قديما - يقول هيرودوت - كان العراقيون يحملون نساءهم إلى الأسواق لا للتبضع وإنما للبيع. وفي ساحات بابل الكبيرة يقف النخاس وتجلس الفتيات بين يديه حاسرات الرؤوس مبديات حسنهن. وأمامهن يصطف حشد من ذوي العيون الجائعة لتبادل النكات الفجة والنظرات الماجنة. ويبدأ النخاس بالنداء على ذوات الحسن والدلال، وتقف الجاريات حسب موقعهن من الجمال، فتغادر الحلبة الحوراء والبيضاء والهيفاء والشقراء وتبقى المعطلة والعرجاء والحولاء والسوداء حتى ينصرف الجمع ويولون الدبر. الغريب في الأمر أن ذوي الفتيات يكونون من بين الحضور ليشهدوا منافع لهم، وليتفقوا على المهور ويقبضوا الثمن. فإذا حالفهم الحظ وحظوا بصيد ثمين، باركوا البيع، وإذا وقع بيضهم في سلة عريس تاجر يجيد المساومة، ويبخس الثمن، مزقوا صك العبودية وعرجوا بفتياتهم على أقرب سوق أو انتظروا موسم بيع آخر. أما المتنمرون، فيقفون هم كذلك حسب رتبهم وثقل صرر النقود في جيوبهم. فيصطفون في حلقات تضيق عند أكتاف النبلاء والأثرياء، وتتسع بين أقدام الفقراء والمعوزين. ووسط الحلق تتوزع الفتيات بين الأمل والخوف والرجاء واليأس. بين أضلاعهن ترتجف القلوب المعروضة للبيع وسط ثياب ضيقة تظهر ما خفي من زينتهن، تتمنى الواحدة منهن لو ماتت قبل هذا الخزي وكانت نسيا منسيا، وتتمنى العودة إلى بيت ألفها وألفته، وإلى ابن جيران أحبها وأحبته، لكنها لا تستطيع أن تقاوم صليل النقود في حضرة البيع، ولا رغبة أنثوية أنانية في الفوز بنداء النخاسة الأول في سوق النساء. وينفض الجمع فيعود النخاس، وهو قطعا الرابح الأكبر، بدراهمه الذهبية إلى بيوت أخرى ليمارس فتنة الإغراء والإغواء والدعاية والإعلان عن سوق آخر في قرية مجاورة تضم فتيات أرشق قواما وأكثر فتنة. ومن سوق لسوق تتنقل الفتيات المأسوف على حسنهن، لتعرضن كالبهائم أمام عيون أشد بهيمية وأكثر فقرا، حتى تمتلئ أكياس النخاس عن آخرها، فيعود إلى بيته فرحان جذلا ليفرغ حصالته في خزانته الجدارية البائسة، وليكتب هيرودوت عن أحط الممارسات البشرية التي عرفها التاريخ بحق النساء. لكن المتابع للمآسي السورية وأسواق النخاسة التي تقام على تخوم بلاد أشرقت على وجهها شمس الحضارة الإنسانية ذات يوم هناك، يرى ما هو أنكى وأشد. ولو كان هيرودوت حيا بيننا اليوم لكتب مسلسلا مكسيكيا يتناول فيه تطور أسواق النخاسة العربية، وتنقلها من قطر إلى قطر ومن ربيع إلى ربيع. فالبيع حول خاصرة الشام جار على قدم وساق في حضور أولي القربي الهاربين من القذائف والحمم التي دفع المغلوبون على قهرهم ثمنها من قوت عيالهم ذات إتاوة، فارتدت في حلوقهم ويلا وثبورا. المشهد في الأردن وتركيا والعراق نفس المشهد، وإن اختلفت تفاصيله في قليل أو كثير. ففي أسواقهم الرائجة تجلس الهاربات من الجحيم وسط حلقات مغلقة من العيون النهمة التي نسيت مروءتها فوق معابر التاريخ، فأتت مضمخة بالنفط محملة بأكياس الدراهم والشبق العربي الأصيل لتحيط بعرينا وتتلصص على اللحم الأبيض تحت ثيابنا الممزقة. وهناك يقف ولي الدم عاجزا عن الثأر والقوامة، شاهدا على موت نخوتنا العربية ووهن عظامنا المقدسة ليفتح كفيه ويفرد أصابعه لتلقي رشوة التاريخ وليعود إلى عزلته الأخيرة ملبدا بالحزن على لحوم سترها قدر ما يستطيع، وقبض ثمنها عاجزا ليكذب مقولات التاريخ عن أمة حرة تجوع ولا تأكل بأثداء نسائها. لكن الفائز هنا ليس النخاس وحده كما كان الأمر في القديم، بل القادم من القريب على صهوة طائرة خاصة أو سيارة فارهة ليشتري بخسا عري يوسف وقميص عثمان. الفائز في مسابقة اليوم يا سادتي أناس تناسوا لون جلودهم وفصائل دمائهم وحروفا في كتب التاريخ جمعتهم بأولياء الدم ذات عزة. لكنه في النهاية فوز كالهزيمة لأن الغنيمة الباردة التي طواها العربي اليوم في عباءته ستكون جمرا في حنجرته ونارا في مؤخرته يوم يكشف عن ساق. ولأن التاريخ دول، ولأن الله يداول الأيام بين الناس، نخشى أن تدور الدائرة القميئة ليستمر مسلسل النخاسة العربية حتى يطال كافة ثيابنا المقدسة ويعري كافة لحومنا المصانة حتى حين. **أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.