. لحظة حان الموعد ، كان في الميدان منزرعا ، عيناه كالرادار تمسحان الميدان ، فقط لا يشعر بكل ثانية تمر ، بل بأقل من الثانية ، فالوقت ممتد طويل ، ولا يكره شيئا في الدنيا غير الانتظار ، إذ عندما ينتظر ، تنفلت المعايير ، وتصبح الثانية ، بل الجزء منها ، ساعة ، شهرا ، قرنا . لا يكاد يصدق أن ما تراهن زملاؤه على عدم حدوثه ، سوف يتحقق ، أخيرا ، ما هي إلا لحظات وتأتي ، ربما يذهبان إلى كازينو ، كازينو مرة واحدة ، بل ربما يتأبطها ، أو تتأبطه ، أو يمسك بكفيها ، وهما جالسان يشربان ليمونا مثلجا ، عليه من الخارج قطرات من الندى . مستغرقا يهذي ، أهو ذلك الإنسان الذي انتفض فجرا ، يفتش عن أشياء لم تكن تعنيه من قبل : مكواه ، طلاء أحذية ، رابطة عنق متهرئة ، منديل ، شفرة حلاقة ، معجون أسنان ، ملقاط صدئ ، بقايا عطر قديم . لم يظهر على شاشة عينيه ما يسرع من نبضات قلبه ، الخوف بدأ يتسرب إلى نفسه ، أن تفشل أولى محاولاته في الحب ، لقد سمع عنه ، تمناه ، لكن حياته لم تألف البسمة طيلة ما مضى ، فأبوه مات وهو طفل ، كما سمع من أمه ، في الحرب ، تاركا وراءه كومة من اللحم ، وأما لا تعمل ، تحاول بكافة الحيل أن تسد احتياجاتهم ، مما تأخذه من معاش ، وما تنتجه ماكينة حياكتها ، وما يلملمه أولادها من عملهم في الإجازة الصيفية . فترة صمت أطبقت على رأسه ، فيها لا يفكر في شيء ، خيبة أمل حينما واجهها ، ضحك من أعماق نفسه على نفسه ، شعر بذنبه ، بخيانته لأمه ، ولإخوته ، تأكد أنهم في حاجة إليه ، إلى ما في جيبه من قروش قليلة . لحظة أن قرر مغادرة المكان ، رأى الميدان ، أمامه بالضبط ، طابور طويل ، متلاحم ، متلاطم ، أصوات تتعالى ، تنادي ، تستجدي ، تشتم ، تصرخ ، أناس تجري ، تخفي أشياء ، صياح ، شجار ، شلالات عرق ، تلاشت رائحة العطر القديم ، تلاحم في الطابور ، تذكر أنهم محرمون منه ، منذ مدة طويلة ، ببطء يزحف صوب منفذ البيع ، امرأة بالشبشب تضرب رجلا كان واقفا وراءها ، موظف محترم يصرخ كالعيل ، يسائل الناس عن حافظة نقوده ، استماتت يده على جيبه ، أناس تأخذ ما تحتاجه من شباك جانبي ، تخفيه في عربة ملاكي وتطير ، تعرف على أسباب عدم تمكن أمه من شرائه ، صبية تعرضه بأزيد من التسعيرة ، امرأة قلقة مستعجلة ، استأذنت رئيسها في العمل ، أخرى حامل يصرخ جنينها ، رجل مبتور الساقين ينفذ من بين الأفخاذ ، يدعو له ألا يذوق طعم الحرمان ، تلقف بعد جهاد بعضا منه ، دسه في معطفه ، وانخلع من الطابور. في المساء ، بعد أن أكل وسط إخوته وأمه منه ، وشبع ، ونظف بين أسنانه ، وتوضا ، وصلى ، وركن ظهره إلى الحائط الأجرب ، ورشف رشفة من الشاي الحبر ؛ لم يستطع أن يقرر حقيقة وبجزم : أكانت هي التي لمحها ، تقف على مقربة منه في الطابور أم لا ؟