بقلم ضياء حسني يتعجب الكثيرون من أطلاق البعض الرصاص علي العزل, و حصد الأرواح بلا أي تأنيب ضمير و كأنهم عصافير علي جذع شجرة, و أن كان هذا حتي يتطلب قدرا كبيرا من الوحشية لكن الذي لا يعرفه الكثيرون أن هؤلاء هم قتلة بالفطرة دربوا علي أن القتل أمر عادي بل هو فعل وطني أو بطولي غرست فيهم روح القتل حتي قبل أن يطلقوا طلقة واحدة. هذا ما حول ستاني كوبيرك شرحه من خلال فيلمه الرائع عن حرب فيتنام ' خزنة مليئة بالرصاص'. هو فيلم كوبريك الوحيد عن حرب فيتنام صوره في ضواحي لندن عام1987 بعد أن كان ترك الولاياتالمتحدة منذ عشرين عاما( وحرب فيتنام علي أشدها) كوبريك يعمل وفقا لشعار وحيد دائم' الحقيقة لا تظهر ألا للشخص الذي يعيد تكوينها وخلقها قطعة قطعة', انه ليس فيلما عن حرب فيتنام رغم اشتراك اثنين من محاربي فيتنام كمستشارين في كتابة السيناريو. فكوبريك لم يخلق قطبية بين الشر و الخير تجعل المتفرج يتعاطف مع أي شخصية في الفيلم علي حساب شخصيات أخري, كما انه يتجاهل أي تلميحات أو خلفيات سياسية لتلك الحرب, ولا يغوص في أثار الهزيمة النكراء علي روح الجنود والشعب الأمريكي بعد فيتنام. كما انه لا يقدم إعلان نوايا لضمير أمريكا المعذب بعد جرائم تلك الحرب الشنيعة. لم يقدم كوبريك فيلما استعراضيا عن الحرب, فهو حتي لم يقدم الكليشيه المعروف عنها, فنحن لا نجد في الفيلم لا معارك في الغابات ولا قنابل نابالم حارقة ولا ماريجوانا يدخنها الجنود الأمريكيون, بل معارك في الشوارع المحطمة, وهو الشيء الأكثر شيوعا في أفلام الحرب العالمية الثانية عنه في أفلام الحرب الفيتنامية. فتناول الحرب الفيتنامية من قبل كوبريك لا يشبه تناول من سبقوه, وبالذات أوليفر ستون في أفلام مثل( ولد في الرابع من يوليو الفصيلة) أو فرانسيس فورد كوبولا( نهاية العالم الآن) اومايكل شيمينو( صائد الغزلان), فتلك الأفلام تدفع المتفرج دفعا لتبني وجهة نظر' الأبطال' من الجنود, وذلك عبر التعليق من خارج الكادر أو قراءة خطاب مرسل أو مذكرات احد الجنود في حين أن التعليق في' خزنة مليئة بالرصاص' يؤدي دوره في تحديد الموقع الجغرافي و العد الزمني. كوبريك يوضح من خلال الفيلم أن العنف موجود في قلب الدولة و النظام نفسه, ليصبح عنفا مؤسسيا سبق أن أشار إليه مرارا في أفلامه السابقة, وهو يوجه أصابع الاتهام أيضا إلي آلة الدعاية التي تروج للخطاب السياسي الإيديولوجي للسياسيين و العسكريين. من هنا كان ظهور فريق التليفزيون في فيتنام لنقل أخبار عن الحرب فقد ولد آلة الدعاية الإيديولوجية مع حرب فيتنام.. أراد كوبريك في هذا الفيلم فضحا جديدا للعسكريين, ولكن هدفه هنا ليس الآلة العسكرية أو النخبة من العسكريين بل الجنود وقواد الحرب, فهو يري أن هؤلاء ليسوا ضحايا أبرياء أو كما يقول: ما الفرق بين الجندي و المجرم ؟ في الجزء الأول من الفيلم يقدم كوبريك العذاب الذي يلاقيه الجنود أثناء فترة التدريب تحت قيادة سيرجنت شديد القسوة إلي حد الجنون وفي الجزء الثاني يعرض سلوك الجنود في ارض المعركة بفيتنام, والتي يتضح منها كيف أصبح هؤلاء الجنود أناسا آليين مبرمجين للقتل. في الجزء الأول نشاهد معسكر التدريب الذي يخلق داخلنا الإحساس بأننا أمام سجن أو مستشفي للإمراض العقلية. سيرجنت التدريب شبه المجنون يذكر مثالا لأهم جنديين في تاريخ مشاة البحرية الأمريكية: أحدهما' لي هارفي اوزوالد'. قاتل كنيدي بطلقة واحدة من علي بعد500 متر, و الثاني هو الجندي المجنون الذي قتل العشرات من الأبرياء من موقعة المتحصن به في برج جامعة تكساس.. هذا الفصل التعليمي لجنود المارينز يسعي لخلق طاقة من العنف داخل الجنود الجدد ليتحولوا إلي آلة قتل. ' الجيش ليس به رفيقات'? هكذا يقول لهم المدرب, ورفيقتك الوحيدة هي مدفعك( الm16) فيجب ان تعطيه اسم امرأة وتأخذه بين أحضانك أثناء النوم' بما في ذلك من نظرة شديدة الاحتقار للجنس الأخر. الجندي' ويل' شديد السمنة شديد الطيبة وقد يكون شديد السذاجة أيضا.. يتعرض زملاؤه في العنبر للعقاب الجماعي لما يرتكبه من أخطاء( قانون الجيش: السيئة تعم و الحسنة تخص) فيضربونه في الليل عقابا له. ' ويل' ينهار ويبكي, فيصرخ فيه السيرجنت:' كيف سمحت لنفسك بالانهيار'. يتحطم' ويل' وينتحر عن طريق إطلاق مدفعه ال(m16) في فمه. الجزء الثاني من الفيلم رحلة إلي جهنم مع كوبريك حيث الحرب والمجازر و القرارات التي تتخذ من قبل دمي بعيدة عن ارض المعركة ولا تفقه شيئا وتكسر كل القيم التي تدعي أنها جاءت إلي فيتنام للدفاع عنها. في جهنم فيتنام, الجنون عام و لا حدود له.. المدافع الرشاشة تنطلق من الطائرات الهليكوبتر علي كل ما يتحرك أسفلها علي الأرض( نساء, أطفال, عجائز) دون أن يبدي احد أي اعتراض.. الجنود الأمريكيون في وحدة عسكرية تسمي' رعاة البقرة' يسخرون ويقيمون حفلا حول جثة جندي فيتنامي شاب. نتعرف أكثر علي شخصية' جوكر', أحد أعضاء فريق الجنود الذي كان يتلقي التدريبات في المعسكر تحت إمارة السيرجنت المجنون.' جوكر' لا تخدعه دعاية النظام, فهو أكثر صلابة من' ويل' المنتحر, ولكنه لا يعترض ويهرب داخل صمته وسخريته, نموذج حي لشيزوفرينيا المثقف, فهو يضع علي زيه الرسمي علامة السلام ولكن علي الخوذة شعار المارينز( ولد قاتلا) ؟ ' هذه هي ازدواجية النفس البشرية' هكذا يقول جوكر عندما يعلق احد أفراد القيادة علي' جوكر' و خوذته حيث الشعاران المتناقضان, فهو يلجا للسخرية كوسيلة للهرب من جنون الواقع. وعندما يوقع الجنود بالقناصة التي بث الرعب في قلوبهم, يكتشفون انها ليست سوي فتاة صغيرة, ويتلقون الأوامر بتركها تتعذب وتنزف حتي الموت, ولكن' جوكر' يقتلها.. هل رحمة بها, أم لأنه كان يود وضع حد لعذابات حيوان يتألم, أم لأنه يود أن يعامله الأعداء بنفس الطريقة ؟ لا نعرف, يتركنا كوبريك نستنتج ذلك بأنفسنا. ' جوكر' يستمر في جهنم الحمراء تلك بنفس شروطها, وهو يغني أغنية' ميكي ماوس'' اعلم أنني في عالم من النفايات, ولكنني مازلت علي قيد الحياة ولست خائفا'. قال كوبريك كلمته عن حرب فيتنام موضحا أن المؤسسة العسكرية الأمريكية تنجح في تحويل البشر إلي قتلة قبل أن يطلقوا الرصاص علي احد. تؤهلهم لتقبل تصفية الآخر و تحويل القتل إلي بطولة و إجادة في العمل بلا محاسب, بل مع المزيد من التهنئة و التكريم, حينئذ يكون التنفيذ مجرد تفاصيل لأن الأهم قد تم التدريب عليه من قبل.... القتل بدم بارد. كاتب وناقد فني بالاهرام