتٌ للعب، ووقتٌ للطعام، ووقتٌ للنوم، ووقتٌ للهاتف… وقتٌ لكل شيء، فلا يطغى شيء على شيء. وحين يلتزم، حين يترك هاتفه بإرادته، نكافئه، لا بشيء كبير دائمًا، بل بكلمة دافئة، أو نجمة صغيرة في دفتر، أو حضنٍ صادق… فكل طفل يحب أن يُحتفى به. نحن لا نريد أن ننتزع الهاتف من يد طفلنا، بل أن نزرع في قلبه حياةً كاملة… تجعله حين يترك الهاتف، لا يشعر بالنقص.