وزير الصحة: هيئة الإسعاف شهدت نقلة نوعية غير مسبوقة منذ 2014    الهلال الأحمر يخلي 3 مرضى من مستشفى العودة المحاصر رغم الاحتجاز.. وإطلاق النار قرب سيارات الإسعاف    نهائي كأس ألمانيا 2025.. أرمينيا بيليفيلد يصطدم بشتوتجارت في مواجهة الحلم والتاريخ    مدير تعليم القاهرة يتابع سير امتحانات النقل بإدارة بدر    نائب رئيس الوزراء: مركز الاتصالات الجديد للإسعاف هو الأكبر في الشرق الأوسط    العُمر مجرد رقم.. آمال ابنة المنيا تحوّل القصاصيص إلى كنوز في المتحف الكبير    ممكن تترشح في أي دائرة.. وزير الشؤون النيابية يكشف تفاصيل جديدة بشأن نظام الانتخابات    مستعمرون يحرقون 40 دونمًا مزروعة بالقمح فى سبسطية قرب نابلس    رئيس وزراء أوكرانيا يدعو إلى زيادة الدعم الدولي لبلاده وتشديد العقوبات على روسيا    سيميوني: أهدرنا فرصة الفوز باللقب فى أسهل موسم    مركز الساحل والصحراء يعقد مؤتمرًا عن "الإرهاب فى غرب أفريقيا".. صور    البابا تواضروس يصلي القداس الإلهي ب كنيسة «العذراء» بأرض الجولف    هيثم فاروق: أثق في يورتشيتش وبيراميدز لن يعود للدفاع في الإياب أمام صن داونز    مغامرة كأس العالم للأندية    إصابة نجم يد الزمالك بقطع في الرباط الصليبي للركبة    تباين أداء قطاعات البورصة المصرية.. قفزات في المالية والاتصالات مقابل تراجع المقاولات والموارد الأساسية    فى حضرة قباء بالمدينة المنورة.. المصريون بين عبق التاريخ ورعاية لا تغيب "فيديو"    بدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني ب8 مدارس فنية للتمريض بالإسكندرية    تأجيل محاكمة أكبر مافيا لتزوير الشهادات الجامعية    ضباط الشرطة الفرنسية يقدمون عرضًا على السجادة الحمراء ضمن ختام «كان السينمائي»    مسلم يرد من جديد على منتقديه: كفاية بقى    لقاء سويدان: الجمهور ملهوش التدخل في حياة السقا ومها الصغير    فرقة الغنايم تقدم «طواحين الهوا» على مسرح قصر الثقافة    محمد رمضان يروج ل فيلم "أسد" بصورة جديدة من الكواليس    موعد افتتاح المتحف المصري الكبير 2025.. هل يوافق إجازة رسمية؟    عضو شعبة المواد الغذائية: «كلنا واحد» تعيد التوازن للأسواق وتدعم المستهلك    رئيس الوزراء يشارك غدا بمنتدى الأعمال المصرى - الأمريكى    تأجيل محاكمة متهمي اللجان النوعية    "ملكة جمال الكون" ديو يجمع تامر حسني والشامي    ملك المونولوج.. ذكرى رحيل إسماعيل ياسين في كاريكاتير اليوم السابع    وزير البترول يتفقد المجمع الحكومي للخدمات الذكية خلال جولته بالوادى الجديد    المانجو "الأسواني" تظهر في الأسواق.. فما موعد محصول الزبدية والعويسي؟    وزير الداخلية اللبناني: الدولة لن تستكين إلا بتحرير كل جزء من أراضيها    بيرو تفتح تحقيقاً جنائياً بحق جندي إسرائيلي بعد شكوى مؤسسة هند رجب    المرصد الأورومتوسطي: إسرائيل تصعد سياسة التهجير والتجويع تمهيدًا لطرد جماعي للفلسطينيين    تسجل 44.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس في مصر: موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد ل48 ساعة    سقوط عدد من "لصوص القاهرة" بسرقات متنوعة في قبضة الأمن | صور    النزول من الطائرة بالونش!    