ساعتها أتاكد تماما أن وجودهن مع الحرمان من بعض المتع الشخصية أهون بكثير من البعد عنهن، اللهم أدم علينا نعمة دوشة العيال وأمهن واحفظها من الزوال يارب. حكاية سفر الجمعة: أعشق السفر صغرت مسافة السفر أو كبرت،الدخول في حالة السفر كفيل بأن يغير الحالة المزاجية عندي للأفضل حتي لو كان السفر علي بعد كيلومترات قليلة من المكان الذي أعيش فيه، زمان كنا نعيش في شقة في مدينة الأقصر وكان لنا بيت في قريتنا البياضية التي تبعد فقط ثلاثة كيلومترات جنوبالأقصر، كانت قرية جميلة آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا قبل أن تتحول إلي مدينة بذلك القرار الذي جعلها ترقص علي السلم ففقدت براءة القرية ولم تصبح مدينة بالمعني الحقيقي للكلمة فلم تأخذ منها سوي فوضي البناء وتجريف الزراعات،واحتلت المقاهي أو الكافيهات - إن شئت الدقة - كل شوارعها. كان والدي رحمه الله يحرص بمجرد حصولنا علي الأجازة المدرسية الصيفية التي كانت تمتد عدة شهور أن نقضيها في بيتنا في البياضية وسط الأهل والأحباب،كان الحنطور هو وسيلة المواصلات الوحيدة المتاحة لركوب البشر في ذلك الوقت قبل أن تنتشر في الصعيد بعد ذلك بسنوات السيارات البيجو السبعة راكب، بينما كانت عربات الكارو مخصصة لنقل العفش فكنا نستأجر عربة كارو نضع عليها كل ما يلزمنا من أدوات نصطحبها معنا من المدينة للقرية وكان من نصيبي بالطبع كولد وحيد أن أستقل الكارو وأركب فوق العفش للحراسة أولا ولتعريف سائق الكارو مكان بيتنا في البياضية ثانيا، بينما يستقل أبي وأمي وشقيقاتي العربة الحنطور.كان يوم السفر يوم عيد حقيقي فلا نوم في ليلة السفر فكيف ينام من ينتظر العيد؟ وتستمر حالة البهجة خاصة عندما نضع العفش فوق الكارو وأنا فوقه معطيا إشارة بدء الرحلة، وكثيرا ماكنت أدخل في حوارات مع سائق الكارو الذي يندهش من تلك السعادة البادية علي وجهي لمجرد أنني مسافر فوق عفش علي ظهر عربية كارو يجرها حمار بائس وسائق أكثر بؤسا يقودني وحماره وعربته في طريق غير ممهد يهدد الحمولة كلها بما فيها أنا بالانهيار في أية لحظة رغم إحكام الرباط بالحبل الغليظ الذي يلف جسمي ضمن العفش، ذلك الحبل الذي يعتبر النسخة البدائية لحزام الأمان وكان الرجل كلما مررنا بمطب أو حفرة يوقف الموكب علي جنب ليطمئن علي »الربطة» حيث كان انهيارها معناه ضياع اليوم في إعادة رصها وترتيبها فوق الكارو من جديد وهو يطمع في توصيلة اخري خلال النهار حيث اكتشفت أنه لا يمتلك هذه الكارو بل يعمل أجيرا عليها وأن امتلاك واحدة مثلها فوق مستوي أحلامه. كان الرجل يضرب كفاً بكف وهو في حالة دهشة من تلك الابتسامة التي لا تفارقني رغم مأساة الطريق والتي كان من الصعب أن يفهم معناها أو يستوعبه ويظل طوال الطريق الذي يستغرق عدة ساعات يسألني وكأنه محقق يريد أن ينتزع مني اعترافا بوجود أسباب اخري للسعادة غير السفر! كان من الصعب أن يستوعب ذلك الرجل البائس كل تلك السعادة التي كان مصدرها السفر ولا شيء غير السفر، ذلك السفر الذي كان ولا يزال يفعل بي الأفاعيل خاصة بعد أن أصبحت من سكان القاهرة التي لا ترحم أهلها ومع ذلك لا يرضون عنها بديلا.