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء الخطة التدريبية لسقارة للعام المالي الحالي    محافظ قنا يكرم باحثة لحصولها على الدكتوراه في العلوم السياسية    سيد عطا: جاهزية جامعة حلوان الأهلية لسير الاختبارات.. صور    كونتي ضد كابيلو.. محكمة تحدد المدرب الأفضل في تاريخ الدوري الإيطالي    بمشاركة منتخب مصر.. فيفا يعلن ملاعب كأس العرب    ذا أثليتك: أموريم أبلغ جارناتشو بالبحث عن نادٍ جديد في الصيف    جرافينبيرش يتوج بجائزة أفضل لاعب شاب في الدوري الإنجليزي    النائب مصطفى سالمان: تعديلات قانون انتخابات الشيوخ خطوة لضمان عدالة التمثيل    رئيس الوزراء يفتتح المقر الرئيسي الجديد لهيئة الإسعاف    نائب وزير الصحة يبحث مع وفد منظمة الصحة العالمية واليونيسف تعزيز الحوكمة ووضع خارطة طريق مستقبلية    مباشر.. أسرة سلطان القراء الشيخ سيد سعيد تستعد لاستقبال جثمانه بالدقهلية    جامعة كفر الشيخ تسابق الزمن لإنهاء استكمال المنظومة الطبية والارتقاء بالمستشفيات الجديدة    براتب 20 ألف جنيه.. تعرف على فرص عمل للشباب في الأردن    رئيس جامعة الأزهر: القرآن الكريم مجالًا رحبًا للباحثين في التفسير    خلي بالك.. رادارات السرعة تلتقط 26 ألف مخالفة في يوم واحد    فتاوى الحج.. ما حكم استعمال المحرم للكريمات أثناء الإحرام؟    حكم طلاق الحائض عند المأذون؟.. أمين الفتوى يُجيب    الداخلية تضبط المسئول عن شركة لإلحاق العمالة بالخارج لقيامه بالنصب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 24-5-2025 في محافظة قنا    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقطة صغيرة.. قرب السماء
نشر في أخبار الأدب يوم 17 - 10 - 2015

ما لون السماء وأنت تقف فوق قمة الجبل عند أقرب نقطة إلي سقف الكون؟ إنها بلا شك تتلون بألوان شتي تبعاً لتغير الفصول ومواقيت اليوم، مثل أي سماء في العالم، لكنها من فوق قمة "فلولي" تتخذ ألواناً عجائبية، بين ألوان الذهب والماس والياقوت والمرجان والزبرجد والبازلت، تتبدل ليس بين الصباح والمساء والليل والنهار، بل بين لحظات وأخري مع تقلبات الجو.. و "فلولي" هو اسم قرية صغيرة لا تكاد تري من سفح أعلي جبل في الجزء الألماني من سويسرا، وقد اتخذت اسمها من اسم البرغوث، حسبما ذكر لي أحد أبناء المنطقة في مستعمرة الفنانين المدعوين للإقامة بضعة أسابيع والرسم في القرية، كناية عن ضآلة حجمها، الذي كبر بوجود الفنانين فيها كثيراً حتي أصبحت مقصداً للسائحين.
كان الجو شديد البرودة هناك في أوائل شهر سبتمبر، وأنا أمارس رياضتي المعتادة قبل غروب كل يوم، بالتمشية وحيداً في دروب الغابة الخالية التي يكتنف الصمت أشجارها الشبحية المتراصة باستقامة، فاستشعر دُنُوَّ لحظات الإلهام مع اقتراب ساعة الغروب، وأتأمل السماء وهي تشتعل بضوء برتقالي مبهر يضعني في حالة اقتراب حميم من السقف السماوي وأنا أمتلك الكون جميعه من تحت أقدامي، وأتأمل هطول نُدَف البَرَد الأبيض الهش وهي تكسو رويدا قمم الأشجار ومساحات الحشائش والممرات، وأراقب السيدات العجائز وهن يقمن بنزهة مع كلابهن الفرحة بالحرية وهي تتقافز وتحاول الإفلات من سيورها الجلدية في أيدي تلك السيدات المسنات اللائي يمثلن الغالبية العظمي من سكان القرية.
مع مجموعة الفنانين تكتمل اللمة في قاعة الطعام، مبتهجين بروح الجماعة وتنوعها وأمسياتها المرحة حول العشاء الذي نحضِّره بأنفسنا.. تختلف الأذواق واللغات والثقافات بيننا نحن السبعة، لكننا نتفق في النشوة عندما نستمع إلي أغنية لأحدنا، أو نضحك علي نكتة من آخر، أو ننبهر بحكاية شعبية من ثالث، لنبدأ يومنا في الصباح بوجوه مختلفة تقف أمام حوامل الرسم صامتة بأقنعة من الجدية الصارمة، عسي أن يفيض غيث الإلهام برؤية فنية تستلفت الأنظار.
تضم المجموعة أربعة رجال من أجيال مختلفة، يمثلون سويسرا ويوغوسلافيا وبولندا ومصر، وثلاث سيدات تمثلن الولايات المتحدة الأمريكية ويوغوسلافيا وإيطاليا، وكانت الأخيرة (ناتالي) أكثرهن شبابا.. ورغم حواجز اللغة فقد كانت الانجليزية الركيكة وتعبيرات الأيدي ومرايا العيون كافية للتفاهم والتلاقي بيننا علي مساحات مشتركة.
في هذه الليلة حكيت "لناتالي" بعد العشاء تأملاتي في الغابة بإحساس ابن النيل والصحراء، محاولاً إضفاء صفات أدبية علي الطبيعة.. كانت هذه أول مرة تشاركنا العشاء ولا أعرف السبب. أبدت إهتماماً شديداً قائلة أن ذلك هو هوايتها أيضاً. دعتني لصحبتها في جولتها غدا قبل الغروب، رأيت هوايتها تلك متوافقة مع طبيعتها الميالة للانطواء، حيث تبقي في حجرتها أوقاتاً طويلة فترة اندماجنا صباحاً في المرسم المشترك. شئ ما يجذبني إليها، لعلها الغمازتان الطفوليتان علي خديها حين تبتسم، لعلها لمعة عينيها الخضراوين بتعبير الدهشة والذكاء حين تضحك. لعلها قلة كلامها إلي حد الندرة مما يضفي عليها نوعاً من الغموض. لكنني لم أُحمِّل دعوتها لي أكثر مما تحتمل، مدركاً أن سلوكها التلقائي يتسق مع ثقافتها الأوروبية البسيطة.
2
تفتحت شهيتي للرسم بعد أيام من الحيرة والبحث عن حافز للإلهام، فلم تفلح كل روعة مناظر الطبيعة في إثارتي بعد أن استهلكتْها الكروت السياحية المنتشرة في كل مكان ممتلئة بمناظر الغابات والبيوت الصغيرة ذات الأسقف القرميدية المكسوة بالجليد، في الصباح شرعت في رسم لوحة زيتية كبيرة، أستعيد فيها أجواء مصرية من الواحات ببيوتها الطينية المتوارية من هجير الشمس والغزاة، وهي تتلاصق محتمية ببعضها البعض كجسد واحد، وقرب انتهائها فوجئت بأنها تخلو من أشعة الشمس التي كانت بطلا في لوحاتي السابقة، وحل محل الضوء المبهر جو أزرق حالم تتجول خلاله العين منسابة فيما يشبه عالماً أسطورياً، وثمة جسم أثيري لفتاة برداء أبيض تطير فوق البيوت كفراشة أو روح هائمة.. أذلك من تأثير ناتالي؟
توافد زملائي الفنانون لمشاهدة اللوحة. لم أسمع كلمات انبهار أو إعجاب، لكني لاحظت طول فترة وقوفهم وتأملهم للوحة بدهشة، ثم سؤالهم عما إذا كان المكان الذي أصوره حقيقيا، وشبَّه "هوسن" البولندي جو اللوحة بالفنان شاجال، وقال البروفيسور "ألكسندر فتش".. إنها حلم يتخطي الزمان والمكان.. وقالت "دايانا" الأمريكية أنها تود لو أدعوها إلي مصر لزيارة الواحات حتي تصورها فوتوغرافيا لأن الكاميرا هوايتها الثانية. انتبهتُ إلي أن "ناتالي" لم تحضر. ترددتُ في دعوتها، ثم قلت لنفسي: سوف أسألها عند الغداء إذا كانت تود رؤيتها.