مجرد أن تتحرك بي أية مركبة بعيداً عن هذه المدينة أشعر بقلبي يرفرف من السعادة والفرح، ليس من المهم أين يستقر بي المطاف ولكن المهم أني قد تحركت مسافراً، تستوي فرحتي بالسفر لقليوب بفرحتي بالسفر للصين، أسعد لو كان السفر لمدة ساعات أعود بعدها للقاهرة أو لمدة أيام طويلة أغيب خلالها ثم أعود مجددا لقسوة مدينة بلا قلب »تنشل» عمرك قبل حافظة نقودك، أفرح بالسفر فرحة طفل صغير يركب لأول مرة أتوبيسا يجري به فوق الأسفلت أو طائرة تخطفه فوق السحاب، لذا قررت ومنذ أن وطأت قدمي مدينة القاهرة ألا أدع أية فرصة للسفر تفوتني، فمجرد أن تخرج من زحام القاهرة لأي مكان ولو لساعات قليلة كفيل بإعادة شحن بطارية الاوكسجين وتجديد الأنسجة الداخلية والخارجية بما يوفر لك فرصة للبدء من جديد. أجري مسرعا بمجرد ركوب الأتوبيس لأضمن مكانا بجوار النافذة،أستمتع بالمرور راكباً علي نفس الأماكن التي أعاني منها مترجلا والأتوبيس يشق طريقه بصعوبة وسط الزحام وبمجرد التحرك من مكان التجمع الذي غالبا مايكون وسط البلد ألتصق بجوار النافذة مودعا القاهرة بضخبها وضجيجها حتي بداية الطريق الصحراوي أياً كانت الوجهة أما إذا كان السفر بالطائرة فأحرص أيضاً أن أطلب اثناء استخراج البوردنج (بطاقة الصعود للطائرة) مقعدا بجوار النافذة حيث يحلو لي متابعة الأشياء وهي تصغر أمام عيني، يا الله إذا كانت القاهرة بكل مافيها من شوارع وبشر وحجر وأبراج سكنية ومبان شاهقة تتحول مع ارتفاع الطائرة إلي نقطة بعيدة من الصعب رؤيتها بالعين المجردة فكيف نحن كبشر في نظر ربنا سبحانه وتعالي؟ وهل بدون السفر يمكن أن يختلي الإنسان بنفسه سواء في اتوبيس يمرق بين الصحاري والزراعات أو طائرة تمخر عباب السحاب ليعيش لحظات تأمل في قدرة الله عز وجل؟. الغريب انني بدون مبالغة وبمجرد أن أتحرك مسافراً خارج مصر أظل أفكر في مصر وكأني لم أفارقها وهو شعور أعتقد أنه يشاطرني فيه كل من جرب السفر خارج مصر مهما كانت مدة السفر حيث كثيرا مانعيش ونحن خارجها كثيرا من التفاصيل التي ربما تخفي علي كثير منا ونحن في داخلها،وكأنك عندما تخرج من الكادر وتنظر للصورة من الخارج تستطيع أن تغرق في تفاصيها بشكل أوضح بكثير مما تكتشفه عندما تكون جزءا، أما عن تفكيري في أهلي وأحبابي وبالذات بناتي فحدث ولا حرج فمنذ اللحظة التي اغادر فيها من البيت إلي المطار وحتي عودتي لا تفارق مخيلتي صور بناتي حتي أرجع خاصة في البلاد التي يفصلنا عنها فروق توقيت كبيرة مثل أمريكا والصين.أحتفظ طوال السفر بتوقيت مصر علي الموبايل إضافة إلي توقيت البلد الذي أكون فيه لأتخيل في كل لحظة ماذا تفعل البنات في تلك اللحظة من وقت استيقاظهن من النوم حتي يخلدن إليه مرة أخري!وهكذا اسافر من مصر وفي خيالي كل من احببت وهكذا أعود لهم دون أن يفارقوني لحظة! أصعب انتظار السبت الانتظار من أصعب الاختبارات التي يتعرض لها الإنسان في حياته ورد فعل كل انسان يكشف عن معدنه بشكل كبير والانتظار أنواع، وأصعب أنواع الانتظار هو أن تنتظر شيئاً غير مضمون التحقق أو الانتظار بلا أمل، وقد لخص أحد الحكماء صعوبة هذا النوع من الإنتظار عندما وصفه قائلا إن الانتظار من الشيطان، انظر إلي كل من حولك من المتألمين ستجد أنهم في حالة انتظار لشئ ما،انطلق بالمتاح لتحصل في الطريق علي غير المتاح،كلنا نتألم لأننا ننتظر شيئا غالبا لن يتحقق.