لم تحضر علي الغداء. انتابني القلق عليها وعلي نزهة الغروب في الغابة التي سيحل موعدها بعد ساعتين، ظللت جالساً في قاعة الطعام حتي انتهي الجميع وغادروها إلي حجراتهم. أخيرا رأيتها قادمة وهي أكثر إشراقاً مما كانت.. قالت بوجه متهلل قبل أن أسألها:
- اكتشفتُ كنزاً !
وراحت تحكي بحماس عن بناء قديم مهجور رأته في الجوار، وعن غرابته الأسطورية، وأبدت رغبتها في أن نذهب إليه معاً صباح الغد.
- وجولتنا في الغابة؟
اعتذرت عنها لشعورها بالتعب بعد رحلتها اليوم، وقد نقوم بها في يوم آخر. رحبتُ برحلة الغد مع شعوري بخيبة الأمل لتأجيل نزهة اليوم التي اكتشفت أنها تعني الكثير بالنسبة لي، انتظرتها حتي انتهت من غدائها الذي تناولته بشهية غير معتادة لها، ودعوتها لرؤية لوحتي الجديدة.
ظلت واقفة تتأملها في صمت معقودة الذراعين علي صدرها لمدة طويلة مُضيِّقةً عينيها، تمنيت أن ألتقط صورة فوتوغرافية لها في هذا الوضع، بالقلنسوة المخططة علي رأسها حتي تغطي الجبهة، والجاكت الثقيل "الكاروهات" (أسود في برتقالي)، إنها تصلح كموديل "لماتيس" في هذا الوضع، لكن مع طول صمتها ووجهها المقطب شعرت بالقلق. سألتها:
- ألم تحبيها ؟
انفرجت أساريرها وانتشر اللون الوردي علي وجنتيها وهي تبتسم ابتسامة كبيرة أظهرت غمازتيها، وعيناها تلمعان بضيّ أخضر، ليكتمل بهاؤها مع اجتماع الحسنيين، وفجأة طبعت علي خدي قبلة سريعة وقالت:
- هذا رأيي !
وانطلقت تجري إلي حجرتها في شقاوة، وعند الباب وقفت قائلة: تلك الفتاة الطائرة في اللوحة.
- ماذا بها ؟
- إنها أنا ! .. أنت تعرف!.. أراك غداً.
تجرأت متجاوزا حيائي وقلت:
- لم لا نلتقي وقت العشاء ؟
- لن أستطيع. سأقوم ببعض الاتصالات التليفونية ببلدي.. عشاءً شهياً لك ! تحسَّست مكان القبلة، أسفت لأنني لم أحلق ذقني اليوم، لكن روحي كانت هناك.. طائرة مع الفتاة في لوحتي !
3
في الصباح جاءت إلي قاعة الطعام متأخرة.. جلست صامتة بعد إلقاء التحية همساً، وعيناها منتفختان من عدم النوم أو من أثر بكاء. قمت وأحضرت لها الإفطار التقليدي وفنجان القهوة.
استمرت في صمتها ناظرة إلي أصابعها وهي تعبث بخاتمها دون أن تنتبه. ثم بعد لحظات وكأنها لاحظت أخيرا ما أحضرته لها قالت: شكراً ! وعادت إلي الصمت، حتي سألها أحد الزملاء بالفرنسية عن شئ فأجابت بكلمات مقتضبة لم أفهم منها شيئاً.
بدأ القلق ينهشني. توقعت أن تعتذر عن الرحلة. فوجئت بها تسألني:
- أنت جاهز ؟
- بالطبع.. وحضَّرت دفتر الرسم وبعض الساندوتشات.
لم تعلق، وقامت في صمت، ثم غمغمت وهي ذاهبة:
- دقائق وألحق بك.
بخلاف دفتر الرسم، كنت قد وضعت في جيوب حقيبتي الصغيرة التي تعلق علي الظهر بعيدا عن الساندوتشات عدة "البومات" للوحاتي وصوري الشخصية، وحرصت ألا تتضمن صوري العائلية مع زوجتي وابني.
سرنا متجاورين، نصعد ونهبط بين دروب القرية الوادعة. كانت الشمس مشرقة علي غير المألوف، والأزهار متفتحة بألوان مبهجة في كل مكان، لا تزال "ناتالي" علي صمتها. أحاول فتح موضوعات مختلفة دون جدوي.. نبهتها فجأة في مرح: هاي!
التفتتْ إليَّ مندهشة وعيناها تتساءلان. قلت:
- أين ذهبتِ؟
توقفت مبتسمة في خجل وأمسكت بيدي قائلة: أنا آسفة !
كانت يدها باردة جداً. سحبتَهْا بلطف. وَدَدْتُ لو كانت تركتْها في يدي. استدعيت كل ما أملك من شجاعة حتي استعدتُ يدها في يدي الخالية من دفتر الرسم. قلت:
- أظنكِ بحاجة إلي بعض الدفء !
سارعت بسحب يدها ووضعتها في جيب سترتها ومشت مطرقة في صمت. شعرتُ بأنني تورطت في فعل مراهق، تولاني الندم مع غضب لا أعرف مبعثه. فكرت أن أسألها عما يضايقها هذا الصباح، فإذا بها تسبقني:
- الأخبار في روما ليست طيبة.
توقفتُ عن السير متسائلاً بعينيَّ، فواصلتْ:
- صديقي...
انتظرتُ لحظات حتي تكمل. قالت:
- لا أعرف!.. أنا لا أفهمه.. حقيقة أنا لا أفهمه!.. كنا قد اتفقنا أنا وهو علي إجازة من بعضنا البعض أقضيها هنا، وعندما أعود تكون الأمور أفضل.
برغم شعوري بالصدمة لكونها مرتبطة بشخص آخر، خامرني شئ من الارتياح لحدوث أزمة بينهما، سألتها:
- وماذا حدث ؟
- لا أعرف.. يقول إن علينا أن نعيد النظر في العلاقة.
- هل تحبينه ؟
قالت بعد تفكير:
- يبدو أن هذا لا يكفي. هو نفسه قال ذلك. قال إنه سيظل يحترمني، لكن هذا - كما يقول - لا يعطيه الحق في تركه لي أستمر في حبه وهو غير متأكد من مشاعره نحوي.
- كم مضي علي ارتباطكما ؟
- ثلاث سنوات. كنا في غاية السعادة.
- ثم ؟ ...
- لا أدري. فجأة بدأتْ الخلافات الصغيره تكبر.. والتسامح يقل.. وهو يهرب.
- وأنت ؟
- مصدومة!.. كيف؟!.. لا أستطيع أن أتخيل الحياة بدونه.
فكرتُ: أهي نفس قصتي لكنها تحدث معكوسة؟
واصلتُ السير بجوارها صامتاً. لا أجد أي كلمات تخفف عنها، بدأت تبكي وهي تحاول إخفاء وجهها عني فيما تمسح دموعها. قلت أخيرا:
- لا بأس!.. إنها أمور تحدث كل يوم علي أية حال.
توقفتْ واعترضت طريقي وظلت تحدِّق في وجهي بعينين دامعتين ووجه احمرَّ حتي يكاد ينفجر منه الدم:
- إذن لا معني لكل ما كان بيننا؟.. هكذا؟.. بهذه البساطة؟
تولتني فجأة حالة من الغضب. وجدتني أقول بقسوة ضاغطاً علي الحروف:
- نعم.. هكذا بهذه البساطة.. أنت قضيت معه ثلاث سنوات.. أليس كذلك؟.. أنا قضيت معها عشر سنوات.. ولدينا طفل عمره الآن خمس سنوات.. ثم حدث مثل ما حدث معك.
هدأت قليلاً وقد أخذتها المفاجأة ثم قالت:
- أنت تركتها ؟..
- لا.. بل هي.. أصرت علي الانفصال.
- وانتهي كل شئ ؟
- نعم.. وسافرت ومعها الطفل لتعمل خارج البلد.. لم أرهما منذ سنوات.
ظللنا واقفين في مواجهة بعضنا البعض لكن وجوهنا منكسة إلي الأرض لا يجد أحدنا ما يقوله. أخيراً قالت هامسة: أنا آسفة !