الألم والانتظار متلازمان ومع ذلك يضيع معظمنا وقته وربما عمره كله منتظرا متألما مع أنه يستطيع بقليل من التفكير أن يدرك عدم جدوي مايفعله وأنه لو استمتع بالمتاح له مابين يديه لكان أفضل له صحياً ونفسياً وربما ماديا أيضا فالانتظار بلا جدوي باهظ التكلفة ولا شيء في الدنيا يساوي لحظة ألم إنسان كان أمامه فرصة حقيقية ليسعد بما توافر له من امكانات وفضل البكاء علي اللبن المسكوب في انتظار ما لايجيء لذا فإني أنصح نفسي وأنصحكم جميعا بعدم الانتظار وتوديع الألم الذي يصاحبه فلا يزال في الحياة ما يستحق أن نفرح به. وحدي بالمنزل الأحد: تحول فيلم »هوم ألون» أو وحدي بالمنزل إلي إحدي أهم علامات السينما الأمريكية، وهو الفيلم الذي أحدث ضجة وقت عرضه وتعلق به كل من شاهده يدور حول الطفل الشقي »كيفين» الذي نسيه أهله في البيت بنيويورك في غمرة استعدادهم للسفر لقضاء إجازة أعياد الميلاد في باريس ولم يكتشفوا ذلك إلا والطائرة تحلق بعيدا عن الأرض.أحيانا كثيرة أسأل نفسي هل إعجاب الناس بهذا الفيلم فقط باعتباره مجرد شريط سينمائي يقضون أمامه وقتا ممتعا أم أن كل واحد منا تمني بشكل أو بآخر أن يعيش هذه اللحظة بالذات في سن الطفولة عندما يشعر الطفل بأنه وحده المنبوذ من الجميع فيتمني لو اختفت أسرته من أمام عينيه حتي يكفوا عن إزعاجه بملاحظاتهم وتعليماتهم التي لا تنتهي؟ حتي علي مستوي الكبار لماذا يشعر الرجل بمتعة مثلا لو سافرت زوجته وأولاده وتركوه وحيدا يوما أو يومين؟ هل يشعر أنه ستكون لديه فرصة ذهبية ليفعل كل ما يحلم بأن يفعله دون مقاطعة من أحد؟ يقرأ الجريدة او كتابا اشتراه منذ مدة ولم يتسن له أن يفتحه أو يشاهد القناة التي يفضلها هو وليس التي تفضلها زوجته وأولاده؟ ينام في أي وقت ويستيقظ في أي وقت دون حساب أو مسئولية؟. اسمح لي أيها الرجل أن أقول لك لو كنت من هؤلاء الرجال فأنت واهم،أنا عن نفسي مررت كثيرا بذلك الشعور ولكن العجيب أنه في المرات التي سافرت فيها زوجتي والبنات البلد وتركنني وحيداً لا أفعل أي شيء مما تخيلت أنني سأفعله في غيابهن وأظل أصارع الفراغ والوحشة واحتراق الأصابع عند تسخين الطعام الذي تركنه لي في الفريزر. ساعتها أتاكد تماما أن وجودهن مع الحرمان من بعض المتع الشخصية أهون بكثير من البعد عنهن، اللهم أدم علينا نعمة دوشة العيال وأمهن واحفظها من الزوال يارب. الحب الحقيقي الاثنين لا أعرف لماذا اختارني القارئ العزيز احمد عادل النويهي من المنصورة أنا بالذات ليسألني عن تعريفي للحب رغم أني لست كاتبا رومانسيا إن كان للكتابة الرومانسية كتاب؟ وعموما لن أخيب ظن القارئ العزيز بي وأقول له إن الحب الحقيقي من وجهة نظري ليس مجرد »كلمات» بين حبيبين ولا هو بعض »أسرار» خاصة أو مجرد »وعود» يقطعها كل طرف للثاني خلال أكثر من »لقاء» ولكن الحب الحقيقي هو أن تشعر بحبيبك حتي لو كان بعيدا عنك آلاف الأميال.الحب الحقيقي أن تكون جالساً في »يثرب» حيث المدينةالمنورة ومع ذلك تسمع »تغريد» البلابل في مكةالمكرمة !