عاودنا السير صامتين. فجأة توقفت قائلة:
- أتعرف؟.. نحن شبيهان. لكننا نستحق أفضل من هذا.. أليس كذلك؟
قلت بعد صمت طويل: إنها الحياة !
أمسكتْ بيدي بحرارة وعيناها في عينيَّ.. عيناها كنبعين عميقين من خضرة غير أرضية.. أغرقاني بحمام من البراءة.. قالت بحميمية:
- كم أنت إنسان رائع !
4
كُنَّا قد اقتربنا من المكان المقصود. استعادت شيئا من طفولتها وهي تجري مهللة، بقدر سعادتي كنت مندهشاً لسرعة تقلباتها، تشير إلي مبني خرب منزوع النوافذ، أقرب إلي عنبر كبير بُني بمواد سابقة التجهيز، له سقف جمالوني من القرميد. لاحظت أنه بلا باب. سألتها عن ذلك. أشارت إلي فتحة كبيرة نُزِعت الدرجات التي كانت تؤدي إليها، مما يستلزم القفز مرتين للدخول: مرة من الخارج إلي حافة الفتحة، وأخري من الفتحة إلي داخل العنبر. سبقتُها إلي القفزة الأولي وجلستُ علي الحافة. أخذتُ بيدها وجذبتها حتي جلست بجانبي، وقفزتُ القفزة الثانية إلي الداخل. وضعتُ أحمالي علي الأرض ثم تلقيت ناتالي بيديَّ الاثنين. شعرت بقربها الحميم مني وهي تضحك في جَذَل كطفلة متوردة الوجه، لكن لم يخطر لي قط أننا جسدان لرجل وامرأة بنوازع حسية.
رحنا نجوس في المكان الموحش المهجور. نسمع صوت أنفاسنا اللاهثة ، مليئين بالرهبة والخوف والإثارة. نبحث عن شئ لا نعرفه. ها هي نهاية عبثية لحياة كبيرة شهدت أحداثاً مجهولة.. وها نحن فنَّانان من أبناء القرن الحادي والعشرين يمرحان فوق ذكريات قرن مضي ! رجل في الثامنة والثلاثين وفتاة تصغره بعشر سنوات.. وحب مفقود لكليهما.. وحب آخر يبحثان عنه وسط ركام أثر من الماضي المجهول.. تساءلنا عن وظيفة المبني في ذلك الماضي.. وجدنا بقايا منه تشي بهذه الوظيفة: ماكينات خياطة عتيقة الطراز، متهالكة صدئة، هناك سلم داخلي صعدناه إلي دور ثان فوق جزء من العنبر.. علي المناضد المتهالكة وفوق الأرض صور لأزياء عسكرية بداخل براويز مهشمة.. كتالوجات ممزقة بها تصميمات وباترونات لأزياء ممرضات ورجال إسعاف عسكريين.. دفاتر حسابات وقوائم وخطابات توحي بأنها "طلبيَّات" توريد لأصناف إلي الجبهة. حاولنا قراءتها فوجدناها مكتوبة بالألمانية التي لا يعرفها كلانا.
انطلقنا نبحث عن أية أشياء قد يكون لها معني، وعندما يعثر أحدنا علي شئ يسرع إلي الآخر ليريه إياه في انتصار. حاولتُ الاحتفاظ ببعض الأشياء مُمنِّيا نفسي بأنه يمكن اعتبارها وثائق تاريخية أزهو بامتلاكها فيما بعد. اعترضت ناتالي قائلة:
- ليس من حقنا.. هذه أشياء تخص التاريخ.
- تاريخ من ؟
- أصحابها.
- من هم؟ .. وأين هم؟.. لقد أهملوها لأكثر من ستين عاماً.. وتركوها مهجورة ومتاحة مجانا لكل عابر سبيل.
- حتي ولو !.. لكنها ليست من حقنا.
جلسنا علي طرف السقف ودلَّينا أرجلنا من بين أعمدة الدرابزين في الفراغ المطل علي الدور السفلي للعنبر، ورحنا نؤرجح أقدامنا في الهواء كطفلين. قلت:
- في بلدي يمكن لمثل هذا المكان أن يوفر العمل لمئات العاطلين.. هذا لو لم يحتله الإرهابيون ويحولوه إلي مصنع للمتفجرات !
- بقاؤه بحالته تلك يعني أنه لا حاجة لأحد إليه.
- تقصدين أن الذي تعيشينه هنا مجتمع بلا بطالة.. بلا إرهاب؟
- أقصد أنه مجتمع بلا قلب.. بلا أمل !
لم أجد علاقة بين كلامي وكلامها.. أدركت مدي عمق الجرح الذي أحدثه صديقها بداخلها.
أردت أن أخرجها قليلاً من حالتها كي لا تعود إلي الاكتئاب، قلت:
- ومع ذلك فإن هذا المكان استضافنا اليوم بكرم زائد.. ألا يكفي ذلك؟
ووضعت يدي برقة علي يدها، فسحبتها بطلف. شعرتُ بحرج شديد، أردت التغلب عليه فقمت من جوارها ونزلت السلم إلي حيث تركت أشيائي. فكرت أن أريها صور ألبوماتي ثم تراجعت، تذكرت الساندوتشات فأخذتها وعدت بها إليها وأنا أجلس بجانبها، لكنها اعتذرت متعللة بأنها ليست جائعة، ثم ابتعدتْ عني قليلا. وقد استعادت قناع الصباح المكتئب.
نزلتُ وبدأتُ الاستعداد للرحيل. انتظرتها عند باب الخروج كي أساعدها في القفز، لكنها فعلت ذلك بمفردها من الداخل ثم قفزتْ إلي الخارج وحدها.
في طريق العودة سألتها:
- هل فعلتُ شيئا ضايقك؟
سارعت قائلة: لا لا.. إطلاقا.. أنت شخص لطيف.
وعادت إلي الصمت، ثم قطعته فجأة ووجهها في الأرض: أنا آسفة !
- لماذا ؟
- سامحني.. لن أستطيع !
واصلنا السير صامتين حتي مستعمرة الفنانين لا نسمع إلا صوت الجليد المجروش تحت أقدامنا، وثمة طيور تنتحب فوق أشجار بعيدة. كانت السحب الكثيفة تعتقل الشمس فتجعل المساء يحل قبل موعده ساحباً أستار الظلام خلفه. عجزتُ عن رؤية السماء من ورائه. شعرت بأنها تنطبق فوق روحي.
5
انتظرت أن أراها علي مائدة العشاء فلم تحضر. شعرت بالإهانة. ترددتُ كثيرا بين أن اتجاهلها تماما وبين أن أذهب إلي حجرتها للاطمئنان عليها. غلبني كبريائي فاخترت الأولي. قلت لنفسي إنني سوف أراها بالضرورة في الصباح، لكنها لم تحضر علي الإفطار. ازداد شعوري بالإهانة. حقا إنها أوضحت لي موقفها مني بما يكفي، فلن تستطيع أن تجعلني أحل محل صديقها الذي خذلها، لكنني لم أطلب منها ذلك. كل ما هناك أنني ظننت أننا أصبحنا صديقين، وللصداقة حق عليها، وإلا فما معني كل ما أبدته نحوي من مشاعر دافئة؟!..
عدت ففكرت أنها قد تكون مريضة، ومن واجب الصديق الاطمئنان علي صديقه، رأيت أن للفكرة منطقيتها، فضغطت علي كرامتي وذهبت إلي حجرتها وطرقت الباب عدة مرات، فلم أتلق إجابة، ذهبت إلي المسئول عن المستعمرة وسألته عنها، فقال إنها سلمت الحجرة في الصباح الباكر وغادرت، حيث اعتذرت عن البقاء لاضطرارها للسفر إلي بلدها لظرف طارئ.
جلست أمام لوحتي أحاول أن أخفي جرحي، قال دون كيشوت: شفائي معركة ! أعرف أن شفائي دائماً هو لوحة جديدة!.. خطرت لي فكرة هذه اللوحة. عليَّ أن أذهب ثانية إلي مصنع الملابس العسكرية. تذكرت الكشف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.